مقالات

رحمانيات ربانية- الشُكْر والوصْل (27) (3)- أ. المنتصر بالله حلمي أحمد الأغا

بسم الله الرحمن الرحيم

( رحمانيّات ربانية )

( 27 )

الشُكْر والوصْل
(3)


اللهم لكَ الحمد وأفضل الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يتم علينا نعمة الهدى والبر والإحسان ، أنه السميع العليم المجيب .

الرحِم في اللغة هو موضع تكوين الجنين ووعاؤه في البطن . والرَحِم هم : القرابة أو أسبابها ، والأرحام أو ذوو الأرحام هم الأقارب الّذين ليسوا من العصبة ولا من ذوي الفروض كبنات الأخوة وبنات الأعمام . والرَحِم الذي أمرنا الله تعالى بِوَصْلـِهِ إنَّما رحمةً بعباده المؤمنين ، والرَّحِم هم كل قرابة تصل المرء ، وهم أهله وذويه وأخوته وقرابته من أعمام وأخوال وعمّاتٍ وخالات ، تربطهم به صلة الدم والقرابة وأسبابها البعيدة كانت أو القريبة . ورَحِمَ : تعني دعا له بالرحمة ، وتراَحَم القوم : تعني رحم بعضهم بعضاً ، وترَّحَمَ عليه : تعني رَحِمَهُ ودعا له بالرحمة ، واسترحَمَهُ تعني : سأله الرحمة ، والرحمن والرحيم : من أسماء الله الحُسنى جلَّ شأنه وهما اسمان رفيقان ، وهي أوصاف مقصورة على الله عزَّ وجلَّ ، ولا يجوز أن يُقَال أو يُنادَى أو يسمى بها غيره عزَّ شأنه ، ونجد في القرآن الكريم أن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة .

من المفارقات الربانية أن الله تعالى أوصى في القرآن الكريم الولد بوالديه ، وكذلك نجد تلك الوصايا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السُنّةِ النبوية الشريفة ، ولم نجد وصيّة للوالدين بأولادهم بالبرِّ والشكر وخفض جناح الذلِّ والرحمة . ومثال على ذلك قوله تعالى في سورة الأحقاف:‘‘ وَوَصَّيْنَا الإنسانَ بِوالِدَيهِ إحسَانَاً حَمَلَتْهُ أُمُهُ كُرْهَاً وَوَضَعَتهُ كُرْهَاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثونَ شَهْرْاً حَتَّى إذَا بَلَغَ أشُدَّهُ وَبَلَغَ أربَعِينَ سَنَةَ قَالَ رَبِّ أوزِعنِي أن أشْكُرَ نِعْمًتِكَ التِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى وَالِدَيَّ وَأنْ أعمَلَ صًالِحاً تَرضَاهُ وَأصلِحْ لِي فِي ذُرِيَّتي إنِي تُبتُ إلَيكَ وَإنِّي مِنَ المُسلِمِيِنَ ’’ . وآيات الشكر في القرآن الكريم اثنتان ، تلك هي الأولى أمَّا الثانية فهي قوله تعالى في سورة النمل على لسان نبيّ الله سليمان عليه السلام:‘‘ فَتَبَسَّم ضَاحِكَاً مِنْ قَولِهَا وَقَالَ ربِّ أوْزعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعمَتِكَ الَّتِي أنعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى والِدَيَّ وَأنْ أعْمَلَ صَالِحَاً تِرضَاهُ وَأدْخِلنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19)’’ ، ويقول الله تعالى في سورة النساء:‘‘ وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئَاً وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسِانَاً(35)’’ ، وهنا نجد أن الله تعالى ربط عبادته والنهي عن الإشراك به مع الإحسان إلى الوالدين من أجل بيان أهمية الإحسان للوالدين وبرّهما . وعن سيّدنا يحيى عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى في سورة مريم آية (14):‘‘ وَبَرَّاً بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارَاً عَصِيّاً ’’ . وعلى لسان سيّدنا عيسى عليه السلام في سورة مريم آية (32):‘‘ وبّرَّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارَاً شَقِيَّاً ’’ . وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :‘‘ رَغِمَ أنف ثم رَغِمَ أنف من أدرك أبويه عند الكبر أو كلاهما فلم يدخل الجنة ’’ ، ورَغِمَ : أي ذُلَّ ودُسَّ في التراب . وقال أيضاً صلّى الله عليه وسلّم:‘‘ صلة الرحم منجاة للولد مثراة للمال ’’ . ويُروَى أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام :( يا موسى إنّهُ من برَّ والديه وعقني كتبته بارّاً ومن برّني وعقَّ والديه كتبته عاقاً ) .

ومن أسباب سعادة المرء المسلم في الدنيا والآخرة وصلِهِ لوالديه وأحبائهما وأهله وذويه ، يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :‘‘ لا تقطع من كان يصل أباك فتطفئ بذلك نورك فإن ودّك ودُّ أبيك ’’ . ومعنى ( فإن ودّك ودَّ أبيك ): أي أن من أحب الأب وصادقه لله تعالى ومحبّة فيه فسيكون وداً للابن محبةً وإخلاصاً ووفاءً لوالدهِ . وفي الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:‘‘ إن أبرّ البرّ أن يصل الرجل ود أبيه ’’ ، أي أن يعطي ويصل من كان أبوه يعطيهم ويصلهم ويصادقهم قبل وفاته . أما من ماتت أمّه فينادي الملك في السماء:( يا فلان لقد ماتت التي كانت يرحمك الله من أجلها ) .

وورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه:[ أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمارٌ يَتَرَوّح عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة ، وعمامة يشدُّ بها رأسه ، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار إذ مرَِّ به إعرابي ، فقال: ألست فلان بن فلان ، قال : بلى ، فأعطاه الحمار ، فقال : اركب هذا ، وأعطاه العمامة وقال : اشْدُد بها رأسك ، فقال له بعض أصحابه : غَفَرَ اللهُ لكَ أعطَيْتَ هذا الأعرابي حماراً كنت تروح عليه وعمامة كنت تشدُدْ بها رأسك ، فقال : إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول :( إنَّ أبرَّ البرِّ أن يصل الرجل أهل ودَّ أبيه بعد أن يوَّلي وإن أباه كان صديقاً لعمر رضي الله عنه ] .

وجاء في الطبراني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:( جاء رجلٌ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله إن أبي أخذ مالي ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للرجل: ‘‘ فأتِنِي بأبيك ’’ ، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:( إن الله يقرئك السلام ويقول لكَ إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سَمِعَتْهُ أذناه ) فلّما جاء الشيخ قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم :‘‘ ما بال ابنك يشكوكَ أتـريد أن تأخذ مالهُ ’’؟ فقال: سَلْهُ يا رسول الله أنفقه على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي ! ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:‘‘ إيه ، دعنا من هذا ، أخبرني عن شيء قلته في نفسكَ ما سمعته أذناك؟ ، فقال الشيخ : والله يا رسول الله ما زال الله عزَّ وجل يزيدنا بك يقيناً ، لقد قلت في نفسي شيء ما سمعته أذناي )؟ ، قال: ‘‘ قُل وأنا أسمع ’’ ، قال: قلتُ:

غَذَوْتُـكَ مولـوداً ومِنْ ْتُكَ يافعاً تَعُـلْ بما أجنـي عليكَ وتَنهَلُ
إذا ليلةَ ضافتكَ بالســـــــــقم لم أبَت لِسقَمِكَ إلاَّ سـاهراً أتملمَــلُ
كأنِّي أنا المطروقُ دونكَ بالذي طُرَقتَ بهِ دوني فَعيْني تهمـل
تخاف الردى نفسي عليكَ وإنّها لتعلمَ أن الموتَ وقتٌ مؤجـلُ
فلّما بَلَـغْتَ الســنَّ والغايةَ التي إليها مدى ما كنتَ فيه أُؤمَـلُ
جَعَلتُ جَزَائِــي غِلظَـةً وفظــــــاظةً كأنَّـكَ أنــتَ المُنعِـمُ المُتَفِضِّـلُ
فَلَيْـتَكَ إذْ لَمْ ترع حقَّ أبوّتـــي فَعَلْتَ كما الجار المصاقِب يفعلُ
فأوْلَيْتَني حقّ الجوار ولَمْ تـَكْن عليَّ بِمــالٍ دون مـالكَ تَبخَـلُ



قال: فحينئذٍ أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بتلابيب ابنه وقال:( أنتَ ومالك لأبيكَ ).

ورُويَّ عن بعض الصحابة رضي الله عنهم قولهم:( تَرْك الدعاء للوالدين يُضيِّق العيش على الولد ويبعد عنه التوفيق في حياته ، ومن أسـباب التوفيق والرزق والسعادة في الدنيا رضا الوالدين أما عن الآخرة فقيل أن رضا الرب في رضا الوالدين ، وسخط الرب في سخط الوالدين) .

أسأل الله تعالى السلامة وأن يجعلنا وذريّاتنا من البارّين ، وأسأله تعالى أن يرحم كل والد ووالدة في الحياة والممات ، وأن يرحم والديَّ ويرفع درجاتهما في أعلى عليين في الفردوس الأعلى مع النبيين والصدّيقين وحَسُنَ أولئك رفيقاً ، وأن يلهمنا دائماً أن نكون من الأبرار والبارين والواصلين ، وأن يرحم ويغفر لمن كان سبباً في هذه الرحمانيّات الربّانية ويجعله في عليين ، اللهمَّ آمين . وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين .

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على أ. المنتصر بالله حلمي أحمد الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد