مقالات

المناضل منير الريس.. قلب متوهج بعشق فلسطين- نبيل خالد الأغا- الدوحة


الدوحة - قطر
نشر السيد نبيل خالد الاغا مقالاً مطولاً في صحيفة الوطن القطرية يوم الاحد 25 من سبتمبر 2011 بعنوان:
منير الريس قلب متوهج بعشق فلسطين وتضمن المقال معلومات تنش للمرة الاولى عن رئيس بلدية غزة الأسبق الذي ولد في غزة عام 1915 وتوفي فيها في العام 1974 بعد رحلة نضالية شاقة ومشرقة امتدت 59 عاما.
وفيما يلي نص المقال:

تمهيد:
نشرت صحيفة الوطن في عددها الصادر بتاريخ 25-5-2011 مقالا لافتا للصديق الأديب حسن شكري فلفل المقيم حاليا في كندا بعنوان «غزة.. شموخ وعزة ورجال» اشار فيه إلى أنه حضر منذ فترة زمنية بعيدة جلسة ضمت عددا من رجالات غزة في مجلس المرحوم منير الريس رئيس بلدية غزة الاسبق الذي أشار بوجوب أن يتفرغ باحث لتسليط الضوء على الأعلام المعروفين في غزة، موضحا ان من أبنائها كثيرين من اصحاب الفضل في العلم والثقافة والاقتصاد والسياسة.

وظلت هذه الفكرة حية في خاطر الصديق الاستاذ فلفل، ولم يتيسر تنفيذها على أرضية الواقع، ولما أعياه المسير استنهض عزيمتي في نهاية المقال بقوله حرفيا «.. ولأن الفكرة جديرة بالتنفيذ، وأعرف عن يقين ان من أبناء غزة الباحثين المتمكنين من يستطيع تنفيذها، فإنني أمررها للصديق الاديب نبيل خالد الأغا فهو في اعتقادي أحد القلائل القادرين على عمل وطني ومسؤول كهذا العمل».

وقد وفقني الله تعالى بكتابة هذا المقال عن الزعيم الوطني منير محمد الريس رئيس بلدية غزة الاسبق، ليكون فاتحة الجزء الثاني من كتابي «وجوه فلسطينية خالدة» الذي صدر الجزء الاول منه في بيروت عام 2002 والله ولي التوفيق والسداد.

جذور عائلة الريس

يعود تاريخ ولقب عائلة الريس الى الجد الاصغر «الريس سليمان الحكيم» المتوفى عام 1063هـ / 1652م بمدينة غزة.

وتنحدر العائلة من البيت الهاشمي المكي كما تدل على ذلك وثائق وحجج المحكمة الشرعية في القدس العائد تاريخها الى الفترة التاريخية الواقعة بين عامي 1124 و1162هـ.

وحينما كان يذكر الرجل منهم في الوثائق الرسمية، كانت تسبق اسمه عبارة لازمة وهي: «فرع الشجرة الزكية، وطراز العصابة (الجماعة) الهاشمية». اي فرع الشجرة النبوية الزكية، ونسل البيت الهاشمي الشريف.

هذا ويرجع أحد الباحثين من أبناء العائلة اقامة ووجود عائلته متصلا في مدينة غزة الفلسطينية الى نحو خمسمائة عام بمقتضى التدوين الوثائقي المسجل، وتقيم الاكثرية منهم في المدينة ذاتها، بينما تتوزع الاقلية في دول عربية وأوروبية وأميركية، ويوجد جزء منهم في السودان«1». وارتبطت العائلة بروابط مصاهرة ونسب مع عائلات فلسطينية مرموقة بمجملها.

ومن انسباء آل الريس القدامى والمحدثين: آل رضوان، مكي، المؤقت، الغصين، النخالة، عرفات القدوة، العلمي، ابوالهدى، التاجي الفاروقي، الخيري، الحسيني، الشهابي، شعث، شراب، الأغا، زين الدين، الخطيب، شتا، وغيرهم.

صاحب السيرة

سمعت عنه، وقرأت له، وتأثرت به، شاهدته عن بعد قبيل أن ألتقيه عن قرب، وأتحدث معه بود مشوب بالخجل لفارق العمر والمكانة الاجتماعية، وقد أكسبه خالقه تبارك وتعالى مؤهلات الزعامة والريادة: جسما ممشوقا، وطلعة بهية، وهنداما لائقا، وسمتا جذابا يكسبه جلالا ومهابة، اضافة الى فكر منير مستنير، اذا تحدث يجذبك حديثه بقوة مغناطيسية متمثلة باختيار دقيق للالفاظ، ونطق سليم لمخارجها، وثقافة عالية تنبئك عن شخصية ذات كفاءات متعددة، وهذه ـ لعمري ـ صفات محببة اورثها عمنا الراحل منير محمد الريس رئيس بلدية غزة الاسبق الى ابنيه الصديقين الغاليين: ناهض وماهر، وربما اورثها البنات والاحفاد والحفيدات.

عرفته الجماهير الغزية اداريا مبرزا، وخطيبا مفوها، وكاتبا وصحفيا مرموقا، وزعيما وطنيا نزيها لا يهادن ولا يساوم على حق من حقوق وطنه ومواطنيه

والده الحاج محمد طاهر الريس أحد أشهر رجالات غزة في مستهل القرن العشرين، كان نائبا لرئيس البلدية ومشهودا له بالتقوى والصلاح والكرم والتواضع الجم، والدته السيدة بهية الحسيني من فضليات المجتمع الغزي منحدرة من العائلة الغزية المقدسية الشريفة، وشقيقها الشهيد احمد عارف الحسيني الذي اعدمه السفاح التركي جمال باشا في ميدان عام بالقدس مع نجله الضابط الشهيد مصطفى الحسيني بسبب مواقفهما الوطنية المشرفة.

أطل صاحب السيرة منير الريس على الدنيا في عام 1915، وظهرت تباشير نجابته ونبوغه في مراحل الدراسة الاولية في غزة، وأكمل دراسته العالية في كلية «عاليه» الوطنية بلبنان، وقد تأثر بشخصية استاذه بالكلية المفكر اللبناني وفارس اللغة العربية مارون عبود احد رواد الحركة القومية العربية في بلاد الشام بمفهومها التاريخي الشامل.

وبعد تخرجه عمل منير في مقتبل شبابه ببلدية غزة، حيث كان يعمل والده وشارك مع ابناء جيله يومئذ في ثورة فلسطين الكبرى التي انطلقت شرارتها في عام 1936، وامتدت حتى عام 1939 بداية الحرب العالمية الثانية، وارتبط بالتنظيم الوطني الشبابي الذي كان يقوده الشهيد البطل عبدالقادر الحسيني 1908 - 1948 والذي كان يهدف الى اقامة وحدات مقاتلة وتزويدها بالسلاح لمقارعة دولة الانتداب البريطاني، والعصابات الصهيونية الارهابية المسلحة.

كما اسس وترأس منير «نادي الشباب العربي» في غزة الذي ضم لفيفا من الشبان الوطنيين المتحمسين في المدينة، وكان النادي بؤرة لنشر الوعي الرياضي والوطني والثقافة الجهادية.

في عام 1945، اعلنت حكومة الانتداب عزمها اجراء انتخابات للمجالس البلدية في مدن فلسطين الرئيسية، فرشح منير نفسه ونجح فيها بامتياز باحرازه المرتبة الثانية في عدد الاصوات وأصبح عضوا في المجلس البلدي، ثم اضحى فيما بعد نائبا للرئيس، فيما تقلد المرحوم رشدي الشوا منصب الرئيس«2».

وعشية حرب فلسطين عام 1947 حقق منير خطوة متميزة بتوليه مسؤولية القائد العام لمنظمة الفتوّة في غزة، وشارك مع اعضائها مهمة الدفاع عن المدينة قبيل دخول الجيوش العربية الى فلسطين، وجاء ذلك التشكيل انسجاما مع تشكيل منظمات فتوة اخرى في مدائن وقرى فلسطين وذلك بناء على توجيهات الهيئة العربية العليا التي كان يرأسها المرحوم الحاج محمد امين الحسيني (1895 - 1974).

النشاط السياسي لمنير الريس بدأ فعليا قبل نكبة 1948، وذلك من خلال مشاركته في الحركة الوطنية، ووقوفه الى جانب المناضل المرحوم فهمي الحسيني مرشح التيار الوطني وممثلا للحزب العربي في مواجهة حزب الدفاع الذي كان يرأسه المرحوم رشدي الشوا رئيس البلدية، والذي استمر يمارس مهامه الرسمية حتى عام 1952 حيث اقيل من منصبه اثر ثورة 23 يوليو في مصر، فيما تم تكليف المرحوم الشيخ عمر صوان عام 1953 برئاسة البلدية لفترة محدودة«3»، ومنير الريس نائبا للرئيس.

وقد شهدت تلك الفترة الرمادية تجاذبات سياسية، وتناحرات عائلية نحمد الله تعالى انها مضت الى غير رجعة في ظل الوعي السياسي والديني والوطني الذي تنامى في عيون وعقول وقلوب المواطنين الفلسطينيين بعد تلك الحقبة. وكانت عائلتا الشوا والريس تتقاسمان النفوذ في المدينة في القرن الماضي.

في عام 1955 تقلد الريس رئاسة البلدية فكرس جهده كله لخدمة المواطنين، وانشاء المشاريع التي تهم المواطن الغزي في اعمار المدينة بمختلف مرافقها الحيوية، وتتمثل اهم انجازاته خلال فترة رئاسته في شق شارعي الوحدة وجمال عبدالناصر.

وفي تلك الاثناء أصدر صحيفة «اللواء»، ثم صحيفة «الجهاد المقدس» التي حملت اسم الجيش الذي تولى قيادته عبدالقادر الحسيني قبيل النكبة، ومن خلالهما ومن بعدهما مجلة «نداء العودة» الشهرية، وكان يدعو المواطنين واللاجئين لمحاربة المشاريع الاستعمارية المشبوهة الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية ومن أبرزها توطين اللاجئين في شبه جزيرة سيناء، وقد جوبه ذلك الطرح برفض مطلق من كافة الشرائح الوطنية مواطنين ولاجئين، ورافق ذلك الرفض العارم مظاهرات صاخبة امتدت من رفح جنوبا الى بيت لاهيا شمالا، وتم احراق العديد من السيارات والمنشآت التابعة لهيئة الامم المتحدة لاغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الانروا)، وكذلك احراق بعض سيارات الجيش المصري، وتم على اثر ذلك اعتقال المئات من الشبان الفلسطينيين من مختلف الاطياف السياسية، اخوان مسلمين، شيوعيين، بعثيين، يساريين، قوميين عرب، مستقلين، وخضعوا لتحقيقات مكثفة، وتعرض الكثيرون منهم للتعذيب الجسدي والمعنوي في سجون قطاع غزة ومصر خاصة في سجن «ابوزعبل» سيئ الذكر، بينما حُدّدت اقامات اعداد منهم، ومنعوا من مغادرة القطاع.

«ويبدو ان الحكومة المصرية لم تكن تعارض في الامر»«4» كما يقول احد المحللين خاصة ان اميركا كانت تسوق لمشروع ملء الفراغ في الشرق الاوسط في ذلك الوقت.

كان منير الريس احد ابرز الشخصيات القيادية السياسية التي ساهمت في التعبئة الجماهيرية ضد المشروع متجاوبا مع نبض الشارع الفلسطيني.

وقد ضاعف من ضراوة تلك الاحتجاجات اللاهبة اعتداءات اسرائيلية متكررة على مدن وقرى القطاع والتي بلغت ذروتها في قصف مستشفى الشفاء، في قلب مدينة غزة بمدافع الهاون، وسقوط عشرات الضحايا من المدنيين الابرياء، وكذلك مجزرة «بئر الصفا» التي راح ضحيتها عشرات آخرون. وتزامن ذلك أيضا «وأنا هنا أسجل من اعماق الذاكرة وكنت شاهد اثبات» مع استشهاد ثمانية وثلاثين عنصرا من الحرس الوطني الفلسطيني كانوا قادمين من خان يونس جنوبا في شاحنة عسكرية لنجدة اخوانهم في غزة، فوقعوا كلهم في كمين يهودي محكم عند تقاطع محطة سكة حديد دير البلح حيث كانت توجد نقطة تفتيش فلسطينية.

ومما ساعد على تأجيج الغضب الجماهيري الاعتداء الاثيم والمشبوه الذي تعرض له مركز شرطة خان يونس «السرايا»، الذي طوقته احدى عشرة دبابة اسرائيلية تسللت اليه عشاء في الحادي والثلاثين من شهر اغسطس عام 1954 ولغمته بالمتفجرات شديدة الانفجار فتهاوى على من فيه من العسكريين والمدنيين، ولم يمسس السوء جنديا صهيونيا واحدا ولا دبابة صهيونية واحدة، وقفلت القوة الاسرائيلية راجعة الى ثكناتها التي تبعد عن الهدف الفلسطيني أكثر من عشرة كيلومترات مخترقة عدة قرى وتجمعات فلسطينية منها بني سهيلة وعبسان وخزاعة ولا يتسع المجال لمزيد من التفاصيل والشكوك والآهات!!

وأضحت الادارة المصرية في القطاع في وضع حرج لا تحسد عليه، وبات استقرارها فيه مهددا ومحفوفا بالمخاطر، «وهنا لعب منير الريس دورا في ضبط تطور الاحداث، فأظهر حرصا على استمرار الادارة العربية في القطاع دورا يوازي حرصه على تسليح الجماهير، وحماية الحدود، وصد الاعتداءات، فأطلق دعوته لتشكيل جيش فلسطيني، مؤكدا على ضرورة الحفاظ على الشخصية الفلسطينة، ودور غزة في الحفاظ على هذه الشخصية»«5». وقد أثمرت هذه الجهود وغيرها على تحقيق هدفين مهمين تمثل أولهما في عقد صفقة الأسلحة التشيكية التاريخية الى مصر، بينما تمثل الهدف الثاني في اطلاق السلطات المصرية الحاكمة في القطاع ايدي الفدائيين الفلسطينيين ضد اسرائيل، الذين اثاروا الذعر والهلع في اسرائيل، وأعادوا التوازن النفسي للمواطن الفلسطيني، ويعود فضل تدريبهم وإعدادهم الى الضابط المصري البطل مصطفى حافظ الذي اغتالته اسرائيل بعدئذ اثر فضه طردا بريديا ملغما في مقر قيادته في غزة.

وقد ساعد هذا النجاح في ارتفاع شعبية منير الريس في الشارع الفلسطيني، وتكرس وضعه زعيما وطنيا فلسطينيا في القطاع، وقد أهّلته شخصيته القيادية البرغماتية، وتلمسه لحاجات مواطنيه وتفانيه في خدمتهم للتسلل بهدوء وروية الى قلوبهم وعقولهم.

1956 .. قطاع غزة بين فكي التنين

استطاعت اسرائيل ـ ابان العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 ـ احتلال قطاع غزة متحالفة مع بريطانيا وفرنسا، ردا على تأميم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر لقناة السويس.

وكان منير الريس حينذاك رئيسا شرعيا للبلدية، فقام بالتنسيق مع بعض الشخصيات الوطنية الموثوق في مصداقيتها بتشكيل «الجبهة الوطنية لمقاومة الاحتلال»، في انحاء القطاع، وتم انتخابه امينا عاما للجبهة التي ابتدأت نشاطها العملي بمساعدة الضباط والجنود المصريين وعائلاتهم المحاصرين في القطاع، وتقديم كافة اشكال العون المادي والمعنوي لهم، وتأمين عودتهم الى مصر بعيدا عن رقابة القوات الاسرائيلية التي احتلت شبه جزيرة سيناء، ثم قامت الجبهة بعمليات محدودة ضد الغزاة، وأصدرت مطبوعات ونشرات سرية لتعبئة الجماهير وحشدها للمقاومة المسلحة. ووجه الحاكم العسكري الاسرائيلي «حاييم غاؤون» دعوة رسمية لمنير الريس، ولباقي رؤساء البلديات والمخاتير والشخصيات المرموقة بالقطاع لزيارة اسرائيل لاطلاعهم على التقدم الحضاري الذي حققته اسرائيل خلال السنوات الثماني التي اعقبت اعلان قيامها عام 1948 . اضافة الى هدفها الاساسي بضم قطاع غزة اليها، ووضعه تحت جناحها لتأمن الشر المستطير المنبعث منه، وبدأت تنفيذ خطتها بربطه بشبكات الكهرباء الاسرائيلية وذلك بعد فترة وجيزة من احتلالها له.

وفي الوقت الذي لبى الدعوة بعض رؤساء البلديات والوجهاء، الا ان منير الريس وبعض اخوانه الشرفاء رفضوا بشمم وإباء تلبية الدعوات المسمومة، فسارعت اسرائيل بمعاقبته، فعزلته من منصبه، وزجت به في سجن غزة المركزي «بتهمة رفضه تنفيذ الاوامر العسكرية لزيارتها، ورفضه الاشتراك في عضوية المجلس البلدي الذي عينوه بحساباتهم الخاصة. وقد شاءت ارادة الحق تبارك وتعالى ان تنسحب اسرائيل من القطاع بعد فشلها في تحقيق مسعاها بضمه اليها، او على اقل تقدير تدويله ووضعه تحت الوصاية الاممية.

وعندما دخلت قوات الطوارئ الدولية لتنفيذ قرار مجلس الامن بانسحاب اسرائيل من القطاع، تصدت لها جموع المتظاهرين الغاضبين ـ المبتهجين مطالبين بالافراج عن منير الريس، وقد دفع الشاب الغزي محمد علي مشرف حياته ثمنا لرفع العلم الفلسطيني بديلا عن العلم الدولي المنتصب على السارية، ذلك ان جنديا دوليا مأفونا اطلق النار عليه، فارتقى من قمة السارية الى قمة الشهادة ظافرا برضوان الله تعالى.

وأهاج دمه المسفوح عنفوان الجماهير فاتجهت الى بوابة السجن فاقتحمتها وحررت ابنها البار من زنزانته الانفرادية وحملته على اكتافها واعادته محفوفا بالأناشيد الوطنية الى بيته، وتجددت المظاهرات في اليوم التالي بناء على دعوته باستمرارها حتى «نفسد مؤامرة التدويل ونؤمن عودة الادارة العربية باعتبار ان المؤامرة مستمرة».

وبتوفيق إلهي صدر قرار مجلس الأمن بتاريخ 7-3-1957 بعودة الادارة المدنية المصرية الى قطاع غزة وكلفت مصر اللواء محمد حسن عبداللطيف ليكون اول حاكم اداري للقطاع بعد انسحاب إسرائيل.

وأقيم بتلك المناسبة البهيجة احتفال جماهيري ضخم باستاد مدرسة اليرموك بغزة حضره الحاكم الجديد برفقة المناضل منير الريس الذي اعيد لتولي منصب رئاسة البلدية بقرار رسمي وآخر شعبي.

هذا وقد أكسبته صلابة موقفه وشجاعته المشهودة ثقة الفلسطينيين داخل القطاع الغزي وخارجه وزوده ذلك بطاقات معنوية هائلة

المناضل منير الريس مرحبا بضيف فلسطين جواهر نهرو رئيس وزراء الهند اثناء زيارته التاريخية لقطاع غزة عام 1960

وسرعان ما انطلق جناحاه الى الساحة الدولية ممثلا لفلسطين في مؤتمرات التضامن الآسيوي ــ الافريقي التي عقدت في القاهرة وكوبا والجزائر وباندونج وغيرها. كما استقبل عشرات الوجوه والوفود العربية والدولية التي كانت تزور القطاع ومن بينها رئيس وزراء الهند الاول جواهر نهرو احد اقطاب دول عدم الانحياز الذي زار المجلس التشريعي بتاريخ 18-5-1960 .

وترأس منير الريس وفد قطاع غزة لحضور جلسات هيئة الامم المتحدة والذي شكل مع وفود فلسطينية اخرى وفدا فلسطينيا موحدا وألقى كلمة فلسطين في الامم المتحدة وكان يرى «ان قضية فلسطين ليست مجرد قضية وانما هي معركة وان هيئة الامم المتحدة لا تحل وحدها قضية فلسطين». وتصدت إسرائيل لآرائه السياسية ووصفتها بالأعمال الارهابية«6».

في عام 1958 انتخب الريس رئيسا للاتحاد القومي الفلسطيني في ظل دولة الوحدة المصرية ــ السورية التي ولدت في ذلك العام ودعا من خلال مسؤوليته الجديدة لاقامة كيان فلسطيني مقاتل والى تحرير فلسطين بأسلوب حرب الشعب، كما دعا اثناء تلك الوحدة التي اشرأبت اليها اعناق الجماهير العربية والفلسطينية بشكل خاص الى اقامة تمثيل شامل لهم تجسيدا للشعار القومي الذي ساد الاوساط الشعبية والرسمية «الوحدة طريق العودة» وتتالت دعواته في خطبه البليغة التي كانت حادة قوية للتعبئة النضالية وشحذ الهمم واستنهاض العزائم في صفوف الفلسطينيين الذين رأوا في الجمهورية العربية المتحدة باقليميها المصري والسوري أملا مشرقا في تحرير فلسطين!.

ويمكن القول بكل ثقة ان الريس ادى دورا وطنيا متميزا لجعل قطاع غزة منارة للروح الوطنية الفلسطينية تدعم الاصرار على امانة الوفاء لفلسطين.

وبهدف الحفاظ على الكيان الوطني الفلسطيني عملت الادارة المصرية بعد ثورة 23 يوليو على هيكلة النظام الدستوري الذي انبثقت منه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. ومن ثنايا السلطة التشريعية تم انتخاب اول مجلس تشريعي فلسطيني في القطاع وكان يتألف من ثلاثين عضوا من بينهم ثلاثة اعضاء من آل الريس هم: بشير طالب الريس ومنير محمد الريس وزهير بشير الريس«7».

وقام اعضاء المجلس جميعهم بزيارة تاريخية الى القاهرة عام 1958 ومقابلة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وكان في مقدمتهم صاحب السيرة الذي ارتبط بعلاقة جيدة مع عبدالناصر. وخلال المقابلة اعرب الرئيس المصري صاحب الشخصية العالمية المدوية في ذلك الوقت بصراحة مؤلمة لأعضاء المجلس بأنه لا يملك خطة لتحرير فلسطين الامر الذي احدث هزة نفسية عنيفة ومريرة في نفوس الفلسطينيين وبخاصة سكان قطاع غزة.

ولأسباب لا حاجة لتفاصيلها تعرض المناضل منير الريس في فترة لاحقة «لبعض الممارسات الخاطئة من قبل المسؤولين في ادارة الحاكم العام لقطاع غزة فاضطر لتقديم استقالته من رئاسة بلدية غزة ومن رئاسة الاتحاد القومي»«8».

مرة أخرى.. قطاع غزة بين فكي التنين 1967

عقب احتلال إسرائيل لقطاع غزة للمرة الثانية في السادس من يونيو/ حزيران 1967 بادر الريس مع مجموعة من الشخصيات الوطنية بتشكيل تنظيم سياسي ــ عسكري باسم «طلائع المقاومة الشعبية». واختار لنفسه العضوية في الجناح السياسي بالنظر لتجاوزه الخمسين من عمره يومئذ، واستثمر علاقاته الواسعة في توفير المال والسلاح وما يلزم من ضرورات التعبئة والتنظيم المعنوي مثل المطبعة والبطاقات والاختام. كما قام بتقديم الدعم المادي من حسابه الخاص بما رزقه الله تعالى من النعم مستأنسا بقوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» (الصف: 10-11).

ثم اندمجت الطلائع «بقوات التحرير الشعبية» المنبثقة بصورة اساسية من قوات «عين جالوت» التابعة لجيش التحرير الفلسطيني الذي تمخض عن انشاء منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964 وتنصيب المناضل الحقوقي المرحوم احمد اسعد الشقيري رئيسا لها بدعم من مؤتمر القمة العربية الاول الذي عقد بالقدس، ومن ثم تعيين اللواء وجيه المدني قائدا لجيش التحرير الفلسطيني. وقد تمكنت القيادة الجديدة والمؤهلة عسكريا في استقطاب خيرة شباب القطاع لما كان عليه التنظيم والقيادة من انضباط«9».

وتحملت الطلائع الفدائية مهمة مقاومة الاحتلال خلال الشهور العشرة التي اعقبت الاحتلال وقام بعض اعضائها بتجميع الاسلحة والاعتدة التي خلفتها الهزيمة الحزيرانية المريرة وتم نقل جانب منها خفية الى جبال الخليل.

وقامت تلك القوات بتنفيذ العديد من العمليات العسكرية الناجحة لا مجال لذكر تفاصيلها الآن لكنها بالمجمل اظهرت مدى شجاعة المقاتل الفلسطيني اذا امتلك السلاح ووقف على ارضه مدافعا عن حقه وعرضه ومستقبله.

وقد عرفنا من بين ابطال تلك الآونة الشهيد زياد الحسيني، قائد قوات التحرير الشعبية لقطاع غزة وشمال سيناء فيما بعد، والشهيد ماهر جميل البورنو ووليد ابو شعبان وحسين الخطيب وعمر عاشور وجبر عمار وخالد الديب وصائب العاجز وأحمد صرصور وعبدالمطلب الحسيني ونهاد الريس ومصباح صقر ونمر حجاج ويحيى مرتجى وفايز الترك وفخري شقورة وفايز جراد وبهجت العبد أمين وغيرهم.

وقبيل توجه القوات الشعبية الى الاردن بناء على تعليمات فلسطينية عليا حولت القطاع الى جحيم اقض مضاجع المحتلين مما دعا وزير

القائد البطل الشهيد زياد الحسيني 1943- 1971

الحرب الصهيوني المجرم موشي ديان الى الاعتراف والقول «ان جيش الدفاع الإسرائيلي يحكم غزة في النهار و«الميجور» زياد الحسيني يحكمها في الليل».


ومن مظاهر الاسى العميق ان يستشهد البطل زياد (1943-1971) بصورة غامضة ومريبة ما برحت لغزا محيرا !

ومن مظاهر الاعتزاز ان يقيم الرئيس الراحل ياسر عرفات حفل تأبين للقائد الفذ زياد الحسيني لدى وصوله الى غزة عام 1995 اثر اتفاقية أوسلو الشهيرة «10».

كانت إسرائيل تراقب تحركات الريس ــ على محدوديتها ــ وتضمر له السوء الذي أودعته في ذاكرتها منذ احتلالها السابق للقطاع عام 1956 ورفضه التجاوب مع مخططاتها الآثمة وهي ليست بحاجة في عام 1967 الى ذريعة كي تقبض عليه وتلقي به في غياهب السجن. ورغم ذلك اتهمته بمقاومتها واخلال امنها. لكنها اضطرت للافراج عنه بعد قضاء فترة التوقيف وذلك لعدم اعترافه بما نسبته اليه وبسبب الضجة التي أثارها اعتقاله في المحافل الحقوقية، وفرضت عليه الاقامة الجبرية في بيته مدة اربعة اشهر.

لكنها لم تلبث في عام 1969 أن اعتقلته من جديد لكن بتهمة جديدة هذه المرة وبعد توقيفه مدة شهر كامل ثم تقديمه للمحكمة العسكرية بتهمة التعاون مع المنظمات «الارهابية». وامتدت محاكمته لعشرة ايام ثم اصدرت حكمها عليه مخيرا بين السجن الفعلي مدة ست سنوات او دفع غرامة مالية قدرها ثلاثة وعشرون ألف ليرة إسرائيلية ونظرا لاعتلال صحته دفع الغرامة وتم الافراج عنه«11».

حلقة جديدة من مسلسل الاعتقال

مسلسل الاعتقال لم ينته بعد لكنه هذه المرة جاء بنكهة اكثر مرارة ففي شهر سبتمبر/ايلول من عام 1970 عمد الهولاكيون الجدد الى ابعاده خارج حدود فلسطين.. وتحديدا الى جنوب لبنان مع ثلة من مناضلي المناطق المحتلة وهم: الدكتور حيدر عبدالشافي من غزة والدكتور وليد قمحاوي والمحاميان زهير جرار وخالد السفاريني والشيخ موسى المعطي من الضفة الغربية.

وجاء في أمر الابعاد: «نظرا للخطر الذي يمثله وجودهم على الامن في المناطق (المحتلة) فلقد تقرر ابعادهم». ولما وصلوا الى بيروت رحبت بهم الشخصيات اللبنانية الوطنية ورئيس واعضاء مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد اقامة وجيزة توجه المجاهد ابو منير الى دمشق واقام مؤقتا في بيت ابنه الاكبر المناضل الأديب ناهض منير الريس وفي بيت صهره الشاعر المعروف يوسف الخطيب (1931-2011) زوج ابنته السيدة اباء.

وقام بزيارته والترحيب به القادة الراحلون عرفات وابو جهاد وأبو اياد وكافة قادة الفصائل الفلسطينية الذين اشادوا بمواقفه الوطنية الشجاعة ودعمه من امواله الخاصة للمجاهدين«12».

وبذلت اطراف عربية ودولية جهودا حثيثة مع هيئة الأمم المتحدة لاعادة المناضلين الى وطنهم فتكللت مساعيها بالنجاح فأعادهم الصليب الاحمر الدولي بعد 6 شهور وقد ساءت صحة المناضل منير الريس ووهن جسمه، وفي اليوم العاشر من شهر مارس/آذار 1974 لبى نداء ربه راضيا مرضيا في مستشفى الشفاء بغزة وفاضت روحه الطاهرة الى بارئها عن تسعة وخمسين عاما.

وقد عمت الديار الفلسطينية غيمة من الحزن والأسى على رحيل هذا العلم الذي تفانى في خدمة وطنه وأمته ولم يساوم على ما اعتبره من ثوابتها ومسلماتها وأقيمت له جنازة مهيبة وقد تدثر جثمانه الطاهر بالعلم الفلسطيني ووري الثرى بمزرعته بمنطقة الشعف حسب وصيته.

وتلقت اسرته فيوضا من برقيات التعازي من ابرزها: ورد من الرئيس محمد انور السادات والرئيس حافظ الأسد والسيد ياسر عرفات والحاج محمد امين الحسيني واللواء محمد نجيب ودولة سليمان النابلسي.. و...

وبمناسبة مرور اربعين يوما على رحيله اقيم له في ساحة المدينة حفل تأبين لائق شارك فيه السادة: الدكتور حيدر عبدالشافي ممثلا عن الاطباء، ومحمود نجم عن الغرفة التجارية، والدكتور زكريا مكي عن بلدية غزة، والسيد ابراهيم ابو ستة عن المحامين، ووديع ترزي عن كلية غزة، ورامز فاخرة عن رجال التعليم، وقاسم الفرا عن مدينة خان يونس وخالد الشوا ومحمود شراب والشيخ جميل الريس عن آل الفقيد.

وجاء على لسان أحد المؤبنين: «إحساسنا بالألم والحزن يتعاظم كلما استرجعنا في أذهاننا جوانب مشرقة من حياة ذلك النجم الذي أفل بريقه عن النواظر.. إنه نجم منير الريس.. ولكنه ظل ساطعا في الخواطر والقلوب».

وفي مقالة رثائية قال الصحفي إبراهيم حنظل: «وهكذا أرادت الأقدار أن نفجع بفقيد فلسطين وابن غزة الأمين المرحوم منير الريس قبل أن يطمئن على قضية فلسطين التي عمل وضحى في سبيلها الكثير الكثير»«13».

ومن تصاريف القدر أن تفقد فلسطين في عام واحد (1974) علمين بارزين من خيرة ابنائها منير الريس في شهر مارس ورئيس الهيئة العربية العليا الحاج محمد أمين الحسيني في شهر يوليو، وقد أدى كلاهما دوريهما الوطنيين بتفان وإخلاص. فإلى جنة الخلود مقامهما وكل السائرين على درب الوفاء والفداء لفلسطيننا الغالية الغالية.. وبدوري أقول ما دأبت على قوله منذ يفاعة الصبا: «إن غابت فلسطين عن عيني فهي حاضرة أبدا في الأصغرين: قلبي ولساني، وسأبقى مسكونا إلى الأبد بولائي المطلق لإسلامي ثم لعروبتي ولا أفرق بين الحسنيين».

«لقد كان منير الريس وطنيا ومخلصا، وكان جزءا من حركة الجماهير، ومنسجما مع قواها المنظمة. مات الرجل الذي لم يساوم مطمئنا الى انه ادى دوره كاملا»«41».

سلام الله عليك في الخالدين يا أبا ناهض، سلام الله عليك كبيرا في حضورك، كبيرا في غيابك، فقد امتلكت ومجايلوك ناصية العطاء لفلسطيننا الغالية، وسيبقى اسمك منيرا في سماء غزتك، ساطعا في آفاق وطنك، متوهجا في قلوب مواطنيك وعارفي قدرك.

ملحوظة: الصور من أرشيف الكـاتب

NABIL-AGHA@HOTMAIL.COM


هوامش:

{ هناك منيران في عائلة الريس أحدهما رئيس تحرير صحيفة «بردى» الدمشقية، والثاني رئيس بلدية غزة سابقا وهو صاحب هذه السيرة.

1- شريف سلامة شعبان، منتديات آل الريس على الشبكة العنكبوتية، ود. محفوظ سعيد الريس.

2- أعلام فلسطين ــ مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.

3- منير الريس المناضل الذي خسرناه، حسين ابو النمل، مجلة شؤون فلسطينية العدد 33 مايو/ آيار 1974.

4- حسين ابو النمل ــ مرجع سابق.

5- حسين ابو النمل ــ مرجع سابق.

6- صحيفة الفجر المقدسية بتاريخ 17-4-1974 ، لجنة تأبين ذكرى الاربعين لوفاة منير الريس.

7- منتديات آل الريس ــ مرجع سابق.

8- وردت هذه المعلومة ضمن رسالة خطية تلقاها الكاتب من صديقه الاديب المناضل المرحوم ناهض منير الريس مؤرخة في 31-1-1981، ص-ب 14015، دمشق.

9- موقع الكاتب محسن الخزندار على الشبكة العنكبوتية.

10- نبيل خالد الأغا، القائد الشهيد زياد الحسيني اسطورة غزة موقع عائلة الأغا (النخلة)، الشبكة العنكبوتية.

11- صحيفة الفجر المقدسية 17-4-1974 مرجع سابق.

12- مجلة النهضة الكويتية 19-3-1988 .

13- صحيفة البشير، بيت لحم 13-4-1974 .

14- حسين ابو النمل ــ مرجع سابق.

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على أ. نبيل خالد نعمات خالد الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد