مقالات

رحمانيّات ربانية-35- نعمة الصبر عند الابتلاء- المنتصربالله حلمي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

( رحمانيّات ربانية )

( 35 )

نعمة الصبر عند الابتلاء

الحمد لله وأفضل الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يتم علينا نعمة الهدى والتوبة الرضا بما قسم الله لنا ، أنه هو السميع العليم المجيب .

إن الله تعالى لا يترك عباده المؤمنين بدون ابتلاء واختبار ليمتحن إيمانهم وصبرهم وتحملهم للابتلاء مصداقاً لقوله تعالى في سورة محمد:‘‘ وَلْنَبْلُوَنَّكُم حتى نَعْلَمَ المُجّاهِدِينَ مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ’’ . فالعبد الذي لم يتمكن الإيمان منه يقول : آمَنت ، وعند المصيبة أو الابتلاء فلا آمَن ولا رضي ولا صَبَرَ ولا حَمَدَ وشَكَرَ الله تعالى ، ثمَّ اشتكى ، وكأنما يشكو الله سبحانه وتعالى ، من أجل هذا يرضى المؤمن ويصبر على قضاء الله تعالى وقدره ويتوجه إليه سبحانه وتعالى بالحمد والدعاء يسأله الرضا والصبر تيمناً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:‘‘ ثلاثة من رُزِقُهُنَّ فقد رُزِقَ خيريّ الدنيا والآخر : الرضا بالقضاء ، والصبر على البلاء ، والدعاء في الرخاء ’’ .

والابتلاء والفتنة قد يكون نقص فيما يملكه العبد المؤمن من حاجات الحياة والدنيا ، أو قد يكون الابتلاء في الصحة أو النفس أو الولد أو الزوج أو الجاه ، أو موت أبناء أو آباء أو أمهات أو زوج أو أخوة أو أقارب وأصدقاء ، وقد يكون الابتلاء في سلوك جارٍ أو رفيق سوء لا يخشى ولا يخاف الله تعالى . وأنواع الابتلاءات كثيرة لا حصر لها ، ومن اعترض على قضاء الله تعالى ولم يرضَ وسَخِطَ ، فلن ينال رضا الله سبحانه وتعالى ولن ينال غايته ولن يزول الابتلاء بسخط المُبتَلَى ، وهنا يكمن سمو الإيمان عند المؤمن .

  وقد يكون من أشد الابتلاءات التي تصيب الإنسان هو قهرِة بموت عزيز ، والله تعالى قدّم في قرآنه الكريم الموت على الحياة ، وتلك حكمة ربانية أرادها الله سبحانه وتعالى فقال جلّ شأنه في مطلع سورة المُلك:‘‘  تَبَارَكَ  الَّذِي  بِيَدِهِ المُلْكِ  وَهُوَ  عَلَى كُلِّ شَـيءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ المَوتَ والحَيَاةَ  لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُم أحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ(2)’’ . فسبحان القهّّار الذي قهر عباده بالموت الذي لا يستطيع أحدٌ أن يرده عن نفسه أو غيره . ورضا المؤمن بما أصابه من بلاءٍ قضاه الله تعالى عليه نعمةٌ إيمانيّة كبيرة ، لأن الرضا أعلى درجةً من الصبر .

يقول الله تعالى في سورة البقرة :‘‘ وَلَنَبْلُّوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِيِنَ(155) الَّذِينَ إذَا أصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُواْ إنَّا للهِ وَإنّا إليْهِ رَاجِعُونَ أوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةً وَأوْلَئِكَ هُمُ الُمهْتَدُونَ(156)’’ . والصلوات من الله تعالى لا يعرف منتهاها ولا خيرها إلاّ الله سبحانه وتعالى ، ومن رضي وصبر على البلاء واستسلم لقضائه وقَدَرِهِ ثمَّ استرجع فقال:( إنَّا لِلهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ) انهالت عليه الصلوات - أي الرحمات - من الله تعالى بلا حدود . والصابر المحتسب لا يُرفع له ميزان يوم القيامة برحمةٍ من الله تعالى مصداقاً لقول الله تعالى في سورة الزمر آية(10):‘‘ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ’’ ، وهذه الآية الكريمة هي ميزان الصبر عند المؤمن على البلاء ، فيضع مصائبه في هذا الميزان حتى لا يُنصَب لهُ ميزان الآخرة . يقول الإمام القرطبي: وَرَدَ :‘‘ أن الموازين تُنصَب يوم القيامة لأهل الصلاة ولأهل الصيام ولأهل الزكاة ولأهل الحج ، فتُوزن أعمالهم ويوفون أجورهم بالموازين ، وأما أهل البلاء فلا يُنصَب لهم ميزان ولا يُنشَر لهم ديوان ويُصَّب عليهم الأجر والثواب بغير حساب ’’ ، وزاد في رواية:‘‘ وإن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسامهم قُرضِت بالمقاريض لما يرون من حُسْنِ ثواب الله عزَّ وجلَّ ’’ ، فمن صبر على الابتلاء في الدنيا أكرمه الله تعالى في الآخرة فلا يُرَفع له ميزان ولا حساب وتنهال وتنصبُّ عليه الخيرات والصلوات من الله تعالى صبَّاً ، وتلك بشرى لأصحاب البلاء والصابرون المحتسبون فيدخلون الجنّة آمنين مطمئنين فلا يصيبهم خوفٌ ولا جزع .

والله تعالى أمر عباده المؤمنين أن يستعينوا على المصائب بالصبر أولاً ثم بالصلاة فقال تعالى في سورة البقرة:‘‘يَا أيُّها الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبرِ وَالصَّلاَةِ إنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153)’’ ، وهنا وضع الله تعالى نفسه - جلَّ شأنه - مع الصابرين تقديراً وإجلالاً لهم لامتثالهم لأمره ، فَرَضُواْ وصبروا ، ولم يضع نفسه - جلَّ شأنه - مع المصلّين بالرغم من قَدْرِ الصلاة وأنها الحبل المتين الذي يربط المسلم بدينه.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:‘‘ ليسترجع أحدكم في كل شيءٍ حتى في شِسْعِ نعله فإنها من المصائب’’ ، والشسع : هو حبل أو سير النعل ، وهو أهون شيء عند الإنسان ، فيعلمنا صلّى الله عليه وسلّم الصبر والاسترجاع لأتفه الأمور لتهذيب نفوسنا عندما يصيب الإنسان ابتلاءٌ أو مصائب . وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ‘‘ ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة ’’ .

وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : ‘‘ الصبر ثلاثة : صبر على الطاعة ، وصبر على المصيبة ، وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبة حتى يردَّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجةً ’’ ، وهنا فإن المؤمن يصبر على مصيبته بالرضا وطاعة الله ولم يَعْصِهِ فرَضِي وصبر ولم يتذمّر ، فحاز بإذن الله تعالى على ألفٍ وثمانمائة درجة في جنان النعيم ، وكلنا يعرف أن بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض ، وهنا عظمة الحصاد الإيماني .

والمؤمنون الراضون الصابرون الذين أصابهم البلاء جزائهم عند الله تعالى عظيم ، توجهوا بأمرهم وحالهم إليه يسألونه ويناجونه برضاهم وصبرهم واحتسابهم وحمدهم لله تعالى على ما أصابهم ، فلعلّه جلَّ شأنه يخفف عنهم ما ابتلاهم به فيُدخل الرضا والصبر إلى قلوبهم ، ومن سأله صادقاً استجاب له . 

ومن كان أقرب إلى الله تعالى فمصائبه في الدنيا أكثر والبلاء عليه أشدُّ  وقد سأل سعد بن أبي وقاص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:‘‘ أيُّ الناس أشدُّ بَلاءً ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : الأنبياء ثمَّ الأمثل فالأمثل فيُبتَلى الرجل حسب دينه ، فإن كان رقيق الدين أُبتلي على حسب ذاك وإن كان صلب الدين أُبتلي على حسب ذاك ، فما تزال البلايا بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئةٌ ’’ .

والمواساة والتعزية هي : التصبّر ، وتشتمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمسلم والمؤمن يواسي أخيه المسلم والمؤمن في مصيبته ويصبّره ويشد أزره ويذّكره بأجر الصابرين على المصيبة ، وعمله هذا مأجور عليه وله مثل أجر صاحب المصيبة ، وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:‘‘ من عزّى مصاباً فلهُ مثل أجره ’’ .

أما اليوم وهو الذكرى الثالثة لفَقْدُ حبيبٍ وغالٍ ، وقد نفقد بين فترة وأخرى أحبة ، ونسأله تعالى أن يلطف بنا ، وألاّ يمتحننا ، فنحن الضعفاء إليه . ونسألك يا رب أن لا تجعلنا من المُبْتَلِين وأنت راضٍ عنّا ، ونسألك يا رب أن تُنزل السكينة والقبول على قلوبنا وقلوب كل مُبتَلَى دائماً وأبداً والرضا بقضائك وقدرك ، ونسألك يا الله يا رحمن يا رحيم ياغافر الذنوب والزلاّت ، ويا لطيف بعبادك أن تتغمد موتانا برحمتك ، وتُعلي درجاتهم في عليين مع النبيين والشهداء ، وبالصبر والرضا والاسترجاع والاستسلام لله تعالى - وهذا قَدَرُ المؤمن - نترحم على كل موتانا من أهلنا ووالدينا وأحبتنا والمسلمين والمؤمنين ، بعطفك ومغفرتك ورحمتك وجُودِك وكرمك ، وأنت ارحم الراحمين . وأن ترحم وتغفر لمن كان سبباً وساعد في نشر هذه الرحمانيّات الربّانية ومن له حقٌ علينا ، في الدنيا والآخرة ، اللهمَّ آمين .

‘‘ ربَّنَا لاَ تُزْغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ(8)’’ (سورة آل عمران) . وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين .

 

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على أ. المنتصر بالله حلمي أحمد الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد