مقالات

أيام بين الأهل والأعداء- زيارة غير عادية إلى فلسطين المحتلة- نبيل خالد الأغا- الدوحة

 

تمهيد

 
يرجى من القراء الفضلاء قراءة هذا الاستطلاع على ضوء توقيت نشره بمجلة الدوحة في عددها الذي صدر في شهر أكتوبر تشرين أول 1979 .
وقد اثار في حينه ردود أفعال على المستويين الصحافي والوجداني، وارتآه الجزء الأكبر من القراء سبقاً صحفياً مميزاً باعتباره أول استطلاع حي ومصور بالألوان شمل مدناً فلسطينية محتلة منذ العام 1948 والعام 1967 .
الاستطلاع بعنوان : (أيام بين الأهل والاعداء، زيارة غير عادية إلى فلسطين المحتلة)، ونشر على غلاف المجلة وأمتد داخلها على مساحة أحدى عشرة صفحة شملت سبعا وعشرين صورة متفاوتة الاحجام، بما فيها صورة الكاتب مع ابن عمه المرحوم مأمون سعيد الأغا (أبو سعيد) الذي كان برفقته.
وقد اكتفينا بنشر الاستطلاع بدون بقية الصور وذلك دفعا لشبهة وصفه بـ "الحجم العائلي" الذي أطلقه حبيبنا الدكتور جواد سليم إبراهيم على موضوع (حنظلة ناجي العلي شاهد على هذا الزمان) ونشر في حينه بمجلة الدوحة وموقع النخلة (أبريل 2010) .




لم أكن قبيل تلك الأمسية العذبة في عمان قد فكرت جديا في زيارة أهلي ووطني الفلسطيني المحتل، برغم مرور اثنتي عشر عاما على آخر رؤية لي لتلك الديار الحبيبة وبالتحديد منذ الهزيمة العربية الثانية عام 1967.
لقد قررت حينئذ ألا تطأ قدماي ثرى وطني ما دام ذلك الثرى أسيراً في قبضة الصهاينة. لكنني أخيراً وضعت في الزاوية الحادة حين تسلمت من الوالدة رسالة يقطر منها الحنين والاسى تتوسلني أن احقق أمنيتها في رؤياي وأسرتي قبل أن يقضي الله أمراً كان محتوما. وأرفقت بالرسالة تصريحات من الحاكم العسكري الصهيوني يسمح لي بالزيارة !
في الحقيقة أنني كنت شغوفا لهذه الزيارة، لكن هناك بعض الكوابح في تنفيذها أولها: كراهيتي اللا محدودة لرؤية العلم اليهودي على وطني .. حبي الكبير .
ثانيها: شعوري بالخوف من غدر اليهود، ذلك الذي لازمهم منذ وجدوا، وعرفه التاريخ كواحد من أخس طبائعهم.
أخذت أحاور نفسي .. انني لا أخشى الموت فالأعمار كلها بيد الله سبحانه وتعالى، لكنني أخشى المعتقلات وأخشى التعذيب. وعلى الفور قفزت إلى ذاكرتي عبارة أوردتها في سياق مقالة نشرت في عدد مايو الماضي (1979م) في "الدوحة" عن المعتقلين العرب جاء فيها: ان أبطالنا في معتقلاتهم الرهيبة لا يشعرون ببهجة الحياة ولا يظفرون براحة الموت! وتساءلت : ربما يحشرني اليهود مع اخوتي المعتقلين فلا أشعر- مثلهم- ببهجة الحياة ولا أظفر براحة الموت!! بقيتُ في هذه الحالة الحائرة ثلاثة أيام بين مدٍّ يدفعني وجزر يحسرني، طلبت مشورة بعض من زاروا الأرض المحتلة، فاختلفت آراؤهم وتباينت نظراتهم، الا ان أغلهم أكد لي بأن اصدار اليهود لتصريح الزيارة معناه أن صحيفة سوابقي لديهم بيضاء ولا ضير يصيبني إن شاء الله ، أما بالنسبة لما أكتبه فاليهود لا يقيمون وزنا لما يقال أو يُكتب الا بالقدر الذي يرتؤونه في صالحهم لأن ألفي قذيفة من كلام لا تساوي عندهم قذيفة من حديد !

وجها.. لوجه


وأخيرا.. قررت حسم هذا الموضوع الذي أرقني، وقررت تلبية استغاثة أمي متكلا على ربي.. ولم أتردد. اتجهت غربا إلى مدينة "الشونة" الاردنية فوصلتها في السابعة صباحا، وبعد ساعتين كنت "مضغوطا" في ممر احدى الحافلات المهترئة متوجها إلى جسر "الملك حسين"، وهناك وجدنا أمامنا أربع حافلات تنتظر إذنا لعبورها نهر الاردن من السلطات اليهودية!
اتجهت ببصري إلى نهاية الجسر الخشبي الذي لا يزيد طوله على مائة متر .. يا الله .. ما الذي أرى؟ انه هناك منتصب على السارية، السارية ليست مغروسة في أحشاء وطني، انها مغروسة في افئدة مائة وخمسين مليونا من العرب .. انه هو.. ذلك العلم الازرق الذي تتربع وسطه نجمة داود السداسية الاضلاع، وحَلّقْت بعيداً بأفكاري وهمومي وأحزاني ..استحضرت من قاموس العربية ظروف الزمان والمكان، وأفعال الماضي والمضارع والأمر، كل أدوات التمني والترجي والندبة والندم!!
ومرّ وقت لم أدرك مداه، واذ بنا أمام البوابة الصهيونية، أحد أعداء أمتي يتفحص تصاريح السفر.. ثم يأمر السائق بمواصلة السير، إحدى السيدات المسنات تنظر إلى الثكنات العسكرية على جانبي الطريق وتقول: أدعو الله أن يكسر جاهكم ويذلكم كما أذللتمونا، احد الرجال يهمس في أذني: سقى الله أيام زمان قبل عام سبع وستين، لقد كنت أعمل سائقا بين القدس وعمان، ولم تكن المسافة تستغرق مني أكثر من ساعتين، بلا حدود وبلا يهود، ولكن سبحان مغير الأحوال، أدعو الله أن ينتقم من أولاد الحرام!
وصلنا مبنى الجوازات والجمارك، وهو بناء ضخم يتسع لعدة مئات من المسافرين، وبعد انتهاء التدقيق في جوازات السفر دلفنا إلى قاعة التفتيش الذاتي، واذا أردنا الانصاف فهي "قاعة الذل والهوان" حيث تتواجد مجموعات من الجنود الصهاينة مهمتها تفتيش كل مسافر بمفرده في "كبائن" معدة لهذا الغرض.
أغلق الجندي باب "الكابينة"، ثم أمرني أن أخلع عن جسمي كل اضافة بشرية أضيفت اليه بعد ولادتي ابتداء من النظارة ومروراً بالمنطال وانتهاء بالجوارب، عدا ورقة التين!!

ليتني ..لم أولد


ثم تناول جهازا صغيرا وأخذ يمرره على كل خلية من جسمي. والله وحده يعلم مدى غيظي وحنقي , لذت بالصمت والتسبيح، ربما أثار ذلك ريبته، أمرني بفتح فمي، وأدخل فيه جزءا من الجهاز، ولما تأكدتْ لديه براءتي أشار عليّ بارتداء ملابسي، ثم اتجهت إلى غرفة مجاورة في انتظار حذائي الذي أخذوه للفحص الآلي!
هل أترجم مشاعري خلال هذه اللحظات؟ لن استطيع، لكنني شعرت بأنها اللحظة الوحيدة في حياتي التي تمنيت فيها الا تكون أمي قد ولدتني كي لا أشهد هذا الموقت المهين الذليل!!
وأخذت- أحدث نفسي: أن موقفا كهذا يرغمنا أن ننحني خشوعا لكل فدائي يشارك في عملية عسكرية حتى لو فشلت !
همس خفي في أعماقي يقول: لا بد لهم أن يفعلوا ذلك، ولو لم يفعلوا لما استقروا في بلادنا منذ واحد وثلاثين عاما وحتى يأذن الله تعالى . وأخذت أتلو قوله جل جلاله في سورة الحشر: "لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون، لا يقاتلونكم جميعا الا في قرى محصنة أو من وراء جُدُر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون".
تم التدقيق في حقائبنا، وتم تفتيشها بأكثر من الدقة ذاتها، ثم ركبنا سيارة يقودها شاب فلسطيني من مدينتنا، وبعد نصف ساعة مررنا بمدينة أريحا التي تعتبر من أكثر مدن العالم انخفاضا عن مستوى سطح البحر اذ يبلغ انخفاضها 250 مترا، وهي أول مدينة فلسطينية شهدت أول غزوة يهودية همجية على فلسطين بقيادة يشوع بعد وفاة نبي الله موسى.
ها نحن على قمة جبل الزيتون، وذلك جانب من سور الحرم القدسي، وتلك مآذن وكنائس، وشواهد كثيرة، ومبان أثرية لا تحصى بسهولة، اننا نرى قطعا عديدة من التاريخ أمامنا، أما قبة الصخرة فهي تبدو في منظر ساحر أخاذ حيث تنعكس عليها أشعة الشمس وكأنها تودعها قبل ساعة الرحيل فتتلألأ صورتها في حدقات العيون الناعسة فتبعث فيها النشوة والحبور. ولقد بحثت عن النشوة في عيني فوجدتها دموعا ساخنة يزفر بها فؤادي.. وسرحت بخاطري بعيداً .. بعيداً ..ثم استيقظت على صوت عقول في أعماقي يصيح.. ما هكذا القدس تعود، حتى ولو أبيضت كل عيون المسلمين من الحزن!

لك الله يا قدس


وتذكرت موقفا مشابها للشاعر مجد الدين الحنبلي حين زار القدس قبل أكثر من 800 عام يوم كانت تدنس طهرها سنابك خيل الصليبيين ..فأنشد يقول:

مَررْتُ على القدسِ الشريفِ مُسَلٍّما

على ما تبقـــّى من ربوع كأنــجــم

ففاضَتْ دموعُ الـعينِ منـي صـــُبابةً

على ما مضى من عَصْرهِ المـتـقدِّمِ

وقد رامَ "علْجٌ" أن تُعفّى رُســـومُــه

وشَمـــَّرَ عن كفَّيْ لئيـــــــمٍ مُذمّـــم

فقلتُ لــه شُـــــــلـــــّتْ يمينــــــــكَ

خلِّها لمعتِبرٍ أو سائلٍ أو مُســــــلِــمِ

فلو كان يُفـــدى بالنفوس فديتُــــــــه

بنفسي، وهذا الظن في كل مُسْلــــِمِ

 
أنهضت الرأس قليلا وقلت في ضراعة: الهي.. لقد فتحها عمر، وحررها صلاح الدين فمن لها اليوم؟ أنت لها وحدك يا رباه، ولا أحد سواك.
تخطينا القدس العتيقة، سائق السيارة- وقد عرف أنني أهبطها للمرة الأولى- يقول: ألا ترى تلك العمارات والمباني الضخمة التي تشبه قوس قزح؟ انه حزام المستعمرات اليهودية يلتف حول خاصرة القدس. وهذه الطريق على يسارنا تؤدي إلى دير ياسين وما أدراك ما دير ياسين ! ألا ترى هذه المصفحات القديمة ؟ انها نفس المصفحات اليهودية التي أعطبتها قوات الجهاد المقدس بقيادة البطل عبد القادر الحسيني في معركة القسطل في عام 1948 . ان اليهود يحرصون على تخليد المعارك الشهيرة التي خاضوها ، ففي الطريق إلى اللد أقاموا مصطبة حجرية ووضعوا عليها أول دبابة مصرية غنموها في حرب 1967م. وفي أحد المنعطفات الجبلية المؤدية إلى قرية الكابري بشمال فلسطين أقام اليهود معرضا صغيراً يحتوي على صور وأسلحة ومخلفات خمسين جنديا يهودياً لقوا مصرعهم في نفس المكان حين انقضت عليهم مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين ودمرت الشاحنة التي كانت تقلهم أثناء الحرب العربية- اليهودية الأولى.


المشهد... المأساة


لقد قطعنا ساعتين من الوقت، وها نحن على مشارف مدينتنا، قلت للسائق أهذه خان يونس؟ أجل ..وهذه قلعة الملك برقوق! ولأنها قد تغيرت معالمها، ولأنني قد غبت عنها طوال هذه المدة، ولأن منازلها مرقمة ترقيما يهودياً حديثا فلقد فوجئت تماما حين أوقف السائق سيارته وقال: تفضل ! قلت إلى أين؟ قال إلى بيتكم ! وأين هو ؟ انه ذاك، قلت له أرجوك لا تتركني انه ليس هو ! وأسقط في يده ! وأخذ يشير بيده يعرفني على الجهات الأصلية الأربع، ووجدتني مصابا بصداع ودوار شهد الله ما أدركت عنفه منذ حييت . أحد أقربائي المسنين عرفني فاحتضنني وبكى .. وبكيت (المرحوم نعمات سعيد الأغا- أبو صلاح)..
ها أنذا أدخل بيتنا، أمي تفتح ذراعيها مهللة بمقدمي، جريت نحوها.. وقبيل أن أصافحها خانتها قواها فهبطت أرضا.. انها تبكي .. وكل من حولنا يبكي .. انه لمشهد مأساوي تنفطر له أقسى القلوب.. الا قلوب اليهود!
***
مكثت في البيت أربعة أيام لم أبرحه، وخلال هذه الفترة التقيت بالأهل والأقارب والاصدقاء، وتعرفت على شباب من أهل بيتي وعشيرتي منهم من كنت رأيته رضيعا، ومنهم من كنت أعرفه طفلا، ومنهم من لم أكن أعرفه ولم أعلم بوجوده من قبل!
وكذلك علمت بموت الكثيرين. وبمرض البعض، وبهجرة آخرين.
وفي اليوم الخامس- وقد صادف اليوم الثاني من شهر رمضان- عزمت أن أجوب بعض المدن الفلسطينية التي سمعت عنها وعشقتها دون أن أراها، ولم تكد تنتهي أيام الزيارة حتى كنت قد زرت أغلب هذه المدن.
هل أسرد ألف باء هذه الزيارة غير العادية إلى فلسطيننا العربية المحتلة ؟ لا .. فذلك قدر ليس باليسير على مقال كهذا أن يستوعبه، لكنني سأكتفي بتسجيل بعض العلامات البارزة فيها، تاركا استنباط مغزاها الذي أتركه لحصافة القارئ الكريم، وليعذرني ان اضطررت لحجب أمور أخرى عنه، لست بمستطيع نشرها!!
لقاء في يافا
خلال زيارتنا لمدينة يافا كنت حريصا على رؤية الحي العربي فيها، لاحظت وضعا غريبا، فالمناطق العربية ما زالت على صورتها القديمة منذ الهزيمة العربية الأولى عام 1948، الشوارع ضيقة متسخة ، والمحال التجارية شبه مهملة، والمنازل متصدعة، بينما المناطق المأهولة باليهود عكس ذلك تماما، فما هو الهدف؟
هل ليرى السائح بأم عينيه الفرق الشاسع بين "تأخر" العرب وبين "تحضر" اليهود! ربما. قال لي أحد السكان العرب في يافا: لحظتان لن أنساهما ما حييت : عندما سقطت يافا هاجر أهلي إلى غزة وسط لهيب المعركة، فقدت اتصالي بهم، ولم أعلم وجهتهم وبقيت هنا، والتقيت بهم بعد حرب السابع والستين.. بعد تسعة عشر عاما من الفراق. لقد استطاع اليهود أن يحققوا ما لم تستطع كل الدول العربية تحقيقه، وحدة فلسطين ولكن.. تحت رايتهم!
اللحظة الثانية عشية حرب العاشر من رمضان عام 1973 حينما أتت ثلاث عائلات يهودية إلى بيتنا لتحتمي من الجنود العرب الذين سيحتلون اسرائيل! وبعد انتهاء الحرب جاءوا يشتموننا ويشمتون فينا!
تناولنا طعام الإفطار الرمضاني في أحد المطاعم العربية المواجهة للشاطئ، ثم توجهنا لصلاة المغرب في "مسجد يافا الكبير" الذي تحرص الإذاعة اليهودية بالعربية أن تنقل منه وقائع صلاة بعض أيام الجُمع ، فوجدناه مقفلا، فقيل بأنه لا يُفتح للصلاة الا يوم الجمعة فقط!!


مشاهد من حيفا


لولا ثقتي بأن هذا هو جبل الكرمل، وبأن هذا الذي أمامي هو خليج عكا لما صدقت انني موجود في حيفا ذاتها.. أقحوانة مدن فلسطين الساحلية! لقد استغل اليهود جمالها الطبيعي الذي أسبغه الله عليها ، وأضافوا عليه العلم والفن والهندسة .. واللغة العبرية، ولا يمكنك ازاء كل هذا الا أن تشعر بغربتك الكلية، وبأنك متواجد في مدينة ليست محددة على خارطة المنطقة العربية!
كنت مهتما بالتمعن في وجوه اليهود الذين تمتلئ بهم حيفا، خليط عجيب من البشر، لا تناسق في أشاكلهم، ولا تآلف في سحنهم، ولا توافق في ألوانهم، شيء واحد فقط يضمهم تحت لوائه: الصهيونية!!
حان وقت صلاة الظهر، بحثنا بأعيننا عن مسجد فلم نجد، وقفت قبالة شرطي يهودي وقلت له بالإنجليزية: أنا عربي مسلم أبحث عن مسجد أصلي فيه فهل لك أن ترشدني؟ لم يفهم قولي، تحادث بالعبرية مع مجندة برتبة "جاويش" التفتت لي وقالت بالإنجليزية : ان زميلي لا يتحدث الا العبرية فماذا تريد؟ كررت عليها السؤال فأجابت : لقد فهمت ما تريد، ولكنني لا أعلم مكان وجود المسجد، فاستعانت بأحد أصحاب المحلات التجارية فوصفت لنا مكان وجوده فوصلناه بعد عناء ومشقة، فماذا رأينا؟ نوافذ محطمة ومغطاة بقطع من القماش الممزق، وحصير بال، ودورات مياه قذرة، وبضعة أحجار مكومة قيل لنا انها المنبر، ورجلان نائمان بداخله، ظللت "أتمحك" في أحدهما حتى أيقظته، فأخذ يحدثني عن مآسيهم التي يعيشونها صباح مساء ومنذ أكثر من ثلاثين عاما خلت من الحكم العسكري، إلى الإداري، إلى اثبات الوجود، إلى محاولات تهجيرهم بعد تدمير منازلهم، وسكناهم منذ سنوات فوق أنقاضها .. وحكايات أخرى كثيرة، عندما استيقظ الرجل الثاني أخبرنا بأنه مقيم حاليا في الناصرة، وسرد على مسامعنا بعضا من وقائع حياتهم هناك، وقد خلص إلى القول بأن اليهود يخشون انتقال المشاعر القومية من الضفة والقطاع إلى الجليل وإثارتها من جديد.
وقد ربَطْت – فيما بعد – حديث هذا الرجل بحديث الميجور جنيرال أفيغدور ابن غال قائد المنطقة الشمالية في حديثه إلى اذاعة العدو وقال فيه: "ان النصف مليون عربي من الجليل ينتظرون فرصة للإطباق علينا وخنقنا، انهم يزدادون تشبعا بروح النضال والقومية، وانهم يشكلون سرطانا في جسم اسرائيل"... ولا نامت أعين الجبناء !!


عكا .. وقبعة نابليون


أثناء وقوفنا على سور عكا العظيم التقيت بثلة من الشباب العرب يتحدثون باللهجة الفلسطينية، فانفردت بأحدهم وأخذت أحاوره فقال مجيبا على أسئلتي: اسمي عماد الدين، أنتمي إلى الطائفة البهائية، يوجد مدرستان عربيتان فقط في عكا، احداهما ابتدائية والأخرى اعدادية، وقد أنهيت دراستهما وأعمل حاليا في مصنع لتعبئة السردين، لي أربعة أخوة وأربع أخوات، عشنا حياة مضنية، وكان أبي حريصا على تربيتنا دينيا وقوميا برغم بؤسه وشقائه، ولقد اشتهر عنه بأنه أكثر متابع لنشرات الاخبار لأكثر من عشرين عاما، لكنه أصيب بصدمة نفسية عنيفة عشية هزيمة حزيران، فأخذ يهذى ويشتم ويلعن.. وبعد شهر واحد أصيب بشلل نصفي ألزمه الفراش، ومازلنا نعاني من رقوده الطويل واعذرني إذا قلت لك اننا نتمنى موته حتى يستريح وَيُريح!
نحن مؤمنون وواثقون بنصر الله. وصامدون صمود مدينتنا العريقة التي حطمت غرور نابليون عندما حاصرها عدة أشهر ولم ينلها، وعندما ملَّ من حصارها ويئس من فتحها قذف قبعته فوق سورها قائلا: يكفي ان قبعة نابليون دخلتك يا عكا!
ان اليهود لا يكترثون بالكلام، نشتمهم ونلعن أكبر شخصية فيهم فلا يكترثون، نوع واحد من الكلام لا يقبلون به وهو القدح في ديانتهم!
انني أكره السياسة، أبحث عن لقمة العيش فقط، وإذا كان لا بد من الحديث فأرجو من العرب أن يذكرونا كما يذكروا اخوتنا في الضفة الغربية وقطاع غزة.


حوار مع يهودي


• بئر السبع.. عاصمة النقب، ودرة صحراء فلسطين، ذهبنا اليها في احدى الأمسيات الرمضانية، لها عدة مداخل كجميع المدن الفلسطينية، فاليهود حريصون على ربط جميع المدن بشبكة منظمة ضخمة من الطرق .. هكذا أراد الخبراء العسكريون.
تحاوَرْتُ مع أحد اليهود فقال : أنا مغربي من الرباط، وصلت إلى البلاد قبل واحد وعشرين عاما، أولادي لا يتكلمون العربية، أمهم اسرائيلية من أصل نمساوي، هي أيضا لا تتحدث العربية، أنا فقط أتكلمها بطلاقة كما ترى ولم أنسها لأن أغلب زبائني من البدو الذين يعيشون في الصحراء، ألا تودون أن أزين لكم رءوسكم ولحاكم؟ رد عليه أحدنا مداعبا: لست مجنونا كي أطأطئ رأسي ليهودي، وأسلّمه رقبتي بسهولة أيضا، مَن الذي يضمن لي انك لن تذبحني؟ وهنا ضغطت بخفية على يد صديقي، فلم أشأ لهذه المحادثة أن تتطور لأبعد من هذا الحد !!


جولة في نتانيا


• أثناء تجوالنا في منتجع نتانيا على شاطئ المتوسط بالقرب من تل أبيب استوقفنا حارس يهودي في الخمسين من عمره، طلب أن نطلعه على بطاقاتنا الشخصية، فقال له أحد الزملاء مداعبا: أضروري ذلك؟ أجابه الحارس بعربية ركيكة: يا حبيبي.. إذا لم نحافظ على "أمن اسرائيل" دمرنا "المخربون" (يعني بهم الفدائيون)، ففي الاسبوع الماضي ارتشى أحد اليهود بمبلغ خمسين ألف ليرة مقابل ثلاثة كيلو جرامات من الديناميت، وقد استطعت أن أحبط المحاولة بمجهودي، ان الإسرائيليين لم ينسوا عملية دلال المغربي!
واستأنفنا تجوالنا على الشاطئ الفتان فاقتربت منا فتاة يهودية ترتدي "المايوه" وأخرجت من ثناياها بطاقتها الشخصية وعرضتها علينا قائلة: أنا بوليس وهذه بطاقتي، فأروني بطاقاتكم، ففعلنا . وبعد خطوات قليلة جاء شرطي آخر ليطلب الينا أن نفتح له آلة التصوير التي نحملها ليتأكد من عدم وجود متفجرات بداخلها، فأفهمناه أن ذلك يعني خراب "الفيلم" وأقسمنا له بخلوها مما يظن، ثم تركنا وانصرف فقلت للزملاء: أرجوكم ..هيا بنا قبل أن يحاسبوننا على نوايانا!!

مصر في القلب


• جلسة ممتعة جمعتني مع الحاج فارس في مدينة الخليل ذلك الشيخ الوقور الذي لا تمل الاستماع اليه، وبخاصة وهو يحدثك عن القضايا الدينية والقومية، ومن ضمن أقواله التي نصحني أن أعيها قوله: خذها يا بني من مجرب ولا تأخذها من طبيب، نحن كفلسطينيين ..شعبا وقادة، علينا أن نحترم جميع الدول العربية وشعوبها احتراما متجدداً وممزوجا بكل التقدير والثناء، ليس من الحكمة أن نخاصم أحداً، انهم جميعاً أصحاب فضل علينا، لكن أفضال المصريين لها مذاق خاص بالنسبة لنا، فلقد ضحوا بتضحيات جليلة لعل أعزها وأسماها ذلك التلاحم الدمي بيننا وبينهم ومن أجلنا أولا قبل ان يكون من أجلهم، ولعل من أبسطها كذلك فضلهم علينا في تعليم أبنائنا.
ان عدد المؤهلين الجامعيين في الشعب الفلسطيني يقدر ب 245 ألف مؤهل، نصفهم على اقل تقدير تخرجوا من المعاهد والجامعات المصرية، ولو لم يكن لمصر فضل علينا الا تعليم أبنائنا لكفاها ذلك تيها وفخراً على تعاقب الأيام .. وليجزي الله كل العرب والمسلمين خير الجزاء.

العروة الوثقى


حدثني أحد العمال العرب من العاملين في المشاريع اليهودية فقال: أعلم بأن الكثيرين منكم عاتبون علينا لعملنا مع أعدائنا، ولكن ماذا نفعل لو لم نعمل معهم ؟ افترض نفسك مكاني فكيف تتصرف لو كان ابنك مريضا ولا تملك أن توفر له الدواء؟ لو جاع أولادك، لو بليت ملابسهم أو ملابس أمهم؟ لو احتاج بيتك لضرورة من ضرورات الحياة، هناك مائة "لو" استطيع سردها عليك، كيف نتصرف والسلع كما ترى.. بنزين ونار، الغلاء يحرق فينا ونحن صاغرون للاحتراق.
ورحم الله نزار قباني اذ يقول:

يا مَنْ يُعاتب مذبـوحا على دمـــه             ونَـزْف شـريـانه، ما أسـهل العَتَبــا
من جَرَّبَ الكَيَّ لا ينسى مواجعَه            ومن رأى السمَّ لا يشقى كمن شربا
حَبْل الفجيعة ملتــفٌ على عنقـي             مَنْ ذا يعاتب مشنوقاً إذا اضطربا!

ليست مشكلتنا فردية، بل جماعية، هناك خمسة وسبعون ألف عامل عربي يعملون في المشاريع اليهودية المختلفة، في الطرقات، في المصانع، في المستوطنات، في المزارع، نحن في حاجة إلى قروشهم، وهم في حاجة إلى سواعدنا، الفرق كبير بين ما تسمعونه أو تقرؤونه، وبين ما نعايشه ونعانيه، نحن واقعون فعلا بين المطرقة والسندان، العدو محكم قبضته على مقدراتنا نواجذه منغرزة في لحومنا فماذا نفعل؟
قل لي هل ما زال في العرب من يتصور بأن اسرائيل "دويلة" وأنها ضعيفة؟ لا يا أخي أرجوك أن تبلغ هذه الفئة بأن اسرائيل أكبر من ذلك، وعليهم أن يعيدوا حساباتهم من جديد، فكل يوم تشرق فيه شمس عليها كلما ازدادت قوة وصلفا، لكنها في النهاية ليست القوة التي لا تقهر.. بل هي مقهورة فعلا إذا استمسكنا كلنا بالعروة الوثقى!
يا أخي ..أرى وجهك مُرْبَدّاً، فهل آلمتك الحقيقة؟ أجبته: ربما، فقال: إذا فلتعلم بأننا نتعايش والألم بثوانيه ودقائقه وأيامه، والله وحده العالم إلى متى؟ أجل إلى متى؟


لقاء مع مسئول


كامل خيري عمدة احدى القرى في قطاع غزة طلبت منه أن يحدثني باقتضاب عن أهم مشاكلهم المعيشية في ظروف الاحتلال فقال:
ان السلطات الاسرائيلية لم تقم بأية اضافات أو اصلاحات تذكر في المدن والقرى الفلسطينية التي يسكنها العرب وبخاصة في المناطق المحتلة عام 1967، مما يجعل هذه المناطق تبدو في صورة أقل ما توصف به أنها كالحة وكئيبة، هناك أمور ملحة نحن في حاجة اليها كتعبيد الطرق، وإنارة الشوارع، وتنفيذ شبكات المجاري وخلافه. والبلديات عندنا محدودة الموارد، وأغلب رؤسائها لا يحظون باحترام العدو مما يعرقل تسيير الأمور.
ثم هناك الضرائب الباهظة التي ندفعها لليهود، هل تتصور بأننا ندفع ضريبة عن كل شجرة نزرعها!
فمنذ بداية الاحتلال أحصوا عدد الاشجار المغروسة في المزارع والمنازل وإذا أردت استئصال شجرة أو غرس شجرة جديدة فلا بد أن تخبرهم بذلك ليقوموا بتسجيلها في سجلاتهم، والآبار الارتوازية الموجودة في مزارعنا وضعوا عدادات حسابية لها، ومحظور علينا أن نتجاوز رقما معينا حددوه لنا!
والليرة الاسرائيلية ميتة.. تافهة القيمة.. ودائمة الانخفاض.. ففي بداية حرب 1967 كان الدينار الاردني يعادل عشر ليرات، أما اليوم فهو يعادل 89 ليرة وما زالت تتدنى!
ثم هناك مصيبة المصائب المتمثلة في افساد كثير من أبنائنا وشبابنا، لم نعد نسيطر على سلوكهم.. لقد أغرقهم الاحتلال في حمأة الانحلال، انها خطة يهودية لئيمة لإفساد الشباب وأبعادهم عن الصراط المستقيم.. هناك المخدرات بأنواعها.. وحبوب الهلوسة، والجنس، والأفلام الساقطة.. إن اليهود ُيعبَّدون جميع الطرقات المؤدية إلى افساد الشباب وانحلالهم .. اننا نطالب جميع إخواننا العرب أن يقفوا بجانبنا، ولا يبتعدوا عنا ونحن نواجه أحلك الظروف، وأتعس الأوضاع.

أسبوعان من الزمن قضيتهما بين الأهل والاعداء، ثم عدت إلى عمان وفي طريقِ العودة لم أشعر بوعثاء السفر، فلا خضعْتُ ولا خضعتْ الحقائب لأي تفتيش.. وفي الدوحة تساءلت مراراً: هل أنا سعيد بهذه الزيارة أم غير سعيد؟ لست أدري!!
نبيل خالد الأغا

 

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على أ. نبيل خالد نعمات خالد الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد