مقالات

خواطر الذكريات- د. زكريا إبراهيم الأغا


أخي الحبيب أبا خلدون ،،،

أثناء قراءتي لمقالتك الرائعة المنشورة على موقع العائلة يوم الخميس 2/6 حول الشاعر الفلسطيني الشهير المرحوم أحمد فرح عقيلان ، عادت بي الذاكرة إلى الوراء لسنوات طويلة خلت تزيد عن ستة عقود . كنا آنذاك اطفالاً في عمر الورود وفي بداية مرحلة الدراسة الإبتدائية وبعد النكبة مباشرة وما صاحبها من ويلات وكوارث تركت أثارها علينا كأطفال ونمت لدينا الوعي والإدراك وحملنا الهم الوطني مبكرين . ولقد أكرمنا الله في ذلك الوقت بأن حبانا في هذه الفترة المبكرة من أعمارنا وفي بداية تجربتنا مع المدرسة بمعلمين عظماء قادرين لديهم التجربة والإرادة والإنتماء الوطني الصادق.. كانوا شباباً يافعين ولكنهم يتميزون بالوعي العميق وإدراك حجم المسئولية التي اوكلت اليهم . لم يكونوا مجرد موظفين يؤدون عملهم مقابل الأجر فقط بل كانوا يمثلون بالنسبة لنا بالإضافة الى مهنتهم المثل الأعلى في كل شئ .. كانوا يمثلون لنا الأب والمرشد والمسئول الواعي وكان همهم الأكبر أن يزرعوا في نفس كل طفل الأخلاق الحميدة والمعرفة والثقة بالنفس والأمل في المستقبل وحب الوطن .

من هؤلاء الرجال الذين تولوا أمورنا في تلك الفترة الأساتذة سامي ابوشعبان ، الأستاذ جرير القدوة ، الشيخ محمد ابوسردانة، الأستاذ احمد فرح عقيلان ،الشيخ زكريا الأغا، الأستاذ عصام الأغا، وغيرهم العشرات من المربين المتميزين الذين لا تزال الذاكرة تزخر بذكراهم وتحفظ لهم المحبة والتقدير والإحترام في قلوبنا.

كان أول عهدنا بالأستاذ القدير والشاعر النجيب احمد فرح عقيلان في الصف الثاني الإبتدائي عام 1950م حيث كان مربي الفصل ومدرس اللغة العربية ايضاً .وأشهد وأقر أنه كان له الدور الرئيسي في محبتنا وإجادتنا للغة العربية وأنه زرع فينا الأساس القوى لهذه اللغة والذي لازالت أثاره باقية حتى اليوم . كان يعلمنا كيف تقرأ اللغة العربية قراءة صحيحة وكيف نكتب بخط جميل ، كما زرع فينا المنافسة وثقة النقاش وجرأة السؤال .

وأذكر هنا أننا في إمتحان نهاية العام للسنة الثانية الإبتدائية وكان يجري لأوائل الفصول إمتحان شفوي في اللغة بالإضافة للإمتحان التحريري أنه سألني سؤالاً وقد كان يجلس بجانبه استاذي المرحوم الشيخ زكريا الأغا وكان يدرس اللغة العربية للفصل الآخر في المدرسة " لماذا يشبه الناس عرف الديك بالتاج وقد اجبته بأن التاج هو رمز الملك الحامي للبلاد ، والعرف رمز لديك راعي وحامي للدجاج ومن هنا جاء التشبيه وقد سر كثيراً من الإجابة وعانقني وقتها رحمه الله .
ومنذ ذلك الوقت إزداد إعجابي وتقديري ومحبتي لهذا الأستاذ الكبير وكنت أتابع كل أشعاره وأذكر أن أول ما سمعته من قصيدة أنشدها بمناسبة رفع العلم الفلسطيني على سارية مدرسة خان يونس الوحيدة آنذاك ( القسام حالياً) ومن ضمن هذه القصيدة ابياتاً يخاطب فيها العلم :

ذكرتني عمــراً والقــدس تــرقبـــــــه   وموكب النور يسرى في الدجنات
ذكرتني يوم كان الدهر يرهبنا   عزاً مضى بكت عينى على الأنى
بكت على علم أن قال والهفى   كان الجــــــــــواب له نــــــــوح اليــــــتيمــــــــات


وبعد ذلك كانت قصيدته المشهورة عام 1953م بمناسبة نقل رفات الجنود المصريين من غزة لمصر وكان الإحتفال في محطة السكة الحديد في مدينة خان يونس ، حيث كان القطار المقل لرفات الشهداء يستعد للتحرك نحو القاهرة وكنت حاضراً هذا الإحتفال .
وقد ذكرت أخى ابوخلدون بعضاً من أبيات هذه القصيدة وأحب أن اضيف إليها بعض الأبيات الأخرى قالها على لسان الشهيد :

درجت على البسيطة عســـــــــكرياً   وصرت لواء الوية عظـام
وقد كشف المهيمن على يقيني   وأطلعني على سر الأنـــام
ستنشب ثالث الحرمين حتمــــــــــــاً   فما بين المبادئ من سلام


وقد كان المرحوم الشيخ فهمي حاضر الحفل حيث القى كلمة مؤثرة بدأها بقوله :

يا سائق القطار تمهل وامش الهوينا

  فأنت تحمل أشرف من في الدنيا


أما قصيدته الشهيرة حول موقعه بمدرسة الزهراء فقد كان لها قصة حيث كان الشهيد مدرساً في خان يونس ويسكن في غزة ولقد شكا كثيراً للأستاذ / بشير الريس مدير التربية والتعليم في ذلك الوقت وطلب منه أن ينقله حيث يسكن فأخبره أنه لا يوجد فراغ في مدارس غزة إلا في مدرسة الزهراء للبنات أو إلى مدارس جباليا فتردد في البداية ولكنه قبل أخيراً بالنقل إلى مدرسة الزهراء كونها أقرب إلى سكنه ، وأريد أن اضيف إلى ما ذكره أخي نبيل من أبيات هذه القصيدة ابياتاً أخرى ابدؤها ببيت أشار فيه للأستاذ بشير الريس وما عرض عليه :

وقال بشير ستمضى هناك   حياتك في روضة مزهرة
ولو كنت أدرى بهذا البلاء   رضيت بنقلي إلى بـــربـــرة


وفي قصيدته يشير إلى حوار دار بينه وبين والدته عندما تم نقله إلى مدرسة الزهراء :
 

ووالدتي من بقايا العصور   نموت من المرأة المســـــــــــــــــفرة
تقول أتدخل صف البنات   وعينك فاتحــــــــــــــــــه مبصــــــــــــــــــــــره
فقلت لــهــا يا رعـــــــاك الإله   ونولك الميتــــــــــــــــــــــه الخيــــــــــــــــــــــــره
ايغمض واحـــــــــدنا مقلتيــــــــــــه   فيصبح كالبغل في المعصرة


رحم الله استاذنا الكبير وشاعرنا العظيم الأستاذ احمد فرح وجزاه خير الجزاء بما قدم لوطنه ودينه وأمته . وقبل أن أنهى هذه الخواطر لابد أن أشير إلى زملاء الصبا ورفاق الدراسة في باكورة شبابنا من أبناء العائلة ويأتي على رأسهم أخي العزيز أبو خلدون وأبن عمه الحبيب والصديق الوفي الأستاذ يونس عبد (جسورة) ، والأخ المعتز بالله حلمي والأخ الأستاذ وائل خليل والأخ د. رياض فهمي ، وقد كانت لي معهم الكثير من الذكريات العزيزة على النفس ولا تزال محفورة في الذاكرة أمد الله في أعمارهم جميعاً .


وبعد فالذكريات كثيرة وغالية والأحباب في مسيرة الحياة كثيرون بعضهم ترك هذه الدنيا وشقاءها والبعض أطال الله في عمره لا يزال قابضاً على الجمر يؤدي دوره الذي اختاره له القدر .. لكل هؤلاء الأحبة والأصدقاء والخلان كل الحب والتقدير والإحترام .


د. زكريا ابراهيم الأغا

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على الدكتور زكريا إبراهيم سليم الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد