الاغا يروي ذكريات رمضان في خان يونس قبل أربعين عاما ..الديوان يجمع الأهل والجيران في بيوت فلسطين على الإفطار.
الروحانية بكل معانيها تتجلى في المسجد الأقصى ورائحة دم شهدائه لا تزال تفوح
شوربة العدس وقمر الدين والسوس من أساسيات المائدة الفلسطينية في الشهر الكريم
الدوحة – كوكب محسن - نقلا عن جريدة الشرق القطرية:
للذكرى اثر لا ينسى محفور في النفس كنقش الحجارة، وعندما يصبح الوطن املا وحلما بالعودة وجمع الشمل تصبح الايام الخوالي كل ما نملك في مواجهة تحديات اليوم ومصاعب المستقبل هذا اول ما تبادر الى ذهني عندما فتح سعادة د.يحيى الأغا المستشار الثقافي بالسفارة الفلسطينية بقطر قلبه لـ "دوحة الصائم" ليتحدث عن ذكرياته الرمضانية في وطنه الام قبل اربعين عاما وسط الاهل والاصدقاء بحلوها ومرها.
وقبل ان يتحدث سعادته عن بلده المحبوب آثر ان يرفع التهنئة القلبية اولا إلى حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وولي عهده سمو الشيخ تميم بن حمد، والحكومة والشعب القطري بهذه المناسبة متمنياً من الله أن يعيدها على قطر بالخير والأمن والأمان، وكذلك إلى الرئيس محمود عباس، والحكومة والشعب الفلسطيني والجالية الفلسطينية بدولة قطر، متمنياً من الله أن تتحقق آماله وأمانيه في دولة مستقلة أسوة بباقي شعوب الأرض وان يعيد هذا الشهر بالخير والنماء عليهم جميعا.
ثم استطرد قائلا: يطل شهر رمضان هذا العام على الشعب الفلسطيني وأملهم أن تتحقق أحلامهم وطموحاتهم، بقيام دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، ورغم هذا الانتظار الطويل من أجل هذا الهدف، إلا أنهم عاقدو العزم على أن هذا اليوم سيأتي مهما امتد الزمن.
واضاف: ربما كان العام الماضي أفضل من هذا العام، لأن رمضان يُقبل وحوالي 70./. من فلسطين تحت خط الفقر وهذا سيؤثر سلباً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل كبير، ان حال الفلسطينيين لا يسر على الإطلاق، أيعقل في القرن الحادي والعشرين، ومازال شعب يستجدي طعامه وشرابه؟! أيعقل أن تعيش أُسر فلسطينية على فضلات دول من هنا وهناك؟ أيعقل اليوم ألا نجد طريقاً لتحويل جزء من زكواتنا إلى أهلنا في غزة والضفة؟
يقبل رمضان وحوالي عشرة آلاف معتقل في سجون الاحتلال، ومازالت الاعتقالات تطال الناس جميعهم سواء من الاحتلال، أم من ابناء جلدتنا! رمضان يُقبل ومازلنا بين فكي كماشة، لا نعرف ماذا تخبئ لنا الأيام التالية.
يُقبل رمضان والحصار مازال يحرم مليونا ونصف المليون فلسطيني من الحياة الحرة الكريمة! يُقبل رمضان ولا تواصل مع أهلنا في فلسطين، يُقبل رمضان وإخوة الجهاد تجري بين أرجلهم دماء بريئة!
رمضان يُقبل وتزداد معه الأسوار حول المسجد الأقصى لتحول دون الصلاة فيه، رمضان يقبل ومازال شطرا الوطن يئنان من الانقسام غير المنطقي ولا الأخلاقي، يُقبل رمضان ولا يوجد فلسطيني آمن في صلاته وصيامه وقيامه، وتراويحه! هل يوجد في عالمنا المتحضر اليوم شعب يعاني مثل الشعب الفلسطيني؟
ورغم ذلك فنحن شعب يحب الحياة، ويُقبل عليها من أجل المحافظة على أمانة الآباء والأجداد لاستعادة الأرض، وعليه ففلسطين كغيرها من الدول الإسلامية تحتفل بشهر رمضان احتفالاً يتوازى مع القيمة الروحانية لهذا الشهر، والمكانة التي يحظاها رمضان عند الله سبحانه وتعالى، فهو ليس كباقي الشهور، وهو شهر الله، وبالتالي فإن المسلمين ينسجمون مع هذا التوجه بشكل كبير.
وحول العادات الدينية الفلسطينية في رمضان يقول د . الاغا: هناك صلة وثيقة بين الناس والقرآن، من خلال إحصاءات جديدة فإن أبناء فلسطين من أكثر الدول حفظاً للقرآن الكريم، ويزداد هذا في رمضان بشكل ملحوظ، حيث يُقبل الجميع من كافة الأعمار والأجناس على تلاوته، وحفظه، وتزدحم بيوت الله بالمصلين في جميع الأوقات.
كما تكثر حلقات الدرس بشكل كبير، حيث تتنوع الحلقات بين قراءة في التفسيرات لكتاب الله، وحلقات في فقه السنة، وأخرى في دروس حياتية وقصص الأنبياء، ويقوم على هذا كله أناس متخصصون، يتم تعيينهم من قِبل شؤون المساجد ووزارة الأوقاف.
ولرمضان عادات وتقاليد خاصة تختلف عن باقي شهور السنة، هذه العادات لن تمحوها ذاكرة الزمن عن الفلسطينيين، يتوارثها الأبناء عن الآباء، والأجداد، حتى تبقى راسخة.
وفيما يتعلق بالمأكولات الرمضانية فيمكن القول ان هناك استعدادات مبكرة للشهر الفضيل، فرغم ضيق ذات اليد، فإن مكرمات الله أوسع، حيث تبدأ الاستعدادات من شهر شعبان، فيتم تجهيز (المونة) للشهر الفضيل، والمونة يُقصد بها ما يتم استخدامه يومياً على طبق الإفطار، ومنها شوربة العدس، وقمر الدين، والسوس، والسلطة ومكوناتها خاصة فيما يُسمى لدينا (الزبدية) وهي كالصحن مصنوع من الفخار، فالبركة تحل في كل مشترياتنا، وهنا تبدأ الأسرة بشراء احتياجات البيت التي تختلف عن الأيام العادية (المأكولات – المشروبات) فيكثر شراب السوس، وقمر الدين.
اما العادات الاجتماعية ففي اليوم الأول من رمضان تجد الأب يدعو أبناءه وبناته وأنسباءه وأصهاره لتناول طعام الإفطار سوياً، يلتقون على مائدة واحدة، وطعام واحد، تجمعهم طاعة الله، رغم تفريق السياسة والأحزاب لهم أحيانا.
وبعد الإفطار يؤدون الصلاة جامعة في حب ووئام، وهكذا نجد هذا في معظم البيوت الفلسطينية.
فلسطين تزداد في هذا الشهر الفضيل، وتنمحي جميع التحزبات من قواميس العقلاء من أبناء فلسطين، شعارهم التآخي طاعةً لله، ورغبة في فتح صفحة جديدة من الحياة الكريمة.
يعلمون أن في هذا الشهر تتفتح أبواب الجنان، وتُغلّق أبواب النيران، لهذا يقبلون على الطاعة بشكل لا سابق له، طلباً للغفران، وتكفيراً لذنوب اقترفتها أيد وأرجل وألسن وأعين، وهنا تمتزج في المساجد دموع المستغفرين بلحاهم، يأملون في استجابة ربانية لهم.
وفي رمضان يحلو السهر اجتماعياً كما يقول المستشار الاغا، فتذوب كل الحواجز بين إخوة الدين والعقيدة.
كما يجلس الكثير أمام شاشات التلفزيون يتابعون المسلسلات الدينية والاجتماعية والتاريخية.
وهناك العديد من أنواع الأطعمة التي تتصل برمضان كالقطايف بنوعيها المحشو مكسرات، حسب الأذواق، (العوامة والكنافة بأنواعها).
وأذكر قبل ثلاثين عاماً عندما كنت في الوطن (خان يونس) ما أن يُعلن عن رمضان حتى تجد التواصل العائلي بين جميع الناس، فكان يحضر جميع أخوالي لبيتنا لتهنئة والدتي، وكل حامل بين يديه ما تجود به اليد (تفاح – موز – حلويات – وغير ذلك) وهذا يعكس ما لرمضان من مكانة لدى الجميع، حتى كانت أمي (رحمها الله) وهي الأكبر سنا من بعضهم تقبل أياديهم لحظة الدخول والخروج، وتلك العادات بدأت تنقرض عند بعض الناس، رغم اختلاف المعاني في هذا الزمن وذاك الزمن.
ويعود سعادته الى الذاكرة ليسرد لـ (دوحة الصائم) جزءاً مما يقال قبل دخول هلال شهر رمضان.. بالعامية
إجى شهر شَعبان *
يعني قَرّبَت الفَجّعَه
وبَعدو رَمَضان
إللي بيٍدّبح ديك...
وإللي بيدّبح فرّخَه
ويٍمكن زَغاليل...
ويٍمْكِن بَطْ...
ويٍمْكِن أرانِب
كلّو مِن الدّار
إللي بيٍفتِل مَفّتول
وإللي بيخّبز فَراشيحْ
كلّو عشان الفجّعه
يمكن بُكّره...
ويمكِن بَعّدو صّيامْ
يمكِن بُكره نِتسَحّر
يمّكِن نّصلي التّراويحْ
يمكِن نِفّطر في الدّيوانْ
نحُطّ الأكل على الطّبَق
ونُقْعُدْ نستنى المغرب
الأبو وحواليه أولادو
وجنبو أخوه وعمو
ويمكن ان عمو
كلهم حوالين بعض
وجنب بعض...
وبحبوا بعض..
إللي بٍسَبِّحْ واللي بتحدّت
إللي عامل دَقّّه بطحينه حمّره
وإللي طابخ سلق و عدس
وإللي جايب فجل أحمر
وبصل اخضر
شهر الخير يارمضان
القطايف والقمر دين
شهر السهر والتلفزيون
شهر التمسيليات ...
والكلام الفاضى
شهر عباده وتوبه
شهر العشره الأواخر
شهر ليلة القدر
قبل العيد...
الخَتْمَهْ...
يخبزوا فراشيح
إمْ علي في الديوان
إلي بيعمل بيعّزِم إللي بيعملش
بيفطروا إم علي
وبيستنوا العيد
وقبل العيد الكعك
زحمه كتير عند البياعين
الكل بدو آله الكعك
لما يجي العيد
من الصبح بدري
كل لزغار بيستنوا العيديه
التّعْريفَه والقِرش
والقرشين اللي الهم قرَن
والشِلِمْ والبَريزَهْ
عالدّكان يشتريوا حامض
دُرُبْسْ ونَمْورَه...
كُلْ شَعْبان وأنتو بخير
وكل فَجْعَه وأنتو بخير
وكل رمضان وأنتو بخير
وكل سنه وانتو بخير
وبالطبع لا يذكر رمضان الا ويذكر المسجد الأقصى اذ يقول د. الاغا: يأتي رمضان وذكرى إحراقه مازالت تعيش بين ظهرانينا، ما أن يكتب أي إنسان عن المسجد الأقصى إلا وينتابه شعور بالخوف خاصة لمن صلى به ذات يوم، ووقف في المكان الذي صلى به الرسول الأعظم بالأنبياء قبل رحلة السماء، هناك تتجلى الروحانية بكل معانيها، هناك يلتقي الإنسان بخالق الإنسان، ويتعلق قلبه برب العباد، هناك ترتاح النفس من مصائب الدنيا وويلاتها، هناك حيث يتوافد المسلمون في رحلات يومية للصلاة في المسجد الأقصى، هناك فلسطينيو 1948 مازالوا يمسكون بتلابيب هذا المكان حتى لا تتفرد إسرائيل به، وبالقرب من ذلك المكان، الحرم الإبراهيمي الشريف، ومازالت رائحة دم الشهداء الذين سقطوا أثناء صلاة الفجر تفوح، ورغم ذلك فالفلسطينيون يجاهدون من أجل الصلاة في هذا المسجد، ويتوافدون ليلاً ونهاراً من أجل طاعة الله.
وحتى الان لا تزال هناك بعض العادات التي يحرص عليها الفلسطينيون فبالرغم من احتلال فلسطين ودخول ثقافة غريبة علينا، إلا أن بعض العادات راسخة منها: يلتقى رجال العائلة في الديوان، وبالمفهوم الخليجي (المجلس) حيث ترسل البيوت إلى الديوان ما يتم طبخه، ويتحلق الرجال، والضيوف الذين يتأخرون في العودة إلى منازلهم أمام الإفطار، وهذه العادة ربما بعض العائلات مازالت تحتفظ بها حتى الآن.
ومن ذكريات رمضان قبل أربعين عاماً:
ذات يوم وكان المطر منهمراً بشكل غير طبيعي، قرع جرس الباب ساعة السحور، وإذا بسيارة شرطي تقف خارج السور، فارتعبت، وقلت له ماذا تريد؟ وكان هذا زمن الاحتلال الإسرائيلي للقطاع وتحديداً عام 1969 فقال جئنا نأخذ والدك للمسجد، حيث المطر شديد ولا يستطيع الوصول في الموعد المحدد، وكان والدي (رحمه الله) إمام وخطيب مسجد خان يونس الكبير مدّة أربعين عاماً.