مقالات

أسمارٌ وفناجينُ قَهْوة 1- أبوالوليد

بسم الله الرحمن الرحيم

 

                                

                                        دَوْحةُ المجْد

الحمد لله والصلاةُ والسلام على رسول الله؛ أما بعد:

أنا والقلم:

فإن بيني وبينَ القلمِ -تَحدَّثاً بِنِعْمةِ اللهِ- مودَّةً تَرْبُو على مَوَدَّةِ الشقِيقِ لشَقيقِهِ؛ والوالدِ لَولَدهِ وَوَحيدِهِ؛ بل والأُمِّ الرَّؤومِ لِيَتِمِها.

وفُؤادِي –بحمد الله- أفْرغُ لتَحْصِيلِ العلمِ والمعرفةِ مِنْ قَلْبِ مَنْ لم يَعْشَق!، لا أَجدُ أُنْسَ النفسِ وَرَاحَةَ البالِ إلا في ذلك؛ ومَنْ يعرِفْ المطلوبَ يَحْقِرْ ما بذَل.

نَعَمْ؛ وليسَ من العَسِرِ عليَّ -إن شاء الله- أنْ أُجْريَ القَلمَ في أفانينِ الكلام؛ وأن أَرتَعَ بهِ في مَرابِعِ البَيان؛ وأن أُرْخِيَ له حَبْلَ المراحِ في ضُروبِ البلاغَة؛ فَأصْبِغَهُ بما أُحبُّ من الألْوانِ والتي أضْحَتْ كأَلوانِ الناسِ كثْرَةً وتَبَايُناً؛ حتىَّ أجْعَلَ مِنَ الأبْيضِ حالكَ الليل؛ وأردَّ الأسْودَ كبياضِ النهارِ؛ على نَهجِ الساسانِيّينَ في الحِيَلِ؛ وكما يَصْنعُ كثيرونَ؛ وإن من البيانِ لسحراً!!.

أحمرُ الياقوت:

إن الذي يَنُوءُ بِي أمانَةُ الكلمَة؛ وأنها بينَ جناحَيْن؛ جناحِ داءٍ وجناحِ شِفاءٍ؛ وأنها تَتَّقي في الأغْلبِ بِجَناحِها الذي فيه الداءُ!؛ ثم إن أكثرَ الناسِ عندَ هذا يَقِفُونَ؛ وعما سِواهُ يُعْرضُون!، أما مَنْ يدْفع الداءَ بالشفاءِ؛ وبالتي هيَ أحسنُ السيِّئَةَ فَأندرُ مِن أحْمرِ الياقُوتِ ومن حلالِ القُوت!!.

وأخرى هيَ أختُ هذه وما هِيَ دونَها بِحال؛ وهيَ أنَّ التِقاطَ الأحسَنِ من الكلامِ -وقد أمِرْنا به- كالتِقاطِ الدرِّ من البحْر، ومادَّةُ الإنسانِ وإن كانتْ كثيفَةً أرْضيَّةً إلا أنَّ رُوحَهُ في الأصْلِ شفافَةٌ سَماويَّةٌ؛ والثانيةُ هي التي تَعقلُ الخِطابَ والكَلمةَ، ولذا كانَ اللينُ في الكلامِ أوْفقَ لها مِن الخُشُونَةِ والغِلْظَةِ فيه.

ورُبَّ كلمَةٍ تَحثُّ رِجالاً وتأخذُ بأيديهم إلى مَصافِّ الرُّوادِ الأوَّلين؛ وأُخرى تَحُطُّهم إلى مَقامِ (التَّنابِلَةِ) المُؤّخَّرين!.

وهذا مقامٌ قلَّ منْ يفوزُ به؛ والمَخدوشُ فيه أكثرُ من السالم؛ ولا عاصمَ من أَمرِ الله إلا مَن رَحِم.

قصةُ العيدروس:

جمعَني منذ سِنينَ عِدَّة مَجْلسُ سَمَرٍ معَ بعضِ النُّدماءِ والأصحابِ –والليلُ كما يقالُ نَهارُ النُّدَما- في ساعاتٍ شَبَّهتُ ليلتَها بَعَروسٍ من الزِّنْجِ عليها تاجٌ مُرَصّعٌ بالدرِّ والياقوت، تَحْكي نَسَماتُهُ قولَ امرِئِ القيس:

إذا قَامَتا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُما     نَسيمَ الصَّبا جاءتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ

فقالَ بعْضُ الرَّفاقِ؛ وقد أفصحتْ منه قبلَ كلامِهِ الأحْداق: يا عَم؛ لولا مَتَعْتَنا بِبَعْضِ حَديثِك!.

فَأجَبْتُهُ إلى مَرْغُوبِهِ؛ وأسْعَفْتُهُ بِمَطْلُوبِهِ؛ وقُلتُ وقَهْوَةُ البُنِّ علينا تُدار؛ وقدْ طابَ الحديثُ بَيننا ودار:

قُمْ هــاتِها كالمِسْكِ صافِيةً     تَشْفِي العَليلَ وَشَنِّفِ لِي الفَناجِينا

                  لَقَدْ دَعَتْنـا إِلَى إِحْياءِ أَنْفُسِنا        ولوْ دَعَتْنا إلى ما فِي الفَنا جِينَا

                  لو أَنَّ ألْفَ قَتيلٍ نَحْوَ ساحَتِها      أَمَّوْا لَكُنْتَ رَأَيتَ الألْفَ ناجِينا

                  فَواعِدِينا اللّقَا رغْماً لِعَاذِلِنـا       وَإنْ رُمْتِ إِسْراراً فَناجِيـــنا

فتَحرّكَ لها الأصحابُ والله طَرَباً؛ وهَزُّوا اللِّحى والأَقْدامَ عَجَباً!؛ وقالوا: لو ضَمَمْتَ إليها ثَانِيَة؛ وأَعْتَقْتَ الفائدَةَ من أَنْ تَبْقى عِندَكَ عانِية؟!.

قُلتُ: ذكرَ جَماعَةُ المؤرِّخينَ؛ ومَصَنِّفُوا الطَّبَقاتِ والتراجِم؛ أنّ العَيدَرُوسَ اليَمَنِيَّ الفَقيهَ –وكان في القرنِ العاشِرِ الهِجريِّ- هو أول من اكْتَشَفَ الشرابَ المَعْروفَ بِقَهْوةِ البُن؛ وكانت تُعْملُ من قُشُورِ البُنِّ أولَ الأَمْرِ؛ قَبل أنْ يتخذَها الناسُ من ثِمارِه!؛ والفَضْلُ للمُبْتَدي وإن أحْسَنَ المُقْتَدِي.

وقدْ كان الشيخُ رحمهُ الله يَشْربُها؛ ويَحُثُّ على شُرْبِها تَلامِذتهُ وأتْباعَه؛ لأنَّها تَبْعَثُ على النشاطِ في العِبادَةِ وتُعينُ على قِيامِ الليل!!.

وَوَجَدْتُ نحو هذا فيما بَحَثَهُ العَلامَةُ ابْنُ حجرٍ العَسقلانيُّ رحمهُ الله؛ وعنهُ نقلَ مُحمدُ بنُ عبد الله الوَزَّانِيُّ الشريفُ المالِكيُّ المتوفَّى سنة واحدٍ وأربعين وثلاثمائةٍ وألفٍ للهجرة في النوازل الصغرى، وفي الكتابين أنَّ شرابَ البُنِّ المذكورِ عُرفَ أواخرَ القرنِ الثامن الهجريِّ؛ وأن العُلماءَ رَحِمَهمُ الله قد بحثوا في شأنهِ وحُكْمُهِ؛ وكثُرتْ حولهُ المُشاوَراتُ والمُناظراتُ؛ وصُنِّفتْ فيه المُصنَّفات؛ بين مادِحٍ وذام؛ وبَينَ ناهٍ عنه ورافِعٍ عن شارِبهِ الملام، وأن الشيخَ الشاذليَّ اليَمَنيَّ رحمهُ الله –وهو غير الشاذليِّ المصريِّ- كان يشربُهُ ويحثُّ على شربهِ؛ بل ويَعُدُّ شُرْبَهُ عبادَةً من العِباداتِ!؛ لأنهُ مُعينٌّ على قيامِ الليل؛ رَدَّا على من لم يُبِحْ شُرْبَهُ لِعِلَلٍ يُطولُ حِكايَتُها.

فبادَرَ أحدُ الجلساءِ قائلاً؛ وكأنما يَحتجُّ عليَّ أنْ تَوَقَّفْتُ عن الكلام: ما زِدْتنا بهذا إلا وُلُوعاً وشوقا للمَزيد؛ وليتكَ تأتِي على أَطرافِ الحديثِ حتّى لا تَدَعَ اسْتِزادَةً لِمُسْتَزيد؛ وما مِن فائدةٍ إلا وهيَ أحقُّ بأُخْتِها وتَوْأَمِها؛ والدرُّ مَنْظوماً أحْسنُ مِنهُ مَنثُوراً؟!.

قلتُ: نعم؛ إن الكريمَ لو دُعِيَ إلى طَعْنَةٍ لأَجَابَ؛ وما بي ضِنَّةٌ على نَفْسيِ ولا عَليكم؛ غَيرَ أَننِي رَأيتُ في مَنْثُورِ الحكْمَةَ قولَهم: إن الكلامَ على الكلامِ كالطعامِ على الطّعام!؛ وفي هذا البابِ من غَرائبِ الرواياتِ؛ وعَجائِبِ الحِكاياتِ؛ وجَواهِرِ المَنثُورِ؛ وَدُرَرِ المنْظوم ما حَمَلَني على إِفرادِهِ بِتَصنيفٍ فردٍ في بابهِ وهو من مُلَحِ العِلم؛ لكننى آتِي على جُمْلةٍ منه في ليلةِ سَمَرٍ أخرى إن شاء الله.

وتأمَّلْ يا بُنَيَّ إن شئتَ قبلَ انصِرافك في صنيعِ الشيخِ العيدَرُوس؛ وكيفَ كانتْ كلِمَتُهُ سَبباً جَعلَ تناوُلَ المُباحِ طاعَةً لله تعالى وقُرْبَةً إليه سُبحانَه؛ لتَعْلَمَ قيمَةَ الكَلِمةِ؛ وأنني مُحقُّ لو قُلتُ لك: إنَّها تُرْهقُ كاهلي وتُكَلِّفُني الكَثيرَ من الجُهْدِ والثَّمن؛ وقد جرى لسانِي مِنْ قبلُ بِقَولي:

لكِنّنِي صَلْبُ المِراسِ وَأَتَّقِي       بالصبْرِ كَرَّ المُدْلَهِمِّ الأَدْهَمِ

وأنا أعُوذُ بِالله مِنْ أن أقولَ مالا أَفعَلْ؛ وأرَى لزاماً عليَّ أن أَرْعى أمانَةَ القَلَمِ ولو في حَديثِ سَمرْ.

والحمد لله أولا وآخرا.

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على الأستاذ خالد فتحي خالد حسين قاسم الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد