بسم الله الرحمن الرحيم
رحمانيّات ربانية للآمة المحمدية
(3) ‘‘ قََدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ’’
المتقّون الصادقون
بقلم : المنتصر بالله حلمي الآغا
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الحبيب سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأل الله تعالى أن ينعم علينا بالإيمان الكامل وأن يهدينا سواء السبيل ، وأحمده تعالى أن منَّ الله عليَّ بهذه الزاوية الطيبة وأسأله أن يجعل ثوابها في ميزان حسنات المؤمنين ومن كان سبباً فيها ، اللهمَّ آمين .
إطلالتنا القصيرة اليوم على المؤمنين وأحوالهم وصفاتهم كما وصفهم الله تعالى في القرآن الحكيم . فالمؤمن يعمل لآخرته لإدراكه أن العمر قصير مهما طال لأنه ذاهب إلى ربه فملاقيه مستيقناً بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم:‘‘ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ’’ ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم:‘‘ ألا إن الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلاّ ذكر الله تعالى وما والاه إلاّ عالماً ومتعلماً ’’ ، وجلّنا يدرك أن المؤمن يتشوق للقاء الله سبحانه وتعالى خالياً من الذنوب حتى لا يُناقش الحساب فيُعَذَّب .. من أجل هذا يجتهد المرء المسلم في ارتقاء سلّم الإيمان . والمؤمن يدرك أنه كلما زاد عمره يوماً اقترب من الموت وأنه آتيه في أي لحظة ، فيجتهد في عباداته ويراجع إيمانه وسلوكه وطمأنينة نفسه وقربه أو بعده من الله سبحانه وتعالى ، لذلك فإن الخوف والرجاء عنده حاضر بين يديه مستذكراً قول رسول الله صلّى الله عليه وسـلمّ:‘‘ من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره على شرّه فليجهز نفسه للنار’’ . والمؤمن يطمع في رحمة الله تعالى ولا يجهز نفسه للنار والعذاب بل يجتهد لينعم بجنّة عرضها السموات والأرض مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أعلى جنان الفردوس ، وأمَّا الطمأنينة فلها دلالات .
جاء في الحديث الشريف عن الحسن البصري رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:‘‘ المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ به ، وبين أجـلٍ قد بقيَّ لا يدري ما الله قاضٍ فيه . فليتزود العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لأخرته ومن حياته لموته ، فوالذي نفس محمدٍ بيده ما بعد الموت من مستعتب ، ما بعد الدنيا دار إلاّ الجنة أو النار’’ ،
سألت السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الآية الكريمة (60) من سورة المؤمنون فقالت:‘‘ والذينَ يُؤتُونَ مَآ ءَاَتَواْ وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أنهُمْ إلى رَبِهِمْ رَاجِعُونَ ’’ أهوَ الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزَّ وجلَّ؟ فقال لها:( لا يا بنت الصديق ! ولكنه الذي يصلى ويصوم ويتصدق ، وهو مع ذلك يخاف الله عزَّ وجل ) .
وروى البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:[‘‘ لما خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها: تكلمي فقالت:‘‘ قد أفلح المؤمنون ’’ فقال: طوبى لك منزل الملوك ’’ . وفي رواية للبزاز أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:‘‘ خلق الله تعالى الجنة لبنة من ذهبٍ ولبنة من فضة وملاطها المسك والأذفر: أي طينها الذي بنيت به وقال لها:تكلمي ، فقالت:‘‘ قد أفلح المؤمنون ’’ ثم دخلها الملائكة فقالوا:( طوبى لك منزل الملوك) وفي رواية:( الجنة لمّا تكلّمت قالت: طوبى لمن رضيت يا ربِّ عنه)] .
والله تعالى يذكر المؤمنين في القرآن الكريم في مواقع كثيرة ويخاطبهم في عديد من السور والآيات بقوله تعالى:(يا أيّها الذين آمنوا..) ويواسيهم ويعدهم بالنعيم ، وتكريماً لهم ولمكانتهم أفرد الله تعالى في القرآن الكريم سورة كريمة باسم (المؤمنون ).
وروى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:‘‘ كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي يُسمع عند وجهه كدويِّ النحل ، فلبثنا ذات يوم ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال:( اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارْضِنَا وارضَ عنا ) ، ثم قال: لقد أنزل عليَّ عشر آيات من أقامهنَّ دخل الجنة ثم قرأ:‘‘ قَدْ أفْلَحَ المُؤمِنونَ ’’.
والله تعالى وصف المؤمنين في هذه السورة الكريمة فقال جلَّ شأنه:‘‘ قََدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُـونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلّزكاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِم أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَن ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُؤلّئِكَ هُمُ العَادون (7) والَّذيِنَ هُـمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِـمْ رَاعُونِ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أؤُلَئِكَ هُمُ الوَارِثُون (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ(11)’’ . وقال سيّدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:[ خاشعون أي خائفون وساكنون ومتذللون لله سبحانه وتعالى ] .
في خواتيم سورة البقرة يقول الله تعالى:‘‘ آمَنَ الرسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إليهِ مِن رَبـهِ وَالمُؤمِـنُونَ كُلٌ آمَن بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّق بَيْنَ أحدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأطَعْنَـا غُفـرَانَكَ ربَنـا وَإلَيْكَ المَصِير(285)’’. فالمؤمن يؤمن ويصدّق ويطيع ويعمل بما سمع من الحق وبما أنزل على رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم ، ويطلب من الله تعالى المغفرة إذا أخطأ ، لإدراكه أن له رباً غفاراً ومصيره إليه وحسابه عليه .
والمؤمنون درجات: فهم متَّقون ومحسنون وصادقون في عباداتهم وبين الخوف من الله تعالى والرجاء في رحمته .
وأمَّا المتَّقون: فهم الّذين يراقبون أنفسهم وسلوكهم ويصلحون ما فسد منه ، ومتصلّون مع الله تعالى في كل وقت ويحرصون على طاعته في الشدّة والرخاء ، ويتعرفون عليه سبحانه وتعالى بما يحدث معهم وحولهم من نِعَمٍ أو ابتلاءات . والتقوى مطلوبة من المسلم ، فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي ذرٍ الغفاري( جندب بن جُنادةَ ) وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:‘‘ اتقِّ الله حيثما كنت واتبع السيئةَ الحسنةَ تمْحُهَا ، وخالق الناس بخُلُقٍ حسن ’’ . ويقول سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:‘‘ أن المتَّقون هم الذين يتَّقون الشرك ويعملون في طاعة الله ’’ .
وقد افتُتِحَتْ سورة البقرة ببيان أوصافهم فقال تعالى:‘‘ الـم (1) ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلمُتقِينَ (2) الّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُـمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أولَئِكَ عَلًَى هُدَىً مِن رَبِّهِمْ وَأولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (5)’’ .
والله تعالى مدح المتّقين وآمنهم يوم القيامة من العذاب فقال تعالى في سورة الذاريات:‘‘ إنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) ءَآخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)كَانُواْ قَلِيلاً مِّنَ الليْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17)وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18)وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ للسَائِلِ وَالمَحْرْومِ(19)’’. وقال تعالى في سورة الدخان:‘‘ إنَّ الُمتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أمِينٍ(51)’’ ، وقال تعالى في سورة النبأ:‘‘ إنَّ لِلمُتَّقِينَ مَفَازَاً(31)’’ وقال تعالى في سورة مريم:‘‘ إن مِنكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيَّاً(71) ثُمَّ نُنَجِّي الّذِينَ اتَّقَواْ وَنَذَرَُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيَّاً(72)’’ . وذكرهم الله تعالى في سورة الطلاق فقال جلَّ شأنه:‘‘.. وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجَاً(2)وَيَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللهَ بَالِغٌ أمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدَرَاً(3)‘‘ ثم يقول الله تعالى:’’.. وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَّهُ مِن أمْرٍِهِ يُسْرَاً(4)’’ ، ثم يقول جلّ شأنه:‘‘ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّر عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أجْرَاً(5)‘‘ وكذلك:‘‘.. سيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسرٍ يُسَراً (7)’’ ، والآيات التي تتحدث عن المتَّقّين في القرآن الكريم كثيرة .
والمتّقون دائماً بين الخوف والرجاء ومناجاة الله سبحانه وتعالى ويراقبون أنفسهم في سلوكهم تيمناً بالآية الكريمة من سورة الحشر:‘‘ يَأّيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) ’’ . فالله تعالى أمر المؤمنين بأن تكون أعمالهم بين تقوى وتقوى وفي دائرة التقوى ، فأمرهم الله تعالى أن يتَّقوه في أعمالهم وبعدها ، وأعمالهم محصورة بين تقوى وتقوى ، والمؤمن يخرج من عمل التقوى إلى عمل آخر كله تقوى بإذن الله تعالى . وهنا يتجلى إعْمَال المؤمن لعقله في أعماله ، فهو يتفكّر ويفكّر في عمله قبل القيام به ، فيزنه في ميزان الإيمان والتقوى ، فإذا وافق صحيح الإيمان قام به ، وإذا لم يوافقه يبتعد عنه .
وأمَّا الصادقون: فهم خلاصة المؤمنون وقد صَدَقوا مع الله تعالى في عباداتهم . والصدّيقون هم أعلى درجات المؤمنون ، وقلوبهم منقطعة ومتعلقة بالله تعالى لا يخالجهم الشك في الله تعالى ومخلصون في عباداتهم وسلوكهم مع الله تعالى ومع الناس ، وصابرون على بلاياهم وابتلاءاتهم ، وتزيدهم الابتلاءات إيماناً وقوة وصلابةً وتمسّكاً بحبل الله تعالى ، ولهم البشرى من الله تعالى عندما يحتسبوا ويُرجِعُوا كلَّ شيء لله الواحد الأحد فيقولوا عند المصيبة: ( إنّا لله وإنّـا إليه راجعون ) ويحمدوا الله تعالى على كل حال تيمناً بقوله تعالى في سورة الحجرات:‘‘ إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللهِ ورَسُولِهِ ثُمَ لَمْ يَرتَابُواْ وَجَاهَدُوا بِأمْوَالِهِم وَأنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أوْلَئِكَ هُمُ الصًّادِقُونَ (15)’’ ، نرجو الله تعالى ونسأله أن نكون منهم . أمَّا المحسنون فشأنهم عظيم وسنفرد لهم إن شاء الله تعالى محطة خاصة بهم .
وأخيراً يقول بعض العلماء الأفاضل أن من أراد أن يعرف صِدْقَهُ فليعرض نفسـه على الآية الكريمة(177) من سورة البقرة ، وما اشتملت عليه من فضائل الإيمان ، وتلك عشر صفات عظيمة . يقول الله تعالى:‘‘ لَيْسَ البرَّ أن تُوَلُواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَبِييِنَ وآتى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربَى وَاليَتَامى والمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبيِلِ والسَّائِلِينَ وَفِي الرِقَابِ وَأقَامَ الصّلاةَ وَآَتَى الزَكَاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدوا والصَّابِرِينَ في البَأسَاءِ وَالضَرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ ، أؤلَئِكَ الذِّينَ صَدَقُوا وَأولئِكَ هُمُ المُتَّقونَ ’’ . والبِرُّ هو العمل الصالح بكل وسيلة متاحةٌ ، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:‘‘ عليكم بالصدق فإن الصدق يؤدي إلى البر والبرُّ يؤدي إلى الجنة ’’ ، وفي الحديث الشريف عن سـلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسـلّم قال:‘‘ لا يرد القضاء إلاّ الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلاّ البر ’’ . فالبرُّ والعمل الصالح ليس الصلاة فقط كما يعتقد البعض ولكنه حُسن الأخلاق الحميدة التي ذكرها الله تعالى في تلك الآية الكريمة ، والمؤمن من اطلع على عيب نفسه وأصلح ذاته ، وتبرأ من الكِبْرِ .
نسأل الله تعالى أن يرحم من كان سبباً في نشر هذا السلسة من الرحمانيّات الربانية الكريمة وأن يجازي بكل الخير من ساعد على نشرها ، ونسأله أن تكون في ميزان حسناتهم وميزان المؤمنين ، اللهمّ ارحم موتي المسلمين واغفر لهم وجازيهم بقدْرِكَ ولا تجازيهم بقْدرِهِم ، اللهمَّ آمين .
وإلى لقاء آخر مع الرحمانيّات الربانية ، وصلّى الله علي سيّدنا محمّد وعلى آله الكرام وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين .