مقالات

شيخ الجامع الكبير- بقلم د. محمد خالد الأزعر

من وحي ذكريات الطفل الصغير عن شيخ الجامع الكبير


أثناء مداولات عائلية الطابع مع أحد أبناء عمومتي بالقاهرة في مايو 2006 ، أطلعني هذا الأخير على وثيقة قضائية صادرة عن المحكمة الشرعية بمدينتنا الأصلية خان يونس يعود تاريخها إلى ديسمبر 1949. ومن قرائتها تبينت أن الوثيقة تمثل حكمآ في خصومة على ميراث يخص إثنين من أبناء العمومة من آل الأزعر، عائلتي التي تسكن هذه المدينة منذ مئات السنين .
أهم ما في هذا الحدث أن وثيقة الحكم إشتملت على توقيعين أحدهما لوالدي المرحوم خالد خليل الأزعر بصفته شاهد عدل معروف بالبلدة والعائلة. والثاني لطيب الذكر والسيرة سماحة الشيخ كمال الأغا بصفته القاضي الذي أصدر الحكم بناء على شهادة والدي وآخرين معه.

هذه القصة التي وقعت عليها بالصدفة ، أعادتني إلى مشاهد من طفولتي الأولى في خان يونس . لم أتمكن يوما من إستحضار صورة والدي، كونه توفى قبل ان اتجاوز الثالثة من عمري في يناير 1958 . لكني عرفت صاحب فضيلة الشيخ القاضي صاحب الفصل في المنازعة المذكورة وتمكنت من تكوين إنطباعات عنه قبل مغادرتي لخان يونس التي إمتدت منذ 1971 .
إنه الرجل الشيخ ذاته الذي كان يؤم الصلاة قي مسجد خان يونس الكبير، الواقع مقابل قلعتيا الشهيرة ، قلعة برقوق القريبة من البيت الذي ولدت فيه عام 1955. وهو ذاته ولا ريب ، قلت لنفسي حين طالعت توقيعه بخط يده ، الذي حضرت بين يديه أول دروسي في محاضرة ، وقد أسميها الأن ندوة دينية، عامة في مرحلة ما قبل يفوح الشباب .
تذكرت في كل حال بين يدي القصة العائلية المشار إليها، صاحب الفضيلة الشيخ كمال وهو يستند بظهره إلى منبر المسجد الكبير بعد صلاة العصر، لاسيما في أيام رمضان الكريم ، كي يلقى عظاته الدينية والخلقية . وتذكرت الطفل الذي كنته وقد إنشد إلي حديث هذا الرجل، طويل القامة ممشوق القوام، الذي يعتمر جبة بيضاء عن أمور كان الطفل بالكاد يستطيع تدبر كنهها وفهم أبعادها.. لكنه كان يستحبها ويطيل القرفصاء بين الكبار لأجل الاستماع إليها.
ويذكر الطفل جيدا أن الشيخ كان صاحب أسلوب مشوق، يتبسط به مع الجالسين في دائرة أو اثنين، يقاطعونه أحيانا بسؤال جدي، أو بأخر عن أمور الحياة في الجنة وصفات الحور العين . أي و ربي سمعتهم يسألون عن الحور العين والشيخ الذي اذكر، خجولأ يحاول الاجابة غامزا من قناة أمور لم أتبين مغزاها إلا بعد حين .
على أن الأمر وقتذاك لم يخل من منفعة لاتمت للجلسات العلمية بصلة . فقد كانت دروس الشيغ تنتهي برفع آذان المغرب ، الذي يتلوه توزيع تمر وتين مجفف رائع المذاق لكسر الصيام قبل إقامة الصلاة ! .
هذه صورة مطبوعة في الخاطر لايمحوها شئ. . أستحضرها اليوم بعد أربعين عاما أو يزيدون ، لأدعو للرجل بالجزاء والإثابة على أول محاضرات عامة تلقيتها قبل الجامعة بكثير وقبل أن أصبح محاضرا بما هو أكثر من السنين . ومن حسن الطالع أن تكتمل الصورة الذهنية بلقاء حقيقي مع الشيخ قبل بضع سنوات في بيت ولده عاصم بالقاهرة . فما أن علمت بزيارة الشيخ لولده حتى إستعدت ما بعد ظهيرة أيام الجامع الكبير، يوم كانت الدروس على حصير المسجد لاتعد لها جلسة في إيوان كسرى! . فهي من رائحة الطفولة والمدنية الام .
لاقيت الشيخ إذن في بيت ولده، وأنا أناهز الخمسين وهو يقطع الثمانين . فذكرته بما لا أظنه نسيه، لكنه بالطبع لم يكن يستحضر صورة طفل يندس بين المتحلقين حوله قبل أربعين عاما. لكنني ذكرته . . أو حاولت . فإذا به يبش ويهش وكأني به إستشعر أن شهادتي له وعرفاني من شفعائه يوم الدنيونة . .
جزاه الله خيراً، و اعظأ و قاضيأ و مفتيأ و رجلا نزيها حسن السير والسيرة . . وإلى الله عاقبة الأمور. .

د. محمد خالد الأزعر
القاهرة في الأربعاء 29/نوفمبر / 2006
الموافق 8/ ذي القعدة

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد