الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
قال تعالى: +فمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ_ [الأنعام: 125].
لقد حرص الإسلام حرصاً شديداً على انشراح الصدور وسلامتها حتى تنتشر المحبة والمودة والألفة في المجتمع المسلم، ويبتعد المسلمون عما يضيق الصدور ويوغرها.
والآية السالفة الذكر تبين وبكل وضوح أن الهداية والتوحيد من أعظم أسباب انشراح الصدور، والمعنى: أن الله تبارك وتعالى يوسع الصدور بالإسلام للفرح به، والطمأنينة إليه، ويفسر ذلك قوله تعالى: +أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ_ [الزمر: 22]، أي: وسع الله تعالى له صدره لقبول الحق، والاهتداء إلى سبيل الخير، والمعنى: من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح( ).
ومن أسباب انشراح الصدور قراءة القرآن الكريم؛ لأنها تشفيها، قال تعالى: +يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور_ [يونس: 57]. والمراد بالموعظة في الآية السابقة القرآن الكريم، والمعنى أنه يشفي الصدور من الشَبَه والشُّكُوك، وإزالة ما فيها من رجس الشرك ودَنَس الكفر( ) ، وغير ذلك ، ويفسِّر ذلك قوله تعالى: +وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا _ [الإسراء: 82]. والدعاء يشرح الصدور، ويسلمها، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: +قال ربي اشرح لي صدري_ [طه: 25]، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " ... وأسألك قلباً سليماً..." ( ).
ويشرح الصدور أيضاً الصدقة، قال تعالى: +خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها .. _ [التوبة: 103]، بل إن الصدقة تشفي من جميع الأمراض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " داووا مرضاكم بالصدقات" ( ).
وعليه فإنه ينبغي على المسلم أن يسعى دائما لانشراح صدره وتسليمه من الأحقاد والضغائن والحسد والتباغض؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، ولا يحل لمسلم أن يهجر أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ أيام" ( ).
وكثير من الناس من يتورع من أكل الحرام، أو النظر إليه ولكنه يترك قلبه يرتع في مهاوي الحقد والحسد والغل والضغينة، وتنافس على الدنيا، ويحب الشهرة والرياسة، ومن أجلها نجده يحتسب ويبغى، ويتبع عيوب الناس ، ويكره أن يُذكَر أحد غيره.
ومن العجب أننا نجد من يطع الشيطان العدو المبين، قال تعالى: +... إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً_ [الإسراء: 53]، فكيف يفعل ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم"( ).
والضلال طريق قوي إلى ضيق الصدور، بل إن الذي يضيق صدره يضل، قال تعالى: +... وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ_ [الأنعام: 125]، والحرج أضيق الضيق والعياذ بالله.
والذين يجادلون في آيات الله تعالى في صدورهم كبر، قال تعالى: +إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير_ [غافر: 56].
ولا بد للمسلم أن يبتعد عن كل ما يضيق الصدر ويحرجه، ويحذر من الأمور التي تسبب ذلك، ويعيش سالم الصدر، قال الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى-:
وَعِشْ سَالِمًا صدرا وعن غِيبَةٍ فَغِب .....تُحَضَّر حِظَارَ القدس أنقى مُغَسَّلا(4)
وليعلم المسلمون أن انشراح الصدر له فضائل عظيمة، ومنها:
1- أنه من أسباب دخول الجنة قال تعالى: +ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله_ [الأعراف: 43]. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى ينزع ما في صدور أهل الجنة من الحقد الحسد الذي كان في الدنيا، وأنهم تجري من تحتهم الأنهار في الجنة، وذكر في موضع آخر أن نزع الغل من صدورهم يقع في حال كونهم إخواناً على سررٍ متقابلين آمنين من النصب والخروج من الجنة( )، قال تعالى: +ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين _ [الجحر: 47]، والمعنى أن انشراح الصدور يوجب لأهل الجنة إذا دخلوها؟ لأنهم كانو يتصفون بذلك في الدنيا.
2- وأصحاب الصدور السليمة لهم الفلاح في الدنيا والآخرة، والله تعالى يمدحهم، قال تعالى: +وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ_ [الحشر: 9].
3- والذين سلمت صدورهم من خيار الناس، فعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ قال: " كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ " قَالُوا : صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ , فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ , قَالَ : " هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ , لَا إِثْمَ فِيهِ , وَلَا بَغْيَ , وَلَا غِلَّ , وَلَا حَسَدَ" ( ).
4- والنجاة يوم القيامة بسلامة الصدور والقلوب، قال تعالى: +يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ_ [الشعراء: 88-89].
5- والله تعالى ينور قلوب الذين تنشرح صدورهم للإسلام، قال تعالى: + أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ_ [الزمر:22].
6- الجهاد في سبيل الله يشرح الصدور ويشفيها، فال تعالى: +قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ_ [التوبة:14].
7- والله تبارك وتعالى شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: +ألم نشرح لك صدرك_ [الشرح:1]، وهذا يعني أن سلامة الصدور فيها الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والراحة في الدنيا والآخرة، والبعد عن الهموم والعموم.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يشرح صدورنا ويسلم قلوبنا، ويؤلف بينه، ولا يجعل فيها غلاً لأحد من المسلمين، قال تعالى: +والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم_ [الحشر:10].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
وصل اللهم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ عبد الباسط محمد الأسطل
[1] إباء غسان كامل الاغا | تقدير وشكر | 10-04-2013