مقالات

هذيان فتاة مُحَاصَرة - بقلم هيا عدنان

هذيان فتاة مُحَاصَرة  
                                         
||     بقلم : هَـيا عَدنان الأغا

 

( ! )

 


 

أويت إلى جدار غرفتنا – بيتنا – وأسندتُ ظهري على لوحٍ خشبٍ متجمد من البرودة ،، حاولتُ أن أستمد الدفء من عَزيمتي ولَكن عَبثاً ،
تيارٌ مُنقطع ، شموعٌ ذائبة تلفظ آخر أنفاسها ، أرواحٌ متهالكة تتجمدُ ببساطة ، أودُّ من أبي إشعال النار ولَكن لا حَطب أو حتى أعواد ثقاب

البارحة ذهب لتقطيع بعض الخشب من شجرتي المفضلة ،
ربما تألمتُ قليلاً ولكن .. لأجل أخِي الذي يحتضر !!

 

(!! )

 


مسكينةٌ هِي أُمِي .. والدها كان مصاباً بالفشل الكلوي ويحتاجُ لغسلِ دماءٍ ،، وبسبب هذا الحصار وقطع الكهرباء توقف الجهاز عن العمل ..
جدي كانت حالته حَرجة .. التقط أنفاسه الأخيرة والبردُ يلفح وجهه من بيته نصف المبني- حقيقةً جزءٌ منه اسبست والآخر خشب ، وتهالكَ ذلك البناء لأمطارٍ غزيرةٍ هطلت عليه ..

مسكينةٌ هِي أُمِي .. بُترت يد أخيها اليمني وساقه ، لانفجار عبوةٍ ناسفةٍ فيه أثناء تصنيعه إياها ، وبسبب هذا الطوق علينا لا توجدُ أيدٍ أو أقدام صناعية ..

مسكينةٌ هي أُمِي .. ولَدت أخِي الصغير تحت زخات الرصاص ، دخل عليها بني صُهيون وهي تَلِدْه ، رأيتهم يبقرون بَطن خالتي الحِبلى ، وحاولوا قتل أبي ومن حسن حظه أن سقف البيت الميت المُهّدم بسببهم حال دون ذلك - قبل دخولهم علينا ، تذمرتْ نفسي من هذا السقف وسبحان الله  ! .

رائعةٌ هِي أُمِي .. زفَّ إليها نبأ استشهاد نِضال  -ابنها البكر وزهرةُ حياتها وفَلذة كبدها
منعت عينيها من البكاء وبقيت الدمعةُ حائرةٌ في مُقلتيها .. وأطلقت زغرودةَ فرحٍ بالشهادة بدلاً منها !!

 

غـزّة  هِي أمي ..

 

 

( !!! )

 

 


شمعَتِي يا شمعتي
يا أغلى من دمعتي
أرجوكِ لا تـطفئي
حتّى أُنهي صفحتي

 

 

 

(!!!!)

ربّ وامعتصماهٍ انطلقت     ملء أفواه البنات اليُتمّ

لامستْ أسماعهم لكنها      لم تلامس نخوة المعتصمِ

للشاعر : عمر  أبي ريشة

 

 الخميس :

إطلاقُ نارٍ كثيف .. ألسنة اللهيب تُوحِي بأننا فِي يَومٍ ضَبابِيٍّ لُجِّي .. أصواتُ المُجَنْزّرات فِي أرضِنا .. وَقْعُ أقدامِ الجنودِ يَقترب .. الطَائِراتُ تَهْدرُ مُحركاتها فِي سمائنا .. قَصْف .. صوتُ مِدْفَعِيات .. جُدْرانٌ تَتَهاوى عَلى الأرضِ كَـ طَيرٍ مَذبوحٍ مِنْ أَلَمِ رصاصةٍ أَرْدَتْهُ قَتِيلاً !!

المُزون لونها أسودٌ قاتم .. والرمالُ يَتعالاها الأحمرُ القانِي ..

ما عدتُ أرى شيئاً ،، لا أسمعُ إلّا الرصاص والقذائف والضرب والهوان ، ما عادتْ الحروفُ تُسْعِفُنِي !!

تًوغلُ الدبابات ، وصوتُ الإسعافات ، وصُراخُ المذياعِ يختلط مع صراخ الأيامي والثكالى والأطفال  ،، وهواتفُ التهديد !!

اهربوا .. صاروخٌ صغير تلاه آخرٌ لا يُماثله ، قَسَمَ العمارة إلى نِصفين ، وفؤادِي إلى شِقّين ..

سقطَ مَغْشِياً عَليه ،، أو أُرْدِيَ شهيداً ..

الأحد :

خلف الجدار ،، تحت الحجر ،، طفلٌ يصيح ويرتعد

أريد أبي .. أينَ أُمِي ؟  .. أينَ إخوتي ؟ كذلك جدتي ؟  مالي لا أراهم ؟!

أخذ يصرخ وينطق الـ ( آه ) بصوتٍ حزينٍ باكٍ خائف !

دقاتُ قلبه تعالت بالصراخ  :

أين أهلي ؟  ،، ألنْ أشاهدهم مرةً أُخرى ؟  ..

أكرهكم يا هؤلاء ،، تبّاً لكم من يهودٍ أنجاس !!

ألنْ يلعب أبي معي بين الفينة والأخرى ؟  ،، ألنْ تُقَبّل أُمِي وَجنَتي ؟!

سُحقاً لكم ،، بِئْساً .. سلبتم ابتسامتنا وسرقتم ضحكاتنا ،، وحولتم أصواتنا إلى نحيبٍ وبكاء !

يا إلهي !!

أشعر بأنّ السماء تُشَاطِرنِي آلامي وآهاتِي ،، إنّها تَبْكِي أمطاراً غزيرة !!

أيُهدى الموتُ إلينا ويكون الرصاص رسوله ؟!

ما بالهم يلوكون دمائنا كأننا لقمة طعامٍ يقذفونها فِي أفواههم !

هَبتْ الرياحُ مع أحزانه .. والغدر ذَبَح عشرات الأُسَرْ .. وسُكِبتْ دِمائهم على الحُطام وفوقَ الرِمال ..

أمسى هناك بكلِّ شِبرٍ مأتمٌ وعويلٌ ، لا أدري ماذا أقول ؟!

فالحشرجات تخنقني .. أين الصارم المسلول ؟ ، أين أنتم يا قومي الأحرار ؟

إنّ تِيجاناً من العارِ على رؤوسكم ، وأسيافاً من الخشب في أيديكم ، ما عاد يُجدِي أيّ شيء !!

أفاقَ على هَول الصدمة ، أفاقَ من سكراتْ اللاحياة  .. إنّه يُهرول .. يركض لاهثاً ليجدهم !

وانتهى أمام ما كان يُسَمى منزلهم !!

في تل الهوا ،

 كان كياناً فهوى .

 هَـيا عَـدنان الأغا

غزّة

كانون الثاني لعام ألفين وتسعة

 

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على الأستاذة هيا عدنان كامل أحمد الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد