ترددت كثيراً في الكتابة، ولكني أحببت أن أسجل ومن خلال موقع العائلة جزءاً من آثار الحرب المدمرة على غزة، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وليسمح لي القارئ الكريم على الإطالة.
قطاع غزة بمساحته التي لا تتعدى 365 كم مربع بتوزيعات مناطقه بين الشمال والجنوب والوسط، يتكئ على شريط ساحلي منسجم مع ذاته، أهله يتميزون منذ القدم بالوداعة والبساطة والأنفة في نفس الوقت، يقتاتون مما تنبت الأرض من خيراتها، وبما يُنعم الله به عليهم من بحرها، وهبهم الله نِعماً كثيرة كغيرهم من أرض فلسطين، ولكن أهم ما يتميزون به مع الجزء الآخر من الوطن، أنهم في رباط إلى يوم الدين، هكذا أراد الله لهم هذه المكرمة الإلهية والتي لا تداينها على وجه الأرض مكرمة.
لم يتوقع أهل غزة أن تتحول أيام شهر رمضان إلى لوحات مأساوية لا تُرسم ولا تُسجل بأحرف أو لغات غير لغة "زلزال غزة" الذي لم يكن بسبب عوامل الطبيعة، ولكنه بسبب الحقد الأعمى الذي سيطر على فكر وبصيرة قادة إسرائيل، عندما رهنوا القطاع بأكمله بين الطائرات والدبابات والصواريخ والبوارج الحربية التي أعملت في القطاع ما لم يُحدثه زلزال بدرجة 9 على مقياس ريختر كما يقول أهلها.
غاب في رمضان غزة 2014 الفانوس، واستبدلت إسرائيل مكانه بالقنابل المضيئة، كما واستبدل المسحراتي بأصوات وأنات الجرحى والثكالى، أما حبات القطايف وقطع الكنافة تحولت إلى أشلاء من أجساد أبنائه بفعل القصف الإسرائيلي على الآمنين والمدنيين، أما مدفع رمضان، فاستبدل بمدافع الدبابات والقاذفات، فلم ينعم أهل القطاع بشهر رمضان، ولم يمارسوا شعائرهم الدينية كباقي المسلمين في العالم العربي والإسلامي، ولم يمارس الأطفال في العيد ما كانوا يريدون ممارسته من لعب ولهو وارتداء الجديد من الملابس، بل وجدوا أنفسهم تحت وابل من الصواريخ أنهت حياة العديد منهم وهم يلهون على البحر بألعاب متواضعة، فقتلت رضّعاً مازلوا في أحضان أمهاتهم، وأجنة مازالت في الأرحام، وشردت مئات بل ألوف العائلات من بيوتهم، وقذف بهم الموت في كل مكان، حتى لم يصبح مكان آمن في غزة.
إنه الموت في كل لحظة، يتساقط على أهل القطاع من السماء، فتتحول الأرض إلى حِمم من نار تلتهم أجسادهم الغضة أينما اتجهوا، حياتهم أصبحت رهينة لموت يتخطفهم من كل جانب، سواء كانوا في المدارس أو المستشفيات أو دور العجزة أو المساجد، فلا خطوط حمراء لأي مكان على أرض غزة يمكن ألا يتعرض لقصف إسرائيلي، حتى مراكز الأمم المتحدة كان لها نصيب من القصف والدمار.
بين قطاع غزة وما يُعرف بالحدود الإسرائيلية شريط يحول دون التواصل مع الضفة الغربية وهذا منافٍ تماماً لاتفاقية أوسلو التي تنص من ضمن بنودها على التواصل بين شطري الوطن، فأراد الاحتلال أن يجعل من القطاع جزيرة يستفرد بها وقتما شاء بعد أن انسحب منه "عسكرياً" ولم ينسحب إدارياً، وهذا ينطبق على الضفة الغربية، حيث يمارس جبروته على المدن الفلسطينية كل على حده، فيعيث بها فساداً وقتلاً وهدماً واعتقالاً، حتى القدس لم تسلم من كل ذلك، هي إسرائيل، ولو لم تكن هكذا، لَما بقيت على وجه الأرض.
صحا سكان غزة فجر السادس من رمضان على عملية عسكرية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية، ولا الفلسطينية الإسرائيلية، بدأت بالشمال من القطاع حيث منطقة" السجعية" و " بيت حانون" بقصف عنيف من الجو والبر، ثم بتدمير كامل لكل قائم على وجه الأرض، فشردت مئات الألوف، وهدمت الألوف من المنازل، وحولت العمارات إلى ركام، والمزارع بأنواعها النباتية والحيوانية إلى خراب، ومهدت الطريق إلى احتلال هذه البلدات التي أصابتهم بالذعر بعد احتلالها لوجود مقاومين مازالوا يتنفسون ويدافعون عن أرضهم وعرضهم وشرفهم.
وفي نفس الوقت أعملت الطائرات في وسط المدن الرئيسة خراباً ودماراًغير مسبوق، بيوت، وعمارات، وأبراج، وأراض زراعية، وأراضي فضاء، حتى الحيوانات والطيور لم تسلم من هذا القصف الرهيب.
المعسكرات الوسطى كاملة، نالها الدمار والخراب والقصف العشوائي لكل مفاصل الحياة في كل من " النصيرات و المغازي ودير البلح" فاستشهد العديد من أبنائها، وهدّمت البيوت على ساكنيها، وهُجر العديد من عائلاتها، وكأنهم يتعرضون إلى هجرة أخرى، ولكنها أقسى وأمرّ من هجرة عام 1948.
إلى الجنوب قليلاً حيث منطقة " القرارة" والتي تقطنها عائلات محدودة، تعرضت هي الأخرى لأقسى درجات التدمير والاجتياح، واستشهد من أبنائها العديد من شبابها وشاباتها، ونسائها وشيوخها، وأُسر من أُسر، ومازال الأسرى إلى اليوم يتعرضون للتحقيق.
وإلى الغرب من القرارة حيث السطر الغربي تعرض لعملية دمار في بيوت العائلة التي تقطن هذا الحي في الحرب الثانية وهذه الحرب، وفقدت عدداً من أبنائها ونسائها وأطفالها.
ونقترب من الحدود المصرية حيث مدينة" خانيونس" والتي أُطلق عليها قديماً مدينة الشهداء لتعرضها لمجزرة غير مسبوقة في تاريخ فلسطين عام 1956 حيث استشهد عدد من خيرة أبنائها، وقدّر عددهم بحوالي 750 شاباً، وتم توثيق هذه المجزرة في كتاب للدكتور/ إحسان الأغا بعنوان خانيونس وشهداؤها" هي الأخ، واجهت الطائرات والدبابات وحمم النيران من الصواريخ بما لم تواجهه من قبل، فاستشهد من أبنائها قرابة 450 شهيداً من مجموع شهداء هذه الحرب.
خان يونس بقراها شرقاً " خزاعة وعبسان وبني سهيلا" تعرضت لأبشع إبادة للحياة، فقرية خزاعة لم يبق فيها حجر على حجر، وكانت من المناطق الجميلة بمبانيها وقصورها، وشوارعها، ولكن الاحتلال حولها إلى دمار، بل ومارس فيها قتلاً ممنهجاً بدم بارد، وحول كل شيئ فيها إلى أطلال، فلم يعرف أصحاب البيوت حدود منازلهم بعد ما تم التوافق على تهدئة، وأباد عائلات بأكملها.
مستشفيات، ومراكز ثقافية، ونوادٍ، ومراكز صحية، ودور عبادة ومؤسسات اجتماعية، ومخازن للبترول أصبحت أثراً بعد عين.
أما مدينة رفح، هي الأخرى والأقرب إلى الحدود مع فلسطين المحتلة، ومع جمهورية مصر العربية، فنالها ما نال جميع المدن الفلسطينية من دمار لا تصفه الكلمات، خاصة وأن الجنود الإسرائيليين تعرضوا إلى إذلال في هذه المنطقة، فكالوا لرفح وأهلها أضعاف ما أصيبت به بعض المدن والقرى والمعسكرات.
هي الحرب بكل معنى الكلمة ، هي انعدام الاخلاق في ممارسات الجنود الإسرائيليين ضد أبناء قطاع غزة، فما كاد أبناء القطاع يصحون من حرب عام 2012 إلا وجاءت هذه الحرب في محاولة لإنهاء كل سبل الحياة في القطاع، ليحولوا أبناءه إلى متسولين أو مستجدين، ولكن القطاع الذي صمد في حرب 2009-2008 وواجه كل الغزاة على مدار عقود وقف شامخاً لم تلن له عزيمة، ولم ينخر في عضضه الهوان والضعف وتحدى هذه الترسانة العسكرية بكل شجاعة، حتى أصبح في نظر الجميع مثالاً يُحتذى به في الصمود والتصدي، ومثالاً للرجولة والشهامة والعنفوان، وبأنه الشجرة التي لن ينكسر عودها مهما تعرضت لمحاولات كسرها، كما ولا يمكنه أن يرفع الراية أو يستسلم لغزاة.
ثلاثون يوماً أضاءت سماء غزة قنابل لترشد الطيران أين يقصف، فتحوّل ليله إلى نهار، فأماتوا فيه عقارب الساعة، وتداول الأيام، وتعاقب الشمس والقمر.
ثلاثون يوماً امتلآت مستشفيات غزة بأكثر من عشرة آلاف جريح ومبقور، ومطعون ومقطع الأوصال، ومبتور الأطراف، ومفقوء العينين، ومفجور المخ والمخيخ، ومشلول الأطراف، ومصدوم بسكتات قلبية.
ثلاثون يوماً امتزجت الرمال بأطهر دماء على وجه الأرض، دماء الأطفال الرضّع والبهائم الرتّع والنساء والشيوخ والشباب، والعجزة، والمكفوفين.
ثلاثون يوماً أزالت الطائرات أحياء عن ظهر الأرض، وحوّلت الأبراج والعمارات والفلل إلى ركام متناثر في كل مكان، وأضحى أهلها هائمون على وجه الأرض.
ثلاثون يومأً تحوّل شاطئ القطاع من الشمال للجنوب إلى مرمى البوارج البحرية، فامتزجت دماء الأطفال والشباب بمياه البحر، وبلعب الأطفال، وبرمالها الصفراء.
ثلاثون يوماً تحوّلت الجوامع والمساجد إلى ركام، فلم يردعهم آذان يُرفع، ولا كتاب الله في أركانه، فتجاوزوا بهذا كل القوانين والأعراف والقيم والأخلاق والمثل الرفيعة.
ثلاثون يوماً ومقابر العائلات تستقبل الشهيد تلو الشهيد، حتى لم تبق عائلة من عائلات القطاع إلا ودفنت لها شهيد، وكم من العائلات أزيلت من السجل المدني كاملاً .
ثلاثون يوماً مرّت على أهل قطاع غزة والعالم ينظر إليهم نظر المغشي على نفسه، حراك هنا، ومبادرات هناك، وشارع ساخط هنا، وبعض من الدول تشجب وتستنكر، وبعضها أعلن استكباره متمنياً للقطاع أن يبتلعه البحر ويحقق مقولات لقادة إسرائيل.
ثلاثون يوماً وقطاع غزة يواجه أعتى سادس قوة عسكرية على الأرض بإرادة لا تُقهر، ومعنويات عالية.
فكم من سيارة إسعاف تعرضت للقصف، خارقين بذلك كل القوانين التي تمنع استهداف سيارات الإسعاف.
وكم من الصحفين الذين يغطون الحرب استشهدوا على مرآى ومسمع من العالم دون حراك، رغم أنهم محصنين بقانون الأمم المتحدة.
وكم من الجمعيات الخيرية، والمؤسسات والوزارت والمصانع والمحلات التجارية، هُدّمت بفعل استهداف الطائرات الحربية لهم.
وكم هائم على وجهه الآن لا يجد له مآوى بفعل تدمير منزله.
وكم عاطل اليوم عن العمل بفعل ما تعرضت له مصانعهم ومراكز أعمالهم للدمار والخراب.
وكم طالب لن يجد له مكاناً بفعل تدمير أكثر من 200 مدرسة بشكل كلي أو جزئي.
وكم شهيد، وكم جريح، وكم معتقل، وكم، وكم ،وكم والعالم منسجم مع ذاته في برامجه التلفزيونية دون أن يحرك ساكناً إلا بعضهم.
ولكن، كل المساجد التي تعرضت للدمار الكلي والجزئي سيتم إعادة بنائها وعددها أكثر من 140 مسجداً.
والكنيسة التي تعرضت لدمار جزئي سيتم ترميمها.
والمقابر العشرة التي لم تسلمْ من قصف الطائرات سيتم تشييدها من جديد.
ومرافق الكهرباء، ومحطات التحلية ومحطات مياه الصرف الصحي والمرافق الصناعية والتجارية والجمعيات الخيرية والمؤسسات المالية والمصرفية وآبار المياه، سيتم بإذن الله إعادة ترميمها وبنائها من جديد بسواعد أبناء القطاع الذين لم ولن تنكسر لهم هامة.
والشوارع والجامعات والمدارس الحكومية ومدارس الوكالة سيشرع البدء بالعمل فيها لتصبح أفضل من ذي قبل.
وأبناء الشهداء وبناتهم سيحظون برعاية تامة من كل المسؤولين وعامة الشعب، وسيجدون النصير والمعين طالما بقي فينا كفلسطينيين عرق ينبض، وكذلك الجرحى.
كل شيء فيك يا غزة العزة سيتم إعادته إلى أبهى صورة، ولن نُريَ العدو فينا الذل والهوان والانكسار، ولن نسمح بشماتة القريب والبعيد، ولن نعدم العون والمساندة من الله أولاً ثم من الخيرين من أبناء فلسطين في اي مكان من العالم، والخيرين من أبناء الأمة الإسلامية.
غزة أرض المكرمات بشعبها، وفلسطين أرض الرسل والأنبياء، فهل أحد أكرم منّا، لنصبر وما صبرنا إلا بالله.
لم يبق فيك يا غزة إلا الشموخ والإرادة، ولم يبق فيك يا غزة إلا انتصاب القامة، ولم يبق فيك يا غزة سوى العزة، ولم يبق فيك يا غزة سوى المقاومة، ولم يبق فيك يا غزة سوى الشهادة، ولم يبق فيك يا غزة إلا أن نقول لمن لم يقف معنا في هذه الحرب" حسبنا الله ونعم الوكيل عليهم".
تحية إكباروإجلال لكل الأطباء والممرضين، وموظفي البلديات، والشرطة، والهلال الأحمر الفلسطيني، وكل أطقم الأسعاف، والمتطوعين من الداخل والخارج الفلسطيني، وتحية لكل من أسهم بخير مع أبناء غزة في هذه الحرب.
همسة" اي دولة عربية بها 10 آلاف سرير لجريح.
واي دولة عربية بها ثلاجات للموتى لقرابة 2000 شهيد!
[1] وائل خليل احمد الاغا | غزة البطولة على طريق التحرير | 16-08-2014
[2] المنتصر بالله حلمي أحمد الآغا | رحم الله الشهداء | 17-08-2014