الجهل أسوأ من الكفر لذلك كانت الكلمة الأولى في القرآن والتي لامست قلب النبي صلوات الله عليه هي: (اقرأ) ولم تكن (آمن)؛ لأن القراءة مصدر أولي لامتلاك العلم ومن امتلك العلم على حقيقته آمن بالله وحده لا شريك له؛ وروعة القرآن أنه يعلمنا هنا ترتيب الأولويات؛ فالقراءة من أجل العلم مقدمة على الإيمان؛ ومن هنا كان على الناس أن يتعلموا القراءة ثم يتعلموا الإيمان أو يعتدون إليه؛ لأن إيمان الجاهل إمعان في الجهل بل هو جهل مركب ومعقد لا سبيل لتفكيكه إلا بالعلم؛ وما أعظم هذا الكتاب الذي يعلم قارئيه ضمنًا وأمرًا في أول درس لهم أن تكون لديهم القدرة على ترتيب أولوياتهم أو على الأقل أن يفهموا ذلك.
والقراءة هنا ككل شيء آخر تكون (باسم ربك)؛ فقد علمنا المعصوم صلوات الله عليه أن كل شيء لا يبدأ باسم الله فهو أبتر؛ وعليه فأي قراءة أخرى سلكت غير هذا المسلك أو ذهبت غير هذا الطريق فهي بلا شك قراءة لا تقود للطريق القويم والصراط المستقيم أي إلى الطريق الأبتر باختصار. ولعلها من أبواب إعجاز هذا الكتاب العظيم أنه بدأ بهذه الكلمة المعجزة فليس على وجه الأرض شيء إلا وكان مخلوقًا. ومن هذه استنتج الإمام أحمد كلمته المشهورة في قضية خلق القرآن: القرآن كلام الله وكل ما سوى القرآن مخلوق ولا أزيد عليها. هكذا كان فهمهم للقرآن رضوان الله عليهم. وكأن التوجيه هنا هو: اقرأ كل مقروء فكل ما في هذا الكون مقروء؛ وكل مخلوق مقروء؛ يقرؤه من يجيد القراءة وقد لا يجيد الكتابة؛ فإن قراءة كلمة السماء تختلف نوعًا عن قراءة السماء ذاتها. فالكافر يقرأ (الكلمة) بسهولة وهدوء بل ويتفنن في قراءتها وكتابتها ونطقها والتغني بجمالها وزرقتها وكواكبها ونجومها وشمسها؛ لكنه لا يستطيع قراءتها (باسم الله) كما أمر الله تعالى في كتابه العزيز.
وذلك لأن قراءتها باسم الله تختلف جذريًا؛ عند من يتقن التأمل والتفكر والتدبر حتى وإن كان لا يتقن رسم الحروف؛ أو جمال الخطوط أو انسياب الأقلام أو صناعة الكلمات. فهو يدرك هنا بمكنون إيمانه ومكونات فكره ومصقول عقله كل أبعاد (السماء) خلقا وتكوينا ومضمونا ووظيفة بل ويدرك أيضا ما وراء ذلك كله سببا وسببية ومسببا.
ولعل آخرين ربطوا "اقرأ" بالقرآن وفي هذا فهم جميل لعظمة هذا القرآن لأنه لا يبلى مع كثرة الرد ويصلح لكل زمان ومكان ويجد فيه كل متأمل ضالته سواء كان تأمله عميقا كالجذور بل أعمق أم كان تفكرا في حرف أو كلمة أو آية أو سورة. حيث يقول هؤلاء بأن كلمة "القرآن" مشتقة من الفعل "قرأ" كما ورد في قوله تعالى (فاتبع قرآنه). والتأمل والتفكر والتدبر هي أعمال مفتوحة بلا حدود أو نهايات ليست فقط في الآيات المقروءة بل أيضًا في الآيات المشهودة والمرئية رأي العين أو العقل أو القلب أو الروح. طبعًا يتوقف كل ذلك عند خط أحمر واحد وهو في ما ذكره البخاري في صحيحه أن الشيطان يأتي الإنسان فيسأله من خلق كذا وكذا حتى يسأله من خلق الله؟ هنا يكون الإنسان قد وصل الخط الأحمر أو الطريق المسدود فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.