مقالات

استخلاصات وعبر في النزاعات العائلية


 
1.    النزاعات العائلية من أقدار الله تعالى وابتلاءاته، وهي من المصائب المكفرة التي تسهم في عملية تطهير العبد من ذنوبه وخطاياه، ويَبلغ العبد بها مقامًا لا يبلغه بحسناته، وهي أشد على النفس من المرض، فهذه متعدية الأثر، ومن المعلوم من الشرع أن متعديَ الأثر ليس كقاصره، وعاقبة ما تعدى أثره ليس كما قَصُر أثره.
2.    يترك الناس في هذه المصائب حسن التوجه إلى الله عز وجل، والغرض من الابتلاءات والفتن والمصائب هو الرجوع إلى الله والفرار منه إليه، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) } [الأنعام: 42 - 44]، وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168].
3.    النزاعات العائلية فيها من ضياع الأوقات ما لا يُحصى، وضياع الوقت معناه نقص الإيمان، فالمرء لا يتزود من الخير في هذه الأوقات، وعليه فإن ترميم ما تهاوى من إيمان العبد بعد المشكلات والنزاعات يحتاج لوقت وجهد عظيمين.
4.    تفضي النزاعات الثنائية أو العائلية أو أيًّا كان نوعها إلى فقدان الخشوع في العبادات؛ كالصلاة والتفكر وقراءة القرآن، وبالتالي يفقد المرء جزءًا نفيسًا من عباداته بفعل هذه النزاعات،.
5.    لا بد من تدارك الخلافات من البدايات حتى لا تصل لمرحلة تكدير الصفو القلبي والعقلي ومهما كانت هذه الخلافات صغيرة أو هينة في نظر أصحابها، والنزاعات والخلافات والمشكلات تصل إلى ما تصل إليه بعد تراكمات كبيرة يمكن معالجة أوائلها لئلا تفضي لما هو أعتى من هذه البدايات التي هي كالحصى بالنسبة للجبال، وكالشرر بالنسبة للنيران الكبيرة
6.    النزاعات العائلية فرصة لاكتشاف المعادن وفهم الأنفس جيدًا على نحو دقيق، فالنفوس تصفو في الرخاء، والشوائب تطفو عند الشدائد، فالأخلاق السيئة والطوايا القبيحة تظهر في أوقات النزاعات وتطفو كالزبد، والعاقل يُذهبها ويعالجها من فوره.
جزى الله الشدائد كل خير *** عرفت بها عدوي من صديقي
7.    لا بأس بعقد جلسات هادئة وخاصة - فرديةً كانت أو جماعية- ليقيَّم كل طرف نفسه وأفراده في السلوكيات الخاطئة، فالنفس وإن كانت أكثر بصيرةً بعيوبها الباطنة من غيرها؛ إلا أن غيرَها أبصرُ منها بعيوبها الظاهرة، والمسلم مرآة أخيه.
8.    لابد من مراعاة الحكمة في اختيار الوسيط، واختيارِ الأطراف التي فيها مطمع للإصلاح، وينبغي أن لكون طرف الإصلاح الموكل من جهة المجني عليه حكيمًا لا تهوي به الريح حيث هوت: ليكون إصلاحًا مؤسسًا على بنيان قوي.
9.    لابد من مراعاة الأعراف العامة، ثم اعتبار ما وافق الشرع، والعمل على إلغاء ما خالفه.
10.    الطرف المظلوم قوي، فعليه أن يوجه قوته توجيهًا حسنًا، وألا يطغى، وألا يستغل ضعف الطرف الضعيف لاستيفاء حقه، وأن يتحلى بالصبر والحكمة والأدب والروية في كل شيء.
قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء: 33].
فالطرف المظلوم (أو: المجني عليه) منصور من الله تعالى.
11.    اغتنام هذه المواقف للتربية وتعديل السلوك من جهة الطرف القوي (المجني عليه وأهله)، فهذا له بالغ الأثر مما لو تم حل المشكلة حلًّا عرفيا يزيد الآلام، ويتولد ما هو أعتى من الآلام.
والمقصود: أن يمارس طرف المجني عليه دورَ المعلم والمربي، لا دورَ المتشفي والمغتاظ.
12.    بعض الأعراف السائدة هي أعراف طاغية، ولا تُحِقُّ حقًأ ولا تبطل باطلًا، وإنما يُلاحظ فيها أن الطرف القوي (المجني عليه) يستبد، ويطالب ببنود في الحل تثقل كاهل الطرف الآخر دون مراعاة للحد الشرعي في الضمان وأرش الجناية، فيستوفي الطرف القوي (المجني عليه) حقَّه بزيادة عليه، وهذا عين الطغيان.
13.    يجب وجوبًا شرعيًا وإنسانيًا ألا يتحمل أهل الجاني العاقبة الأدبية طالما أنهم ليسوا مشتركين في الجُرم ، فإنه {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}ـ فتحميل عاقلة( ) الجاني ما لا تطيقه: ظلم جديد يستحدثه الطرف المجني عليه.
14.    العاقلة قد يجري عليها قلم ضمان التبعات، لكن لا يجري عليها قلم العقاب والمأثمة مالم تكن مشتركة.
15.    ينبغي لأهل الحكمة، والعقلاء من أقارب الطرفين وغيرهم أن يسعوا في تطهير الأنفس المشحونة من الطرفين، وتخفيف المصاب ما أمكن، والتذكير بحسن العاقبة للمظلوم، بالحكمة والموعظة الحسنة، فكلاهما صاحب بلاء وهم.
والتخلي عن هذا دور هو تنصل من الدور الأدبي والإنساني والاجتماعي، والتمثل بما يُقال: (فخار يكسر بعضه)، أو التذرع بقول: ليس لنا من الأمر شيء: هو ضعف وعجز وَخَوَرٌ يأباه منطق التشريع، فإصلاح ذات البيت فضله عظيم، ولا يقوم به إلا جمعٌ قليل يحب اجتماع الكلمة.
16.    النزاعات مكروهة للنفس، لكن: {عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]
17.    المظلوم غالب، والظالم مغلوب، وهذه سنة الله.
وكثيرًا ما يحصل أن يكون الجاني ظالمًا، والمجني عليه مظلومًا، لكن الأقبح: أن يصبح أهل الجاني مظلومين، وأهل المجني عليه ظَلَمة؛ وذلك بما يمليه أهل المجني عليه من بنود وشروط تذكي الخلاف، وينتج عنها سوء الأثر في نفوس الطرف الآخر، وهذا استحداث لظلم جديد.
18.    المظالم تتناسل في كثير من الحلول العرفية، وهي وإن أثبتت نجاحها لكن هذا ليس دليلًا على صحتها، فليس كل حل ناجح يكون منصفًا للخصوم.
19.    العادات والتقاليد والأعراف ليست مقدسة، ولابد من العمل على إلغاء اعتبار ما يفضي للظلم، وإنما جُعل العرف معتبرًا ليقوم الناس به فيما بينهم بالقسط، فإن لم يكن في الحد والضبط نص شرعي حاكم، فالعرف يضبطه، وهو مضبوط بضوابط الشرع، فالشرع يحترم العرف إذا كان العرف يحترم الشرع.
20.    يجب ألا يسترسل الجاني وأهلُه في تبرير الجناية إن كانت متعمدة، والحديث في أسباب المشكلة بعد المشكلة: كثيرًا ما يكون حديثًا ضمن فضائح المجني عليه، وهذه جناية أخرى يضيفها الجاني وأهله، بل جناية اللسان أشد.
والحديث بِنَفَسِ التبرير: مشاركة في الجريمة والجناية.
21.    الدفع أسهل من الرفع، فيجب على كل أحد أن يعالج أن خطأ من فوره بالطريقة المرتضاة، حتى لا يتعاظم الركام في النفس، فيفجأ المساكينَ سيلُ العرم.
هذا ما تيسر إعداده.. والله ولي التوفيق
كتبه: حمزة عبد الكريم الأغا

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على الشيخ الأستاذ حمزة عبدالكريم صقر يوسف حمدان الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد