مقالات

الشيخ محمد الأغا الداعية الذي عرفناه بأخلاق الصحابة كتب المستشار أحمد يوسف

الشيخ محمد الأغا: الداعية الذي عرفناه بأخلاق الصحابة

بعد نكسة عام 67 بعامٍ تقريباً التزمت إسلامياً، وكان واحداً من الدعاة الذين أثرَّت سلوكياتهم بنا الشيخ محمد الأغا (أبو الطاهر)، كان رجلاً بسيطاً في علمه الشرعي "تعليم كتاتيب على يد الشيخ حافظ البطة"، ولكنه كان صاحب همَّة ورجل تقي، وكانت كلماته التي يلقيها في المسجد تدخل القلب، وتترك أثرها فينا، وهو في وعظيَّاته كان (رحمه الله) يعمل بمنطق "بلغوا عني ولو بأية".
لم نكن نعرف عنه شيء غير اسمه، وأنه شخص ميسور يتحرك بهمة ونشاط لتبليغ كلمة الله لعباده في المساجد، حيث كان يأتي لمدينة رفح مرة أو مرتين في الأسبوع، حيث يطوف على مساجدها الثلاثة المشهورة، وكان الشيخ (رحمه الله) يقف عقب كل صلاة لمدة عشر دقائق لتفسير آية أو تلاوة حديث، تجلله هيبة صحابي جليل ونبرته، ثم يُسلِّم على الناس باشَّاً في وجوههم، ويخبرهم بأن هناك باصات ستنطلق يوم الجمعة متوجهة للقدس، بهدف الصلاة في المسجد الأقصى، وأن على من يرغب المشاركة في الرحلة تسجيل اسمه.
كنا في تلك الفترة شباباً دون العشرين، وإمكانياتنا لا تسمح لنا بدفع قيمة التذكرة، فكان الشيخ (رحمه الله) يقول لنا: أنت تأتي وتدفع ما تقدر عليه!!
في ذلك الوقت من فترة الستينيات، كانت زيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى أشبه بالذهاب للحج أو العمرة، من حيث متعتها وقداستها، فالرحلة التي كانت تبدأ من بعد صلاة الفجر، حيث تنطلق الباصات بركابها من رفح بالقرب من مركز التموين المجاور لمسجد الهدى، ثم تمر على خانيونس لاستكمال أعداد الراغبين في السفر معنا إلى هناك.
ومع شقشقات أشعة شمس الصباح، يكون التحرك باتجاه مدينة خليل الرحمن والصلاة في المسجد الإبراهيمي، لتصل القافلة وهي عبارة عن باصين أو ثلاثة لمدينة القدس قبل موعد صلاة الجمعة بساعة تقريباً، وهذا الوقت كافٍ لكي نتوضأ ونتجهز للصلاة، وأخذ الأماكن المناسبة داخل المسجد الأقصى وباحاته الواسعة.
وبعد الاستماع للدروس وخطبة الجمعة والصلاة، كنا نتحرك كمجموعة يقودنا دليلٌ لتعريفنا على الأماكن الدينية والأثرية داخل الأسوار المحيطة بالمسجد وقيمتها التاريخية، والتأكيد على أصالة الانتماء وملكية المسلمين لتلك الأماكن.
وبعد الغداء المتواضع الذي كنا نتشارك فيه مع بعضنا البعض، كنا ننطلق في جولة داخل أسواق المدينة القديمة للفرجة وشراء بعض الحلوى، ومن كان لديه المال اشترى بعض التحف والمشغولات اليدوية للذكرى.
كان الشيخ محمد الأغا (رحمه الله) هو الإمام ومرشد القافلة، وعندما تبدأ الرحلة وتتحرك الباصات باتجاه الخليل يتحدث لنا عن المدينة وتاريخها الإسلامي، وما يقوم به الصهاينة للاستيلاء على أراضيها، ومخططاتهم كذلك لوضع أيديهم على المسجد الإبراهيمي بغرض حرمان المسلمين من الصلاة فيه، مستندين على ادعاءات توراتية تتعلق بوجود قبور لبعض أوليائهم فيه. وبعد مغادرة مدينة الخليل، يبدأ الحديث عن المدينة المقدسة والمسجد الأقصى، الذي أمرنا الرسول (ص) بشد الرحال إليه إلى جانب المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة، وقيمة الأجر الكبير الذي يناله كل من يصلي فيه. ثم يستعرض تاريخ المدينة منذ دخلها عمر بن الخطاب فاتحاً، والصلاة فيها، ورأفته بسكانها المسيحيين وكذلك تاريخ عمارتها، ومشاهدها في العهود الأموية والعثمانية.
في الحقيقة، كان الشيخ (رحمه الله) يهدف من وراء تلك الرحلات الأسبوعية هو ربطنا بالقدس والمسجد الأقصى ارتباطاً دينياً ووطنياً، لتبقى القدس حاضرة في العيون، وفي سياقات حياتنا وتفكيرنا ما حيينا، والثاني هو أن تكون ساعات هذا الرحلة التي تمتد من الصباح إلى ما قبل غروب الشمس بقليل وقتاً للعمل الوعظي والارشادي والمعرفي، بحيث نتعلم نحن الشباب أمور ديننا بالممارسة، وبمشاهدة سلوكيات الأب والداعية الذي كان الشيخ الأغا يمثلها بأخلاقه العالية وبذله السخي، حيث كان يقوم بمعظم الجهد والتحضير والاتصالات الخاصة بالرحلة، ويحرص على تغطية كل ما ينقص من مصاريف الرحلة من حلال ماله الخاص. لقد كنا نحن الشباب نجد فيه المثل والقدوة، التي تجعلنا نسمع له وننصت لوعظه بأدب المريد لشيخه، كلما جاءنا في المسجد.
لقد ترك هذا الشيخ (أبو الطاهر) بصمة خير في حياتنا، وعمَّق ارتباطنا بمقدساتنا، وأرتقى بوعينا تجاه أرضنا الحبيبة فلسطين، والتي لم أعرف حدودها ومدنها إلا من خلال تلك الجولات، التي كان يتحرك بها بعد الصلاة في المسجد الأقصى لزيارة باقي أرجاء فلسطين، فأنا لم أزر مدن فلسلطين التاريخية كنابلس وعكا وحيفا ويافا إلا من خلال هذه الرحلات.
هذا الشيخ (رحمه الله) كان بالنسبة لنا نحن الشباب هو واحد من جيل الصحابة العظام؛ خُلقاً وتضحية وبذلاً وعطاءً، وقد عرفناه رجلاً ربانياً لم تحفظ ذاكراتنا له إلا المعروف وأعمال الخير التي كان يقوم بها، وتلك الدروس الوعظية التي كنا نستمع له فيها عقب بعض الصلوات، وهذا السخاء في الإنفاق كمن لا يخشى من ذي العرش إقلالا.
عندما عدت من غربتي الطويلة سألت عنه، فقيل لي أنه توفى وهو يصلي العصر في أحد المساجد.
مرت عشر سنوات بعد عودتي إلى قطاع غزة، ولكن رغبتي في التعرف على أهله وأولاده لم تنقطع، إلى أن يسَّر الله لنا ذلك بصحبة الشيخ الفاضل سليمان الرومي، حيث التقينا إخوته وأحد أبنائه، وتعرفنا على المكان الذي كان يقيم فيه في خانيونس، وسمعنا من إخوته كل ما يسر الخاطر عن ورعه وتقواه، حيث ذكر أحدهم أنه كان وقت الحصاد يقوم بإخراج ما يعتبره حقاً للسائل والمحروم، وكان يقوم أيضاً بالمساهمة المالية في بناء المساجد وعمارتها.
لقد كان الشيخ "أبو الطاهر" محباً للشباب ويسعده رؤيتهم يتزايدون بالصلاة في المسجد، وكان حريصاً على التواصل معهم والاقتراب منهم، لقناعته بأنهم جيل الدعوة وحملة الدين، الذي سيأتي على أيديهم التغيير، واستعادة مجد الخلافة الإسلامية. كان الشيخ (رحمه الله) دائم التذكير لنا بما جرى على دولة الخلافة الإسلامية من تآمر، وأننا الجيل الذي ينعقد على كاهله استعادة مجدها التليد، وكانت تلك الأبيات الشعرية دائمة الترديد في دروسه:
يا أُختَ أَندَلُسٍ عَلَيكِ سَلامُ
هَوَتِ الخِلافَةُ عَنكِ وَالإِسلامُ
نَزَلَ الهِلالُ عَنِ السَماءِ فَلَيتَها
طُوِيَت وَعَمَّ العالَمينَ ظَلامُ
ويعقب تلك الأبيات بتذكيرنا بالدور المنوط بنا تجاه استعادتها، والتمكين لأمة الإسلام في العالمين.
لقد توفي الشيخ (أبو الطاهر) يوم الجمعة بعد صلاة العصر عام 1993 عن عمر ناهز السبعين عاماً..
رحم الله شيخنا محمد الأغا رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، فوالله ما سألت عنه أحداً إلا وترحم عليه، وذكره بكل خير.
يا شيخنا نحن بعض زرعك، وهذا الخير الذي فينا هو ثمرة جهدك، أنت وذلك الرجل الطيب، الذي التزمنا على يديه قبل خمسين عاماً، وعاهدناه أن نكون أوفياء لهذا الدين، شيخنا الجليل إمام الشهداء أحمد ياسين؛ الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي.
اللهم تقبلهما في الصالحين، وألحقنا بهما يا مولانا صالحين.

اضغط هنا للتعرف على المرحوم الحاج محمد خالد طاهر الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد