أوراق مطوية
وجيهة عبدالقادر الحسيني .. أم المجاهدين في فلسطين
هذه المقالة تندرج في قائمة «أوراق مطوية» ذلك أنها نشرت قبل ربع قرن من الزمان، وتحديدا بتاريخ 8/6/1983 في
|
الشهيد عبدالقادر الحسيني |
جريدة «الدستور» الأردنية، بعد نحو أسبوعين من وفاة السيدة المجاهدة وجيهة الحسيني زوجة رائد الكفاح المسلح في فلسطين الشهيد عبدالقادر الحسيني.
وقد تكرم استاذنا وصديقنا الراحل محمود الشريف رئيس تحرير الصحيفة يومئذ بنشر المقالة وهانحن نعيد نشرها بهدف إحياء ذكرى «أم موسى» أم الشهداء والاستشهاديين والمعتقلين في فلسطين، ولتتعرف الأجيال الشابة في فلسين وخارجها على سيرتها المضمخة بعبير المجد والخلود.
أبو خلدون
«وجيهة الحسيني أم المجاهدين»
بقلم: نبيل خالد الاغا
مدير تحرير «الدوحة» ــ قطر
في خضم هذا الزمن العربي الرديء، يحاول المرء ــ عبثا ــ ان يتحسس طريق البحث عن بارقة أمل، أو مشعل ضياء، أو شعلة رجاء يستنير بهديها ويسترشد بنورها .. لكنه سرعان ما ينحر تفاؤله على مذبح الواقع العربي الموغل بؤسا وعجبا وضياعا!
ولقد شاءت إرادة الله ان تفقد الأمة العربية مؤخرا سيدة جليلة، ومجاهدة عظيمة حملت أعباء النضال في باكورة حياتها المضنية، وكرست شبابها لخدمة المجاهدين الفلسطينيين منذ ما يزيد على خمسين عاما.
انها المرحومة وجيهة عبدالقادر الحسيني التي لبت نداء ربها راضية مرضية لتلحق برفيق عمرها الشهيد العربي البطل عبدالقادر الحسيني، والذي سبقها الى رحاب الخلود منذ خمسة وثلاثين عاما، بعد ان سطر في موسوعة النضال الفلسطيني أشرف المواقف وأعظم البطولات.
وعن الفقيدة الكبيرة قالت الأديبة الفلسطينية اسمى طوبي في كتابها «عبير ومجد»: لقد قيل ان وراء كل عظيم امرأة عظيمة، ووراء الشهيد الكبير عبدالقادر الحسيني كانت وجيهة الحسيني.
ومنذ أن اقترنت به عام 1935م، وهي تقاسمه حلو الحياة ومرها، وقد انجبت له أربعة أبناء: هيفاء في القدس، وموسى بدمشق، وفيصل وغازي في بغداد.
لقد أعطت هذه السيدة الجليلة عائلتها ووطنها كل الحب، وكل الايثار والتضحية والفداء، وكان بيتها في العواصم العربية الثلاث ــ إضافة إلى القاهرة ــ خندقا خلفيا للمجاهدين والمناضلين من رفاق زوجها، حنت عليهم، ضمدت جراحهم، رتقت ثيابهم، سهرت على راحتهم، شدت ازرهم، وكثيرا ما وقفت أمام الموقد ساعات طوالا تطهو طعامهم .. وتكفل طمأنينتهم .. ودعت الله ربها أن يمن بنصره عليهم.
ولأم موسى ذكريات عزيزة في العراق، فعندما فشلت محاولة المجاهدين الفلسطينيين في دخول إيران بعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م عادوا إلى بغداد خلسة وهم في غاية الاجهاد والتعب بعد مسيرة 25 يوما سيرا على الأقدام. ولم يكن لهم بيت آمن هناك سوى بيت عبدالقادر فتوالى وصولهم اليه سرا فكانت أم موسى تستقبلهم بالترحاب والتحنان وتهون عليهم مشقة السفر المضني، وقامت باستضافتهم جميعا وقد زاد عددهم يومذاك على العشرين مجاهدا.
وعندما تقرر نفي عبدالقادر إلى بلدة زاخو بتهمة مساعدته للمجاهدين العراقيين ضد الإنجليز تقرر أيضا فرض الحراسة على بيته بالأعظمية، بعد أن مثلت أم موسى أمام المحكمة العسكرية في بغداد، وقد استمرت الحراسة ما يقرب من العامين.
ولقد سعدت في صيف عام 1975 بمقابلة أم موسى في بيتها بمصر الجديدة، فقد كانت وكريمتها هيفاء بانتظاري وعائلتي في حديقة المنزل، انها حقا سيدة جليلة، مهيبة الطلعة، وضاءة الجبين، فلقد قرأت في وجهها كل سمات الوقار والهيبة، لقد رأيت في عينيها أبعاد جهاد وصبر ومعاناة، وكنت أسألها ــ خلال الجلسة ــ أدق الاسئلة، وكانت تجيبني بأدق الإجابة .. كنت يومها أسعى لتأليف كتاب عن الشهيد الحي عبدالقادر الحسيني، ومن غير أم موسى تشفي غليل فضولي؟!
وفي أثناء حديثها عن فترة وجودها في بغداد كانت دائمة المديح والثناء على الأخوة العراقيين .. كرمهم، حسن ضيافتهم، طيب معاملتهم .. وقالت لي بالحرف الواحد: «يا بني .. إذا كتبت شيئا عن هذه الفترة فلا تنسى كلمة الحق تقولها في اخواننا العراقيين .. انهم والله أهل شهامة ومروءة ووفاء».
وخلال بحثي عن مادة الكتاب استطعت أن أحصل من أم موسى على عدة وثائق تاريخية. ومن ضمنها آخر رسالة كتبها الشهيد عبدالقادر إلى زوجته وجيهة الحسيني بالقاهرة، وكان يومها موجودا في دمشق حيث ذهب إليها في محاولة يائسة للحصول على أسلحة من اللجنة العسكرية التابعة للجامعة العربية وهذا نص الرسالة حرفيا:
«عزيزتي أم موسى»
أكتب إليك من دمشق، ولا أدري كيف أصف شعوري، وما يجول في نفسي، وما يخفق به فؤادي، وهذه فترة قصيرة أنا فيها بعيد عن مشاغل القتال، وما ذلك رغبة مني، ولكن الظروف هي التي أوجدتني في دمشق. بعيدا عن رائحة البارود، وعبير الجنة، وخوض المعارك الى جانب اخواني الأبطال الذين يقومون بتحرير وطنهم، نصرهم الله وأيدهم بقوة من عنده.
لقد كانت الفترة الماضية مليئة بالانتصارات الباهرة، والأعمال المجيدة التي بهرت العالم، وحطمت العدو، لقد سطرنا صفحات مجد لا تنسى في التاريخ، ولكن هذا لم يأت عفوا ولا سهلا، وهو عمل نسي كل واحد منا خلاله نفسه وأهله وأولاده وطعامه ونومه، وكل ما في الدنيا خلا الرغبة في النصر وسحق العدو الكبير في عدده، والقوي في عِدَده قياسا بما لدينا من السلاح القليل، ولقد قدرنا الله على ذلك وكافأنا على جدنا بالنصر المبين.
لكننا ما زلنا في أول الطريق، وعلينا أن نضاعف الجهود، ونصل الليل بالنهار، حتى نصل إلى النصر النهائي، واني أبشرك من الآن بأننا سنصل إليه إن شاء الله.
صحتي جيدة، كيف صحتك وصحة الأولاد؟ قبليهم جميعا، وبلغيهم رضائي، المخلص إلى الأبد: عبدالقادر الحسيني».
وشاءت إرادة الله أن يستشهد عبدالقادر في معركة «القسطل» يوم الثامن من ابريل عام 1948م .. وعاشت وجيهة الحسيني تعزي نفسها بآلاف المجاهدين الذين خلفهم عبدالقادر وراءه لمتابعة مسيرة النصر والتحرير .. ولكن المسافة تزداد بعدا، وتهاجر أم موسى هجرتها السادسة إلى تونس هذه المرة.
وأخيرا .. لبت نداء ربها .. وفي أعماقها حسرة أبدية على الوطن السليب .. فسلام عليك يا أم موسى .. وسلام على كل المجاهدين والغرباء
ملحق
صور المقال الذي نشر بجريدة الدرستور الأردنية بتاريخ 08-06-1983 ميلادي
صور لبعض رسائل الشهيد عبدالقادر الحسيني الى زوجته وجيهة الحسيني (أم موسى)