تداعيات في ذكرى النكبة الخامس عشر من مايو بين العقل والوجدان نبيل خالد الأغا ـ الدوحة قبل أن تشرق شمس الخامس عشر من مايو 1948م، كان مؤشر الحماسة في الترمومتر العربي قد سجل أعلى معدل له في تلك السنة التاريخية الفاصلة. كان أهل فلسطين موقنين بأن النصرقادم لا محالة مع الجيوش العربية السبعة الزاحفة لانقاذ وطنهم. ولم يكن أهل فلسطين وحدهم الذين تاقت نفوسهم لذلك اليوم، بل ان الجماهير العربية الممتدة على مساحة الخريطة العربية تعبأت حماسة وأملا بأن النصر على اليهود بات وشيكاً!.ولم تكن وسائل الإعلام وحدها التي ساهمت في ارتفاع مؤشر الحماسة، ذلك أن المتطوعين العرب الذين دخلوا فلسطين تحت مسمى"جيش الإنقاذ" بقيادة القائد السوري فوزي القاوقجي ساهمو ابدور فاعل في التعبئة الجماهيرية الملتهبة، كما أن الانتصارات الميدانية التي أحرزها"جيش الجهادالمقدس" بقيادة البطل عبدالقادر الحسيني ساهمت كثيراً في ارتفاع مؤشر الحماس لدى الشارع الفلسطيني بشكل خاص. ولم يكن أحد ـ إلا القلة القليلة ـ على استعداد للتأمل في الواقع العقلاني وليس الوجداني وينظر إلى الأمور بعين موضوعية تشمل قضايا الوضع الراهن، والسياسة الدولية، ونتائج الحرب العالمية الثانية، وشكل الاستعمار الإمبريالي الجديد، والحلف الدائم بين الاستعمار والصهيونية العالمية، وعملية الدجل السياسي التي يمارسها بعض حكام العرب ضد مواطنيهم لامتصاص غضباتهم، إضافة إلى قوة الخصوم وحسن تسليحهم وتدريبهم.. إلخ. لقد حدث انفصام مرعب على الأرض الفلسطينية العربية بين العقل والوجدان، وغابت بشكل شبه كلي افتراضات العقل وأحكامه وتوقعاته المستقبلية لما كان يجري على أرض فلسطين قبل الخامس عشر من مايو وما بعده!وقبل أن يكتمل ليل الخامس عشر من مايو 1948 أعلن اليهود رسمياً ميلاد دولة إسرائيل حيث اعترفت بها على الفور الولايات المتحدة الأميركية وتلتها بريطانيا ثم الاتحاد السوفييتي السابق. وهنا أجد نفسي مضطراً للوقوف الإجباري عند خط النهاية في مجال السياسة التي توجع القلب، وسأدلف إلى جانب آخر يوجع القلب أيضاً، ولكنه ليس مستعصياً.. بل نستدعيه حينما نريد، ونهجره حينما نريد. ذكريات مبكية برغم محاولتي الهروب من الماضي المؤلم الذي عشته في طفولتي إبان حرب 1948 وما أعقبها بسنوات قليلة ـ إلا أنني وجدت من واجبي ككاتب وباحث أمين على ما أكتبه أن أسجل بعض الصور البائسة التي رأيتها بأم عيني والتي فجرتها الذكرى الستون لنكبة فلسطين، وذلك بهدف العظة والعبرة.. ومن ثم دوام الحمد لله تعالى الذي لا يحمد على مكروه سواه، راضين مستسلمين للقضاء خيره وشره.
ومن ضمنها مدرسة خان يونس الثانوية وهي المدرسة الثانوية الوحيدة بالمدينة يومئذ، وأضيف إليها منزل سكني مجاور أضحى بين عشية وضحاها مدرسة ابتدائية. وكنت طالبا في الصف الأول الابتدائي بها. اكتظت المدرسة بالطلاب اللاجئين والمواطنين. وزاد العدد عن خمسين طالباً في الفصل الواحد.وكل ثلاثة يجلسون على مقعد خشبي واحد مخصص أصلاً لجلوس طالبين فقط !ولكن ذلك لم يحل المشكلة، فاضطرت هيئة الأمم المتحدة(الأونروا)التي كانت تشرف على إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين إلى إقامة خيام كبيرة في ساحة المدرسة، وتم نقلي الى احداها، وكثيراً ما كانت الخيام تهوي على رؤوسنا إذا داهمتنا رياح عاتية، وسالت المياه من تحت أرجلنا إذا زاد انهمار المطر، أما إذا ابتلت أجسامنا وملابسنا وساءت أحوالنا فقد كان مدير المدرسة يأمر بتسريحنا إلى بيوتنا حلاً للمشكلة، وتلافياً لمضاعفاتها التي قد لا تحمد عواقبها في مثل تلك الأجواء الملبدة بهموم الهزيمة المريرة. كانت الأحوال المادية للناس عموماً ـ لاجئين ومواطنين ـ قد بلغت حدها الأسوأ.وتولت وكالة غوث اللاجئين توزيع الملابس وبعض السلع الغذائية على المحتاجين مثل الطحين والسكر والأرز والبيض المجفف والجبنة الصفراء(الكشكوان ) والعدس وغيرها. وركزت اهتمامها على الطلاب، ولم تكن الملابس جديدة كما قد يتصور كرام القراء، بل كانت خليطاً عجيباً من المقاسات والأشكال والألوان غير المتسقة التي زادت عن حاجات المتبرعين بها من دول العالم المختلفة وتولت الوكالة مهمة توزيعها على العائلات المهاجرة التي كانت تمتلك"بطاقة تموين"وكان التوزيع يتم بصور عشوائية تماماً مقياسها الأساسي عدد الأفراد في كل أسرة وليس السن أو الحجم أو الجنس، وأمام الحاجة الملحة اضطر كثير من الطلاب إلى ارتداء ملابس غير مناسبة، ونتيجة لذلك تحولت المدرسة إلى "كرنفال"سيئ ومنفر وغير متجانس ! . وفي لفتة ذكية لرفع معنويات الطلاب وقف مدير مدرستنا المربي الفاضل سامي أبو شعبان خطيباً في طابور الصباح، وأكد للطلاب أن إدارة المدرسة لا تمانع مطلقاً في ارتداء الطلاب لأي نوع من الملابس بشرط أن تكون نظيفة، ولكن الإدارة لن تتهاون في معاقبة أي طالب يرتدي ملابس متسخة. وقد ترك هذا الموقف الإنساني أثراً طيباً في نفوس الطلاب خاصة أولئك الذين يرتدون الملابس غير المناسبة لأعمارهم ولا لأجسامهم وربما لا لذكوريتهم! أما الجوارب فكانت أعجوبة تثير الأسى بل والسخرية فنادرا ما كان طالب يرتدي زوجاً واحداً متشابهاً ومتناسقاً، فالقاعدة أن كل زوج من الجوارب له لونان أو حجمان مختلفان، وربما أرغم البرد الشديد بعض الطلاب على ارتداء جوربين أو قميصين أو معطفين في وقت واحد! أما بالنسبة لربطات العنق فلم يكن التعامل معها قائماً على الاحترام، فكان بعض الطلاب يستعملونها بديلاً عن الحزام الجلدي، بينما يستعملها آخرون لربط صرة الملابس فور استلامها من مركز التموين أو"الهنجر"! لكن هذه الأمور قد تهون أمام واقع أشد مرارة عشناه في المرحلة الابتدائية، وكان غيري من الطلاب في المرحلتين الإعدادية والثانوية.كان مشرفو الصحة في بداية سنوات الهجرة يأتون إلى غرفة وكيل المدرسة وتحت إشراف الإدارة الحازمة يتم استدعاء كافة الطلاب فصلاً فصلاً لتحصينهم وتغذيتهم ومعالجتهم صحياً. فإذا ما سرنا في ساحة المدرسة أو رجعنا إلى بيوتنا فإن هذه المادة اللزجة سرعان ما تذوب بفعل أشعة الشمس، وتتسلل رويداً رويداً إلى باقي أجزاء الجسم فيصبح جسم الواحد منا حينئذ شبيهاً بأجسام العصافير التي بللها المطر! علماً بأن كافة رؤوس الطلاب كانت يومذاك حليقة على درجة الصفر أو"الزيرو" وذلك بأمر صارم من وزارة المعارف كما كانت تسمى، والطالب الذي يرفض التنفيذ يعاقب ولا يسمح له بتخطي عتبات المدرسة مرة أخرى! كما كان مسؤولو الصحة العامة يفرضون علينا ـ في اليوم التالي ـ احتساء ملعقتين كبيرتين مملوءتين بزيت السمك السائل الذي كان معبأ في براميل خشبية كبيرة تتبعها كأس من الحليب الساخن أو البارد أو فيما بينهما. جدير بالذكر أن المدرسين في مدارس اللاجئين لم يكونوا يتقاضون مرتباتهم نقوداً وإنما ما يقابلها تمويناً كالبصل والسمك المملح (الفسيخ) والزبيب وما شابه ذلك.
فيا زمن الويــــلات كُفَّ عن الأذى فما أنا بالجاني ولا أنت بالعــــاد
| ||
|