هذا النضال المشروع الذي يمارسه الفلسطيني على أرضه، جزء من تجربة الشاعر، وانعكاس لواقع مأساوي يتكرر مع كل شهيد يسقط على ثرى الوطن، فلكل شهيد تجربة، ولكل شهيد قصةّ، وقصيدة، وكما تتفاعل الرصاصات مع الجسد والدماء، تتفاعل المشاعر والأفكار لدى الشاعر، فيتكون العمل الفني ويصبح للكلمة صوت عالٍ دون
ضجيج، رغم ما يحفّها من مخاطر، ويبقى الالتزام هو عنوان الشاعر مع قضيته الأزلية فلسطين.
لعل قيمة الشعر الفلسطيني تكمن في أنه توأم للتجربة النضالية الواقعية، فلا فاصل بين تجربة وتعبير، وبين لغة الشاعر وواقعه، ولن يستجيب الشعر لملكات الشاعر إلا إذا ركب بشعره النضال الثوري، ولا يصل الشاعر إلى قمّة العطاء إلا إذا عبّر عن هذا الواقع بكل إرهاصاته، والماضي بتراثيته، وهنا يكون الالتزام الفكري، فلا مجال للفصل بين الشعر والنضال، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضية ما تزال تمثّل جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، ومازال الشعراء الفلسطينيون يحملون عبء هذا النضال، وهذه الثورية من خلال الكلمة التي تمثل منطلقاً لوعي الشعب
الفلسطيني، وأداة يمكن من خلال ها تحقيق الكثير من الأهداف على كافة المستويات.
وإذا كان الشعر الفلسطيني المعاصر ينسج نفسه حول جراح الوطن، وهو كذلك، فإنه بطبيعة الحال يكون امتداداً للشعر الفلسطيني منذ عهد بعيد، أي منذ عهد الخلافة العثمانية، وصولاً إلى النكبة، وهكذا يكون الشعر حلقة متصلة الجذور والبنيان، وفي هذا الصدد يقول " محمود درويش" : موجهاً كلامه إلى أحد شعراء العشرينيات
المبدعين ( عبد الكريم الكرمي ) الملقب بأبي سلمى : نحن امتدادك وامتداد أخويك "إبراهيم ( )( وعبد الرحيم ( ) الذي قاتل بالكلمة والجسد، لا، لسنا لقطاء إلى هذا الحد، إننا أبناؤكم ( )" .
فالقضية التي من أجلها استنفرت الكلمة، وخيول الشهامة، مازالت قائمة، وبالتالي يكون الشعر المعاصر امتداداً طبيعياً للحركة الشعرية العربية التي ظهرت في عشرينيات القرن الماضي، ومن هنا يمكننا تأصيل وتقعيد الشعر الوطني من خلال تواصله الطبيعي مع الشعر الكلاسيكي أيضاً، باعتبار أن بنية القصيدة الفنية لا يمكنها أن تكون حاجزاً للفصل بين الشعراء، ولن يكون شعر التفعيلة كزهرة الحنّاء التي تنبت في أرض جرداء، بل هو لغة حيّة ما تزال في طور النماء والتجديد رغم مرور نصف قرن على هذا الشكل.
وإذا كان التاريخ وقف بعد النكبة طويلاً، فإن فترة الستينيات أفرزت على الساحة الفلسطينية نتيجة تراكمات عبر عقدين من الزمان ثورة جديدة، رفعت آنذاك شعار التحرير والعودة، وأصبحت بعثاً جديداً كما قال " أحمد دحبور " في إحدى قصائده، ثمّ جاءت حرب 1967، وألقت الأمة العربية، والشعراء بالذات في بئر سحيق مظلم، فقذفت الأمة في متاهات لا نهاية لها، ولم يكن آنذاك صوت أعلى من صوت الثورة الفلسطينية، رغم أن فلسطين بكاملها وأجزاء من بعض الدول العربية المجاورة احتلت، لتبدأ رحلة التغريب القسري للشعب الفلسطيني من جديد، ثمّ تدور عجلة الزمان، وتصاب الثورة الفلسطينية بإجهاضات مختلفة المصادر، ويَواكَب الشعر كل هذه الإجهاضات، لكنه أخذ منحى مختلفاً عن ذي قبل، بحيث أصبح هو الصوت الوحيد الذي يتوازى مع الدروب المتعددة التي سلكها المقاتلون الفلسطينيون، وخاصة بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، ويواجه قوى الشر، وأصبحت جذوته أقوى من الأسلحة، لأنه حرّك المشاعر في الشعب الفلسطيني كاملاً، وفي الأحرار من الأمة العربية، من هنا بدأ ينبع الطابع الجماهيري باعتباره رافداً من روافد الشعر الفلسطيني.
إن الشعر الذي لا ينبثق من تربة الوطن، ولا يترعرع عليه، كأنه مزروع بالفضاء بلا جذور، فأي قيمة للشاعر إذا لم يجلو شعره صورة وطنه الجريح؟ وأي قيمة للشاعر إذا لم يكن فرداً من مجتمعه يضيء في شعره كفاح شعبه وجهد فلاّحيه وعماله ؟ وأي قيمة للشعر إذا لم يصوّر فيه أطفال بلاده وقد امتزجت بالدماء وهي تقذف حجرا؟
وأي قيمة للشعر إذا لم يكن معبراً عن حريته؟ وأي قيمة للشعر إذا لم يصور الصراع اليومي مع الجنود المجنّدة، وقد تلطخت بنادقهم بدماء الشهداء من أطفال وشيوخ ونساء؟ وأي قيمة للشعر إذا لم يصوّر المآسي اليومية من خلال بقر البطون، وقلع العيون، وهتك الأعراض، وتدنيس المقدسات؟ واحتلال الأراضي، واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً.
إن الشاعر هو قاطرة شعبة، ورأس الحربة ورائد أهله، والرائد هو الذي يقودهم إلى الخلاص، فمع الطلقة، تولد الكلمة المعبّرة الصادقة، وتطفو على السطح، وبالمقابل تهمد كل الكلمات البائسة الرتيبة، وفي فلسطين، وهي الجزء الذي لم يتحرر بعد، فما زال شعبها يناضل، وشعراؤها يساهمون بقدر وافر من العطاء خدمة لهذه القضية
منذ بدايات هذا القرن، فهذا " إبراهيم الدبّاغ ( )" يقول:
متى أرى القوم حول الصخرة اجتمعوا بعد التفرق من ناء ومقتـــرب إني أرى حولها برقاً وجلجلــــة وقد خلا رعدها من هاطل الُّحــب ما وعد بلفور من أمر السمـــاء ولا في الجَدْب من أرضنا زرعُ لمحتطب هل وعد بلفور تشريع إذا فرطـــت أغلوطة منه تدعو الناس للعجــب تلك مناشدة من الشاعر إلى تحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومن خلالها يُذكرهم بأن هذا الوعد ليس أمراً سماوياً، وإنما هو وضعي، فعليكم
بإلغائه، والسبيل إلى ذلك الجهاد والاتحاد.
أما الشاعر "اسكندر الخوري " فيقول حول الوعد المشؤوم ( ):
وعد ولا هو كالوعود خدعوا به أمم اليهود
أمُّ تُنوّم طفلها والطفل يُخدع بالنشيد
والختل في شرع السيا سة ليس بالأمْر الجديد
أما " محي الدين الصفدي ( )"، فيتناول قضايا متعددة من خلال رفض الانتداب
البريطاني، ووعد بلفور، ومتفائل باليقظة العربية:
أنحيب أم نشيد ورثاء أم قصيد
إيه يا يوم الثلاثا ء اكتوت فيك الكبود
فتية نُمر غضاريف بحبل الموت قيّدوا
أنفوا أن يُنزل الضيم بهم طاغٍ عنيد
ثورة قد حطمت صهـ ـيون فارتد يكيد
واستجاب الظالم العا تي لما شاء اليهود
أما الشاعر " محمد العدناني( ) "فيقول:
أجهضت هيئة الأمم عندما باعتْ الذمم
جهضها دولة الرّبا والمواخير والنّقم
بئس والله دولة للخنا ترفع العلم
ويستمد الشعراء من واقع بلادهم نبضاً جديداً في اللغة الشعرية، فساهموا بقسط
وافر من العطاء، وهذا "إبراهيم طوقان " يقول( ):
بني وطني هل يقظة بعد رقدة وهل من شعاع تلك الغياهب
فو الله ما أدري ولليأس هبة أنادي أميناً أم أهيب براغب
أما زيتونة فلسطين كما يلقبه النقاد والشعراء" عبد الكريم الكرمي يقول( :
يا رفاقي جبل النار دعانا الهوى هذا الذي هبّ هوانا
والنسيمات التي مرّت بنا حملت من أرض حطين شذانا
أما " عبد الرحيم محمود " شهيد الكلمة، يقول ( ):
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تُسر الصديق وإمّا ممات يُغيظ العدى
وهذا " هارون هاشم رشيد " يعيش على أمل العودة إلى الوطن، يقول ( ):
سنعود يا ليلى مع الفجر والزّهر والحسون والقمري
سنعود أكباداً مؤججة توّاقة للوطن الحر
وهناك نرفع راية طويت ولغيرها تزهو على الدهر
وفي موضع آخر يتناول قضايا عصره، لكنه يمزجها بأمل العودة إلى الوطن:
سنعود يا ليلى مع الفجر والزهر والحسّون والقمري
سنعود أكباداً مؤججة توّاقة للوطن الحر
وهناك نرفع راية طويت ولغيرها تزهو على الدهر
وإذا كنا استنطقنا جزءاً من تراثنا الوطني في فترة العشرينيات والثلاثينيات، ووجدنا كيف مارس الشعراء عشقهم للأرض، ثم كيف امتزجت الكلمة مع البندقية، ليبدعوا قصائد تمثّل تجديداً في بنية القصيدة الموضوعية، فإن شعراء العصر الحديث، ساروا على نفس النهج، واستقوا من معطياته الكثير من التجارب الشعرية.
لقد عالج الشعر في هذه الفترة قضايا المجتمع الفلسطيني، وخاصة تلك المتعلقة بوجودهم في ظل الاحتلال الإسرائيلي، فكان للكلمة الصوت الأعلى، بالنسبة لشعراء المثلث والجليل والناصرة، الذين بقوا تحت الاحتلال، وشملهم التقسيم، ولا نبالغ إن اعتبرنا أن شعرهم يعبر عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تعبيراً حيّاً
وواقعياً، يضاف إلى الشعر لعربي الفلسطيني في الجزء الآخر من الوطن، فتناولوا قضايا الغربة والحنين والضياع والخيام، لهذا فالشعر الفلسطيني الأكثر وطنية هو ذلك الشعر الذي كان ومازال يصدر من فلسطين نفسها، وخاصة ممن بقوا تحت الاحتلال،
فهذا " توفيق زيّاد " يقول ( ):
هنا على صدوركم باقون
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج، كالصبّار
وفي عيونكم
زوبعة من نار" منها( ) ":
ثمّ يقول في " مواضع " ( )
بأسناني
سأحمي كل شبر من ثرى وطني بأسناني
ولن أرضى بديلاً عنه لو عُلّقت من شريان شرياني
يمثل شعرهم لغة ثورية متميزة ومتفردة، في زمن كنا بحاجة لمثل هذا اللون من
الشعر، وهذا ما تمثلّه القصيدة السابقة التي تحمل لغة ثورية، فهي تعبير حيّ عن
الواقع، وإظهار للمقاومة، وانعكاس لمجريات الأحداث، وتحدٍ لأساليب الطرد،
والتهجير التي تمارس على كل أبناء الوطن، وباعتبار أن الشاعر هو الناطق الرسمي
باسم كل الجماهير الجاثمة تحت الاحتلال، فلم يجد إلا هذه الكلمات المدوّية
ليرسلها في وجه سجّانيه. بعكس الآخرين الذين تناولوا قضايا لا تصل إلى درجة
الوطنية في الأسلوب والمضمون،
أمّا " معين بسيسو " يظهر هو الأخر شكلاً من أشكالا المقاومة بالكلمة في مواجهة
المحتل، فيقول ( ):
أنا إنْ سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح
واحمل سلاحك لا يخيفك دمي يسيل من السلاح
أنا لم أزلْ أدعوك من خلف الجراح
هكذا تتحول الكلمات إلى رصاصات مدويّة في وجه المحتل، فيتحول كل الشعب إلى
شظايا تطال كل من ينال منه، فقد رسم الشاعر معالم الطريق إلى التحرير، مستنداً
إلى إيمان مطلق بأن الدماء التي تسيل، هي السبيل الوحيد لتحرير الأرض، من خلال
إذكاء الهمم والمشاعر، وإيقاد نيران الوطنية في النفوس، وخلع ثوب الخنوع عن
النفس ، لتقود إلى الثورة والعصيان، ويتكرر هذا عند الشاعر في مواضع كثيرة منها
( ).
.قول " شفيق حبيب " حيث يترجم تلك المعاني من خلال قصيدة مقفّاة، بعنوان "
العشق والوطن ( )"
بيني وبينك عشق أيها الوطن فالأرض أنت، وأنت الروح والبدن
بيني وبينك آمال تُشدّ بنا نحو الغد الباسم الأياّم يا وطن !!
نحن الصمود على أرض نقدّسها والمهر من دمنا إنْ جارت المحن
هذه الصورة ليست جديدة، وإنما متجددة في الشعر الفلسطيني، فالشعراء الفلسطينيون
تناولوا حنينهم للوطن، وعشقهم له، لكنّ " شفيق " أظهر عشقه للوطن، بلغة غير
معهودة في السابق، وتكمن في عدم بكائه على الأطلال، لهذا حفلت كلماتها بثورية
نابضة حيّة، أو يمكن أن نسميها كلمات مقاتلة من شاعر يعيش المأساة بكل أبعادها،
هذه المشاعر لها أهداف وطنية وإنسانية في آن واحد، فهو يريد أن يؤجج المشاعر،
وإلهاب الحماس، وإظهار التحدي للسلطة بالكلمة المقاتلة، هذا من ناحية، ومن
ناحية أخرى، يريد المحافظة على هويته الفلسطينية ببقائه في الوطن مع شعبه، لأن
الخروج من الوطن، يعني الضياع، والانتهاء، لهذا حملت القصيدة تلك المضامين.
وتزداد قمة الثورية عند الشاعر، من خلال هذه الأبيات ( ):
أنا لا أدجّن إن أردت ولا أجثو إذا ما شاء مغتصب
فانسف بيوت الزّنك يا بطلاً فلك العتاد وجحفل لجِبُ
هذي قوافلنا نقدّمها موت الرجال خلودهم يَهَبُ
لن يهدأ الغليان في عضدي والحقد في جبينك والوَصَبُ
أما الشاعر " محمود درويش " الذي يعتبر واحداً من الشعراء القادرين على فتح
حوار مع الكلمة، فإنه هو الآخر كواحد من أبرز الشعراء المعاصرين، يستخدم الكلمة
سلاحاً ماضياً عبر تذكير شعبه واليهود، بأن كفر قاسم ما تزال فينا، ففي قصيدة "
عيون الموتى على الأبواب ( )" يتخذ من كفر قاسم منطلقاً ليعبر من خلالها إلى
مضاجع اليهود ويقضّها، ثم إلى عقول ووجدان شعبه، ليذكرهم بالثأر من شهداء كفر
قاسم ، فيقول :
يا كفر قاسم ! لن ننام .. وفيك مقبرة وليل
ووصية الدم لا تساوم
ووصية الدم تستغيث بأن نقاوم
أن نقاوم
ويتكرر هذا في موضع آخر، فيظهر صورة التحدي التي يجب أن يكون عليها الفلسطيني(
):
إنّا نحب الورد
لكنا نحب القمح أكثر
ونحب عطر الورد
لكن السنابل منه أظهر
فاحموا سنابلكم من الإعصار
بالصور المسَمَّرْ
هاتوا السياج من الصدور
من الصدور، فكيف يُكسر ؟؟
اقبض على عنق السنابل
مثلما عانقت خنجرا !
الأرض، والفلاح، والإصرار
قل لي : كيف تُقهر
هذي الأقانيم الثلاثة
كيف تُقهر ؟
من الموت يتخذ منطلقاً، ومن دم الشهداء معبراً للنصر، ومن الوطن صورة للمواجهة
والتحدي، ثمّ يتكرر المشهد عند " يوسف الخطيب في قصيدة " موعد مع الثأر ( )"
أنا مشعل أنا مارج جبّار لا الريح تخمدني ولا الإعصار
وهذه " رجوه عسّاف ( )" تقول:
وأحلف أنني سأظل يا حيفا
على باب العبيد أنازل الأغراب
أدق جماجم الحيات أخرس ضجة البوم
وأنزع لوعة الأشواك من قدمي
أما فدوى طوقان، فتقول:
يا فلسطين اطمئني
أنا والدار وأولادي قرابين خلاصك
نحن من أجلك نحيا ونموت
إن الترابط والتواصل بين عناصر الذات الفلسطينية، والوطن لا يمكن فصلهما عن
بعضهما، لكونهما يمثلان وجهاً واحداً، وليس وجهان لعملة واحدة، فأصبحت المعاناة
جزءاً من الذات الفلسطينية، ورسالة من الشاعر إلى العالم حوله، علّها تصل إلى
كل الشرفاء في العالم.
لكن علينا هنا ألا ننسى دور الأغنية الشعبية في كونها تراثاً فلكلورياً صاحب كل
فترات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وقد كان لهذه الأغنية أثر كبير في أبناء
الوطن، لسهولة التعامل معها، وقربها من حياتهم اليومية.
يقول الشاعر" عبد اللطيف عقل " الشهادة نوعاً من الإرث يتوارثه الأباء عن
الأجداد، والأبناء عن الأباء، إلى أن تتحرر الأرض ( ):
لقد استطاع الشعراء من خلال قصائدهم أن يحطموا أسوار الهزيمة النفسية التي
عاشها الشعب الفلسطيني بعد النكبة، وبعد النكسة، فكان لابد من كلمة صادقة تبعث
في نفوسهم الأمل والحياة، وحقق الشعراء ما لم تحققه الرصاصة في ميدان المعركة.
لقد حمل الشاعر الفلسطيني سلاح الكلمة، كما حمل الفدائي والمقاتل سلاح البندقية
من أجل التحرير، وإذا كانت البندقية أخذت هدنة مؤقتة في هذا الزمن، فإن الكلمة
مازالت باقية تُغذي الروح التي همدت من أجل غدٍ أفضل، لأن ربيع الحرية لا يمكن
أن يتحقق لأبناء فلسطين تحت وطأة الاحتلال وجنوده الذين مازالوا ينشرون الموت
والدمار والإذلال ومصادرة الأراضي، وهدم البيوت إلى اليوم، وفي هذا الصدد يقول
الشاعر : " منيب فهد الحاج ( )" :
يا حضرات قضاة العالم
إني آتيكم بترابٍ
من بعض حقولي المسروقة
إني آتيكم برمادٍ
من بعض قراي المحروقه
آتٍ بأيدٍ مبتورة
آتٍ بأنوف مجدوعة
آتيكم مخطوف البسمة
مسلوب الفرحة والأعياد
إني آتي ويداي مكبلتان بقيدٍ
إني آتٍ وعلى جلدي آثار الجلْد
آتٍ وبكفي شرارة
من بعض حريق في وطني
آتيكم وبقلبي شوكُ
عوسج آلامٍ ومرارة
يا حضرات قضاة العالم !
إني أطلب بعض الإنصاف
إني أطب رفع الإجحاف
إن صورة الشهيد لا تقف عند حدِّ مواراته في التراب، لكنها الوصية التي يتركها
لكل أبناء الشعب الفلسطيني، بأن فلسطين أمانة في أعناقكم، ولن تتحرر إلا من
خلال المقاومة، وهي اللغة التي نفهمها نحن، ويخافها اليهود.
دراسة:
الشهادة في الشعر العربي الفلسطيني
هي ذروة سنام الفلسطيني وسدرة المنتهى له
د/ يحيى زكريا الأغا
المستشار الثقافي
بسفارة دولة فلسطين
الدوحة - قطر
إذا كانت صور القتل بالمفهوم الإسرائيلي تمثل جزءاً من تفكيرهم، ومن المعاناة
اليومية للشعب الفلسطيني، لكنها تعني في نفس الوقت بالمفهوم الإسلامي ( الشهادة
) وهي ذروة سنامه، نظراً لكون الشهيد يدافع عن أرض وعرض ومال ومقدسات.
وإذا كان للحياة وجوه، فإن للموت من أجل الحياة والهوية والكرامة والأرض والعرض
وجهاً واحداً، لذا فإقدام الفلسطيني على الموت كما يقول " عبد الرحيم محمود "
سأحمل روحي على راحتي " ليس من أجل الموت، ولا لكونه يعشقه لذاته، بل يعشقه من
أجل حياة كريمة أو كما يقول الشاعر:"
فإما حياة تسر الصديق أو ممات يغيظ العدى
منذ قرابة نصف قرن، والشعب الفلسطيني يقدّم الشهداء تلو الشهداء، أسوة بالشعوب
العربية التي ناضلت ضد الاستعمار، وتخلّصت منه، إذ كيف لسوداني أن يعيش غريباً
في دياره، ويرى الاستعمار الإنجليزي يسلبه كل خيراته ؟ وكيف لجزائري أن يرى
الاستعمار الفرنسي يسلبه ممتلكاته وحريته؟ وكيف لليبي أن يعيش تحت الاحتلال
الإيطالي ؟ لقد فطنت الشعوب العربية لخطورة الاستعمار، وثارت جميعها، ونالت
استقلالها بعد أن قدّمت المزيد من الشهداء، حتى أن بعض الدول وصل شهداؤها إلى
قرابة مليون شهيد.
وهكذا بدأت مشروعية النضال الفلسطيني تأخذ منحى آخر، وأخذت الكلمات تبتعد عن
البكاء على الشهداء، فطيلة نصف قرن لم نقرأ في دواوين الشعراء بكاء على شهيد،
أو عويلاً على مفقود، فالشعب يعرف أن مهر الوطن أغلى من الروح في الجسد، ولهذا
انتهج الشعراء في قصائدهم التي تتمحور حول الشهداء منهجاً رائداً، وأصبح الشهيد
رافداً من روافد الشعر الفلسطيني المعاصر، فاحتلت دواوين الشعراء العديد من
القصائد التي تتمحور حول هذا الرافد المستمد من واقع الحياة، فهذه " فدوى طوقان
( )" تقول :
يا شجر المرجان عرشت غصونه
على جوانب الطريق
أعشق موتي في مواسم الفداء والعطاء
أعشق موتي تحت ظلّك المضرّج الغريق
إن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا المقام، يقول : لماذا يقدّم الفلسطيني
روحه في سبيل وطنه؟ نقول: بالإضافة إلى كونه يدافع عن أرضه، ويسعى إلى تحريرها،
أو ليكون جزءاً منها، أو من التحرير، فإنه وهو الأهم، يسعى لدرء خطر يحيق به
وبها، يكون أشد خطراً، وأقسى ألماً، سواء في الماضي أو الحاضر، من هنا فإن مَنْ
يُقدّم نفسه للوطن، ويحملها على راحته، ينشد المستقبل للأجيال القادمة، فهذا "
عبد الرحيم محمود ( )" يقول:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصــديق وإما ممات يغيظ العــدى
ولكن كيف يكون الموت مجاناً في ظل سلطة الاحتلال الإسرائيلي؟ هذا ما نراه على
أرض الواقع، وفي قصائد متعددة للشاعر" محمود درويش ( )":
فلترفعي جيداً إلى شمس تحنّت بالدماء
لا تدفني موتاك ! .. خلّيهم كأعمدة الضياء
خلّي دمي المسفوك .. لافتة الطغاة إلى المساء
خلّيه نِدّاً للجبال الخضر في صدر الفضاء
هذه الدماء المسفوكة بأيدٍ همجية لقيطة، تمثل إضاءات للأجيال، ومنارات يقتدي
بها الآخرون، فالدماء الذكية التي تراق على ثرى الوطن من أجل الحرية لابد وأن
تتواصل وتمتد إلى أن يدوس على أغلال العبودية، ويسحق قاتليه ( ):
حين يزدان صدرك بالملصقات
ويحبو إلى جرحك الماء
طفلاً
وآخر أزهارك الشهداء
إلى القلب
حقلاً
ستكتب : كان الذي سقط اليوم أصغرهم !
ويخرج هذا النهار إليك
فتهمس للطير
كان الذي سقط اليوم أجملهم !
إن عطاء الشهداء، هو الطريق للنصر، بل هو كل شيء في عالم تم تغييب الحق لحساب
الباطل، فلا سبيل إلى إزاحة الليل إلا بدماء الشهداء، فالشهداء هم الأمل، وهم
المحققون للكرامة، والمفجرون للثورة، على مدار عقود طويلة، لذا فإنه لم يزدد
هذا الشعب إلا صلابة وقوّة، وتقديم المزيد من التضحيات رجالاً ونساءً، شيوخاً،
وأطفالاً.
إن صورة الشهيد هي الحلقة الأخيرة من حلقات النضال، الفلسطيني، ورافداً من
روافد العطاء المتجدد للشاعر الفلسطيني، فنتيجة لتراكمات الماضي بمآسيه،
وآلامه، لم يجد الشعب الفلسطيني أمامه سوى هذه الوسيلة من أجل النصر، وفي هذا
الصدد يقول " رجاء النقّاش ( )" إن الموت تتمة للحياة على الفور، فهناك بعث
دائم على الفور، فهناك بعث دائم متجدد للشعب مهما كانت المصاعب.
" ويقول " حسين مهنا ( )" بهذا الخصوص :
يا وطني ما كنت لأبكي في هذا العرس
فعروبتنا تأبى أن نبكي الشهداء
تلك الصورة الحقيقية التي تستحق الوقوف أمامها طويلاً، صورة الشعب الذي لا يبكي
شهداءه، صورة الأرض التي تحن على شهدائها، هذه الصورة نراها عند الشاعر " شفيق
حبيب ( )" حيث يقول :
هذي دماؤك يا شهيدي تسمو منائرَ في وجــودي
ما كل قطرة عَنْــدَمٍ لمعت سيوف ابن الوليــد
ما أطهر الدم حين يُسْ ـفك في الدفاع وفي الصمود
وتتجدد الصورة دوماً أمام الشعراء، ويتخذون من دم الشهيد منائر للعلا، وحافزاً
للآخرين، وهذا ما نجده عند الشاعر " جمال قعوار ( )":
دم الشهيد كتاب جلّ كاتبه
يضم في دفتيه المجد .. لا الورقا
دم الشهيد نشيد، بعض نغمته
تروي لكل الورى تاريخنا عبقا
ورغم أن القصيدة قالها الشاعر في حفل تأبين الشاعر " عبد الرحيم محمود " فإنه
من خلالها ينطلق إلى كل شهداء فلسطين، ومن هنا رأينا أن الشاعر لم يجنح إلى
الأسلوب الخطابي، فجلال الموقف يأبى ذلك.
أما الشاعر " سليمان دغش ( )" ينقلنا إلى ما حدث في الحرم الإبراهيمي، ليبرز
همجية المحتل، عندما دخل أحد المستوطنين على المسجد الإبراهيمي، وأطلق النار
على جموع المصليين وهم ساجدون، فقتل وأصاب العشرات، يقول:
طوبى لكم أحياء في جسد الثرى
والغاصبون إلى رحيل
هذه الصورة تكررت في قصائد معظم الشعراء الفلسطينيين، نظراً لكون الحادث أزهق
أرواح العديد من المصلين، فبالإضافة إلى القتل، فإنه قام بتدنيس الحرم
الإبراهيمي، والدخول إليه خفية أثناء صلاة الفجر، وقام بفعلته المشينة، ويتناول
" فاروق مواسي ( ) " هذا الحدث :
سال الدم على عتبات الفجر الإبراهيمي
أسقاهم كأساً قبل الإفطار
قبل الفرحة
كان يُقدّمهم للجنة
دم الشهيد معبر للجنة، وبشرى لمن يريد أن يقدّم روحه من أجل الوطن، بهذه
الكلمات أنار الشاعر درب الشهداء. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل وجدنا مَن يبني
قصيدته على عدد شهداء الحرم الإبراهيمي، كما فعل " سليم مخولي "، ونقتطف منه
المقطع المخصص للشهيد السابع ( ):
من سبعة أقمار طلعته
من سبع ليالي
يسجد كالطيّة في صفحة قرآن..
لإله إبراهيم الجد الأول
يلثم ريحاًً، أثارَ الآهل
أيتام نحن الأحفاد..
هل صُدر منا النسل، وهل
صودر منا الأصل ؟ أيا رفقاً !
يا اسحق ويا يعقوب، أيا سارةُ ويا هاجر !
مَنْ منّا، منْ منكم منّا ؟
ومَنْ صلى لضريح الأهل
الويل الويل لأهل الويل
في سبعة أقمارٍ أغفى
من سبع رصاصات – كانت سُبحتُهُ
أراد الشاعر أن يسوق إلينا صورة الصهاينة وكيف حملوا راية البطش والقتل دون
مراعاة لدين أو ضمير، أو إنسانية، فقد امتدت يد البطش إلى المقدسات الإسلامية،
وطالت أيدي الغدر المصلين وهم سجّداً بين يدي ربهم آمنين قانتين، ولكن هل لهذا
الشعب أن يستسلم لراية الخنوع رغم بحر الدماء التي سالت على أرض الحرم
الإبراهيمي؟ إن رفع راية الجهاد هي السبيل الوحيد للتصدي لهذا العدوان، ولتكن
الشهادة هي المعبر الوحيد لصنع الفجر الجديد.
ولكن كيف يمكن للشهيد أن يتدحرج كحبّة سفرجل، وكيف تتنازعه الأرض والسماء، هذا
ما يصوّره أحد الشعراء الفلسطينيين، فيقول( ):
يتدحرج بالدم مثل سفرجل
قالت الريح : سمّوه باسمي
وقال الجبل
اخلعوه على بدني
قبل ذلك قال الشجر
امنحوني عظام يديه
وقال البحر
وسدّوني به
قالت الغابة الهادئة
ارسموه على ورق الكستناء
ارسموه على هدأة الشمس
في ساعة من ضحى
قالت المرأة الواقفة :
قرب نافورة الدم،
سمّوه زوجي الذي ما انتحى
عن حجارة واديه
أو عن هواء مُفصّل
يتدحرج مثل سفرجل
بالحجارة والورود
قرّبنا دفعة واحدة من صباح مؤجّل
ليس هذا استعذاباً للموت، بل من أجل الحياة، والكرامة التي فقدت على عتبات
المحتل، فالشاعر يسوق إلينا صوراً للشهيد، عندما يتنازعه الجماد والإنسان
ليقرّبه منه، أليس هذا مكرمة للشهيد؟، لأن الشهيد عندما أقدم على هذا لم يعمل
حساباً للموت، أو لما قد يصيبه لأن الجرح الغائر في الجسد أصاب منه مقتلاً ،
فكان لابد أن يصمم على قتال العدو ليعيد الأرض المغتصبة.
هذه الوطنية التي تتجلى في قصائد الشعراء، ترجع إلى كون الشهداء يقدّمون عملاً
بطولياً واجباً، وبالتالي لا نجد في قصائدهم صوراً للندب والحزن، فهذا " زهير
أبو شايب ( ) " يقول:
وجدوه
أخضر كالضياء
وعندما رفعوا يده
وجدوا السنابل أفئدة
ويُ قال :
شقشقت السنابل تحت كُمّه
يُقال :
أحضرت الطيور رماده
لبنات عمّهْ
ويُقال سوف يعود
في شجر البراكين الخفيّ
وسوف يملأ صدر أمّه
لكنهم وجدوه أخضرَ
كالضياء
وكفّنوه بزرّ وردة
فرشوا لبسمته السماء
وكانت الشمس المخدّه
في تلك الأسطر يتناول الشاعر صورة الشهيد بطريقة رومانسية، مستنداً إلى عوامل
الطبيعة، التي وظّفها الشاعر توظيفاً مختلفاً عن المِهْجَريين، فحملت في طياتها
معاني البطولة والفداء، فتصاعدت منها روائح زكيه، من أجل حياة جديدة ( ):
لا أعشق الموت
لكنه سُلّمي إلى الحياة
لتصبح بعد ذلك مهراً عند الشاعر " شكيب جهشان ( ) "
يا أجمل الشهداء حيّ أنت
رغم قيوده
وجنودهم
يا أجمل الشهداء حيّ أنت
رغم عصيّهم
وعدّتهم
يا أجمل الشهداء، حيّ أنت، حيّ
يا أجمل الشهداء، حي أنت
حي أنت ، حيّ
يخاطب الشاعر الوالد بقوله" أغمضْ أيها الوالد عيني ابنك، فهو حي أبدا، لأن
صورة الوطن أمانة في بؤبؤ العين، وديعة يسلّمها الشهيد للشهيد، حتى يتحرر
الوطن، بهذا الشعر الوطني المرهف الذي يحمل نبض الشعب، استطاع أن يقرأ التاريخ
والواقع، ويحذرنا من البكاء على الشهداء، لأنهم لم يغادرونا، بل زرعوا فينا صور
الاستبسال.
وتتجدد صورة الشهيد في دواوين الشعراء الفلسطينيين، باعتبارها ظاهرة يومية،
ولحظية، ويكفينا أن نذكر رغم توقيع اتفاقية سلام مع الفلسطينيين حيث قامت بقتل
أبرز قادة كتائب القسّام( ) التابع لحماس في حملة عسكرية مع شقيقه، هذه الدماء
تمثل نقطة التقاء مع الروح عندما تتحرر الأراضي.
وإذا كان شعراء الفصحى تناولوا هذه القضية الوطنية، فإن شعراء العامية أيضاً
ساهموا " بقصائد " ذات مضامين متميزة، نذكر مثالاً لا حصراً ثلاثة شعراء هم "
نايف سليم ( ) ونورد هنا هذه الأسطر للشاعر من ديوانه " شُعل ( )" :
غاب القمر من يومها وفي الدار
ما ظل إلا الصور
تذكار
غاب القمر من يومها ولحجار
تقدح نار
من يومها احمرّ المدى وشعلت جبال النار
رغم إشارات الحزن التي تسيطر على أجزاء من القصيدة، فإنه جعل من غياب الشهيد
منطلقاً إلى القوة والتحدي، أما ديوانه " قصائد حب لشهداء الانتفاضة فهو رصد
واقعي لشهداء الانتفاضة من رفح حتى الناقورة، فالشاعر هنا يؤرّخ للشهداء
تأريخاً واقعياً، ولم يرث أيّ واحدٍ منهم، فتحوّلت كلمات الشاعر إلى مداد أحمر،
وليس دموعاً، فأحالت الأرض إلى لغة غير مفهومة إلا لأصحابها، لهذا فالقيمة
الفنية للتجربة التي يرصدها الشاعر ويعيشها، نابعة من الحياة، وبالتالي لها
انعكاسها على العمل .
أما الشاعر الشعبي الآخر" عبد اللطيف عقل " حيث يعتبر الشهادة نوعاً من الإرث
يتوارثه الأباء عن الأجداد، والأبناء عن الأباء، إلى أن تتحرر الأرض ( ):
روح الشهيد إنْ مات ما بتموت
بيظل بين أهلُو
بتنام في تراب الوطن وبتعيش في طِفلُو
وبيدور على كل الشجر وبمشي على مهلو
وبيعرف القراية والكتابة
مُش بس بعرفها
بيطولها في كل طلعة شمس
مثل اللي من بحر بعرفها
بيطولها في كل طلعة شمس
مثل الّلي من بحر بغرفها
وبيفرزها
بين صَدّاقه، وكذّابه
وبين ملعونهْ
وبين تحت الحب مدفونه
ومثل ما قال الشيخ:
الشهيد ما تعلّم القراية والكتابه
الشهيد بيعلّم القراية والكتابه.
إن صورة الشهيد لا تقف عند حدِّ مواراته في التراب، لكنها الوصية التي يتركها
لكل أبناء الشعب الفلسطيني، بأن فلسطين أمانة في أعناقكم، ولن تتحرر إلا من
خلال المقاومة، وهي اللغة التي نفهمها نحن، ويخافها اليهود.