رسالة للطفل الفلسطيني بمناسبة الاحتفال العالمي بتنمية الطفولة المبكرة
تجاوز المحنة بالأمل، والقهر بالتحدي، والموت بالحياة، والدمار بالبناء،
واضرب
بعصا الحب كل مَن يحاول إجهاضك.
د/ يحيى زكريا الأغا
المستشار الثقافي لسفارة دولة فلسطين - قطر
خلال الأيام القادمة وتحديداً 8-10/5/2002 سيُعقد في الجمعية العامة للأمم
المتحدة مؤتمر عالمي بعنوان (تنمية الطفولة المبكرة) لدى أطفال العالم، ورغم
يقيني التام بأهمية مثل هذا الموضوع لجميع أطفال العالم، باعتبار طفل اليوم
ركيزة المستقبل، وعليه المعوّل الأكبر في التنمية والبناء، وهو أحد أركان
بناء
الدولة العصرية التي نتطلع أن نكون نحن الكبار جزءا منها، وكم تطلّع الطفل
الفلسطيني للمشاركة في مثل هذه الدورة الاستثنائية بكل قدراته وإمكاناته،
وإبداعاته، وآماله المستقبلية، لكن كيف له أن يكون جزءاً من هذه الدورة وما
زال
يعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي.
ومن خلال وقفة متأنية حول هذا الموضوع، نجد بأن العديد من الدول خطت خطوات
متقدمة لتنمية قدرات الطفل بشكل مباشر، من خلال إصدار القوانين الملزمة
للتعليم
المجاني في السن القانوني، ثم رعايته جسدياً وصحياً وفكرياً، وعن طريق
الأسرة
باعتبارها الحاضنة الأولى للطفل، والمبرمج الأول لهيكلة أفكاره، ورؤاه،
ومستقبله، وحافظة لقدراته ومواهبه، وتنميتها بالشكل الأمثل، ومن خلال فتح
تخصصات جديدة في الجامعات تهتم بشؤون الطفل، وغيرها من الرؤى التي تساهم في
بناء شخصية الطفل تكون مؤهلة للتطور المتسارع عالمياً في شتى ميادين الحياة،
كل
هذا دون إغفال مرحلة النمو الأولى التي تحتاج إلى ممارسة الطفل حقه الطبيعي
في
الحياة بحرية إرادية ومنهجية كما تقول الدراسات النفسية المتصلة بالطفل حتى
يمكن من خلالها اكتشاف مهاراته وقدراته، وإذا أردت أن أكون أكثر قرباً من
الواقع، فإن العديد من الدول، ومن ضمنها دولة قطر خطت خطوات متقدمة في هذا
الموضوع، سواء عن طريق المجلس الأعلى للأسرة، أم عن طريق المؤسسات التربوية
المتعددة التابعة للمجلس، أم التي يتبناها المجلس حيث فتح أفاقاً جديدة للطفل
القطري، ونمىّ مواهبه وقدراته، وجعلته أكثر قرباً من عملية البناء الفكري
والسياسي والثقافي، بل ومشاركاً أحيانا في رسم استراتيجية مستقبلية لنفسه من
خلال ما تم توفيره، مما ساهم بشكل كبير في خلق مناخ متميز، أو بيئة صالحة
لبناء
شخصية متميزة لطفولة متطورة.
العديد من الدول أنشأت هيكليات مختلفة لتنمية الطفولة المبكرة، والمواهب
الفكرية واليدوية للطفل، وهناك دول أخرى مازالت في البداية، ولكن الأكثر
إيلاماً ونحن في القرن الواحد والعشرين، وفي مكان متوسط من العالم، هناك شعب
مازال تحت الاستعمار الإسرائيلي، يعاني أطفاله معاناة نفسية شديدة جرّاء
تعرضه
لأساليب غير إنسانية من قِبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، فهل يمكن أن نبني
إستراتيجية لأطفال العالم دون الطفل الفلسطيني؟ وهل نكون منصفين تجاه أنفسنا،
وضمائرنا، ومستقبلنا طالماً الطفل الفلسطيني غير مهيأ نفسياً وفكريا لجميع
الأطروحات التي سيتم تبنيها في هذا التجمع العالمي الأممي الحاشد؟
إن الطفل الفلسطيني يواجه حرباً نفسية، نجم عنها الكثير من الأمراض المتصلة
بهذا الموضوع، منها الأرق، والتبول اللاإرادي، والهذيان، وعدم النوم، والبكاء
في الليل، والانطواء، وصولاً إلى التسرب من المدرسة في سن مبكر، كل هذه
الأمراض
ساهمت في خلق شخصية مزدوجة، إحدها باحثة عن الأمن والأمان، والأخرى باحثة عن
الأخذ بالثأر لما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضد الحياة بكل أشكالها(
الإنسان-
والحيوان – والنبات- والجماد) فأصبحت حياة الطفل الفلسطيني غير منضبطة
لقوانين
الطفولة، والشباب والمراهقة.
وانطلاقاً من المبادئ السامية لليونسكو باعتبارها الوعاء الذي ينضح بالأفكار
البنّاءة، ومساهمة منه لوضع حلول لهذه الأمراض التي أصبحت ظاهرة تهدد المجتمع
الفلسطيني، نظّمت اللجنة الوطنية القطرية للتربية والثقافة والعلوم بالتعاون
مع
اليونسكو، وبمشاركة العديد من الدول العربية، ورشة عمل بعنوان " معالجة
الآثار
النفسية لأطفال فلسطين جرّاء الاحتلال الإسرائيلي، وقد كنت أحد المشاركين في
هذه الورشة، وخرجت الورشة بالعديد من النتائج الإيجابية الهادفة والعملية،
التي
من شأنها وضع الحلول الآنية والمستقبلية لِما تعرّض له الطفل الفلسطيني خلال
الفترة التي سبقت الاحتلال الجديد للمدن الفلسطينية، ولكن السؤال الذي يطرح
نفسه الآن، هل يمكن ترجمة ما توصلنا إليه من نتائج على الأوضاع الحالية
لأطفال
قطاع غزة والضفة الغربية، أقول، وبتشاؤم شديد بعدم إمكانية ترجمة جميع ما تم
التوصل إليه عملياً، مع صعوبة تطبيقه على أرض الواقع، لأن ما حدث للشعب
الفلسطيني من مجازر، خلال حرب الإبادة الأخيرة، انعكس سلباً على نفسية الطفل
الفلسطيني، فكيف يمكن وضع تصوّر جديد لطفل فقد بيته، وأرضه، ووالده، أو
والدته،
أو صديقه، أو جاره، ثم كيف يمكن تنمية مواهب الطفل الفلسطيني وهو يسمع قصف
الطائرات، وأصوات المدافع، والرصاص يخترق شبابيك منزله، ثم كيف يمكن لهذا
الطفل
أن ينمو فكرياً وأبسط حقوق الإنسان غير متوفرة له، من أمن وأمان، ومن ماء
نظيف،
ومنزل هانئ، وطعام يُساهم في تنمية قدراته ومواهبه، ومدرسة تتوفر أبسط حقوق
الطالب ليتمكن من القراءة والكتابة، وإجمالاً، إن البيئة الصحيحة والصحيّة
غير
متوفرة لتنمية الطفولة المبكرة للطفل الفلسطيني الآن.
إن آخر الإحصاءات التي وردتنا من الأراضي المحتلة، أظهرت أن الاحتلال
الإسرائيلي ركّز في قصفه المتعمد على المباني المدرسية، والمعاهد وبعض
الجامعات، ودمّر وخرّب قرابة أربعمائة مدرسة، لمنع الطفل الفلسطيني من
الاطلاع
بواجبه تجاه نفسه ووطنه، ومستقبله، فأرادوا حرمانه من أبسط الحقوق التي
تكفلها
له الشرائع السماوية، والتنظيمات والقوانين الوضعية، فأرادوا إخراجه من دائرة
التفكير، والبحث والدراسة والتقدم، والاستقصاء ، وإلحاقه بالأطفال المتخلفين،
أرادوا تحطيم تطلعاته، وجعله أداة طيّعة لأفكار الآخرين، أو جعله متلقٍ أكثر
منه مبتكر ومبدع، أرادوا أن يجعلوه أداة في أيدي الآخرين لمنعه من رسم
مستقبله
بنفسه، أرادوا أن يجعلوه عاملاً في مزارعهم، التي هي أرضنا، وعاملاً في
مستعمراتهم، التي هي أرضنا كذلك، وأعتقد أنهم نجحوا قليلاً، لكنهم لم ينجحوا
في
حيده عن مبادئه.
وأمام هذا المؤتمر العالمي يطرح الطفل الفلسطيني أسئلة متعددة، على الجمعية
العامة للأمم المتحدة، وعلى اليونسكو، والإيسكو، وعلى أصحاب القرار في هذه
الهيئات الأممية المتنوعة التي ترعى حقوق الطفل : متى سنحظى نحن أطفال فلسطين
بالحرية والأمن والأمان أسوة بأطفال العالم؟ متى سنتحرر من الاستعمار
الإسرائيلي؟ متي سنخرج للحياة بدون قيد أو شرط؟ متى سنشتم رائحة الاستقلال؟
متى
سننضم إلى منظومة الطفل العربي والإسلامي والعالمي؟ متى سيتم معالجتنا من
الأمراض النفسية التي يسببها الاحتلال الإسرائيلي لنا؟ وهل تظنون منّا أن
نُبدع في ظل الاحتلال الإسرائيلي؟ هل تظنون أن نساهم مع الطفل في الخليج
والمغرب العربي بالإبداع؟ هل تظنون أن نقدّم شيئاً ونحن تحت الحصار والقصف
والدمار، وقطع التيار الكهربائي ليل نهار، وتقطيع الطرق، إننا نمد إليكم أيها
القائمون على هذه التظاهرة العالمية أن تساهموا برفع الظلم عنّا، ونقول: إننا
بطلبنا لا نستجدي، بل نطلب حقاً مشروعاً، حقاً طبيعياً كحق أي طفل في العالم،
فهل ستسمعون كلامنا؟ نأمل ذلك.
إن تنمية الطفولة المبكرة إذا أردنا لها النماء، لابد أن تخضع لمنظومة من
شقين
أساسيين، أولاهما: البيئة الداخلية، ونقصد بها المبنى، ثم القائمين عليه،
والمخططين له، وثانياً: البيئة الخارجية، ونقصد بها الجو المحيط بالمبنى،
بدءاً بالمنزل، فالوطن، وهكذا تمتد عملية التأثر والتأثير بالبيئة إيجاباً
وسلباً، وصولاً إلى العالم الخارجي الذي من شأنه يساهم في تنمية مواهبه
وإبداعه، ولكن كل هذا كاد أن يتحقق جزء منه للطفل الفلسطيني، لولا ما حدث
أخيراً، مما حال دون أن يُترجم فعلياً على أرض الواقع للطفل الفلسطيني أسوة
بأطفال العالم ليحق ما يصبو إليه، أو ما كان يحلم به الخبراء لطفل المستقبل.
إن رسالتي اليوم للطفل الفلسطيني، تتمثل في أسطر معدودة، أبدأها من عام 1948
وإلى مجزرة نابلس وجنين، ولِما سيحدث مستقبلاً لا سمح الله، فأقول: تجاوزنا
النكبة، وقفزنا على الآلام، وعبرنا النكسة، وحولنا مخيماتنا إلى قلاع للعلم
حصينة، وتجاوزنا كل حوائط الصد التي وضعت أمامنا، والشوك الذي زرعوه في
طريقنا،
وحقول الألغام التي ما زالت تنفجر كلما أردنا أن نبني الدولة، فأصبحنا
إحصائياً
نمتلك أعلى نسبة تعليم في العالم، سواء الجامعي، أم العالي، قياساً بعدد
السكان، من هنا عليك أن تًشمّر عن ساعد الجد، واستقبل عالم الغد بقلب أقوى،
تجاوز المحنة بالأمل، والقهر بالتحدي، والموت بالحياة، والدمار بالبناء،
والكره
بالحب، واضرب بعصا الحب كل مَن يحاول إجهاضك، أو كسر إبداعك، أو تحطيم
قدراتك،
أو إرهاب فكرك، أو الحجر على تطلعاتك، وشارك في بناء الوطن، وحافظ عليه، وكن
أميناً له وعليه، وبإذن الله ستشارك العام القادم، من أجل مستقبل أفضل لكَ،
ولكل أطفال العالم المتطلعين للأمن والأمان والحرية والاستقلال، والله معك.