15/05/2007
حسن توفيق الشاعر الذي لم يفقد بوصلة الشعر الملتزم
وديوانه
( ورد الإشراق)
تنوع الأشكال الفنية والموضوعية
بقلم .د. يحيى زكريا الأغا
أضاء الشاعر الإنسان حسن توفيق قبل اليوم الأخير من مهرجان الدوحة الثقافي الثاني شمعة جديدة في مسيرة حياته الأدبية، ووقع ديوانه الخامس عشر بكل تواضع الإدباء، شاركه في حفل التوقيع أحد أساتذته الذين يعتز بهم كما نحن، الأستاذ / رجاء النقاش، وعدد من أعضاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، ولفيف من محبي الشاعر، وروداد المقهى الثقافي.
كان لي شرف حضور توقيع ديوانه، بدعوة كريمة أعتز بها، فاختلست حينها من الزمن قليلاً في ركن هادئ بعيداً عن الحوارات والمناقشات، رغبة في الوقوف على البنائية الفنية والموضوعية للديوان، لكنه سهّل المهمة بشكل كبير عندما أفرد قرابة عشرين صفحة في مقدمته لإبراز جوانب متعددة من بنائية النصوص التي تناولها في الديوان، ولكن الأهم في هذه المقدمة موقفه من القضايا البنيوية للنصوص الشعرية، وخاصة ما يُسمى شعر النثر، إضافة إلى إضاءاته لجوانب حياته المفعمة بالأمل حتى في أصعب الظروف التي كان يمر بها، سواء كانت انعكاساً من واقع سياسي، أم اجتماعي.
ومن الطبيعي وهذا ديدن الشاعر أن يبرز في هذه المقدمة المهمة، ما يمكن أن أعتبره وفاءً لكوكبة من الشعراء والإدباء والنقاد الذين يعتز بهم، فينادي عليهم دوماً بصوت عال، الشاعر الكبير المرحوم /صلاح عبد الصبور ، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وأحمد شوقي، والدكتور/ يوسف خليف، وخليل حاوي، وغسان كنفاني، ومحمود درويش، وفدوى طوقان، وغادة السمّان، والمتنبي، وغيرهم كثير، وهذا جزء من تكوين الشاعر .
هذا وقد ذكر بكل وضوح من خلال مقدمته بأن مَن أراد أن يلبس ثوب العزِّ بالشعر، عليه أن يغدو صباح مساء مع أولئك الشعراء الذين تبوأوا مكانة عالية في دنيا الشعر، مبتدئأ بقراءة إبداعاتهم في عصورهم المختلفة، وصولاً للعصر الذي نعيش.
وفي محاولة متواضعة للوقوف على هذه "الوردة" الفوّاحة متمنياً أن يشاركني الأخرون في اشتمام جزءٍ من شذاها، وملقياً الضوء على جانب من جوانبها، عل إضاءة أخرىيمكنها أن تكمل دراسة جوانب أخرى من الديوان، وهنا كان لازاماً عليّ الاستعانة بما ورد في مقدمته لتكتمل الدراسة من جوانبها المختلفة.
هو كما يقول عاشق لليل، متوحد معه، يسكب أحزانه وآماله بحرية دون رقيب، خاصة عندما تتثاقل متون الحياة على جسده الفكري، فيبوح بأسراره التي مازالت تغلف جزءاً من حياته ، وذلك من خلال نصٍ شعري ملتزم شكلاً ومضموناً، فلا يبحث عن مفردات تحاكي ما يدور بخلده، ولا يصارع قاموسه الشعري باحثاً عن مضامين تلبي ذلك الحوار الداخلي، فهو يمتلك ناصية اللغة التي تمنحه اندفاعاً يتوازى مع التجربة، فيفتح نافذة نشتم من خلالها عبير إبداعاته، لهذا نراه في " وردة الإشراق"سراأسرا منفتحاً على عالم في جزء منه محاكاة للواقع، وليس ترجمة له، أو تصزيره كما هو، وهذا من وجهة نظري هو الشعر الملتزم موضوعاً، والجزء الآخر ينصرف إلى محاكاة المرآة بما تحمل من غموض لا يعرف كنهه أحد حتى الشاعر نفسه، فنجده حائراً في أمرها، لهذا جاءت تصانيفه الجزئية دليلاً على عدم القدرة على سبر أغوارها، وإعطائها وصفاً شمولياً متميزاً.
وإذا أبحرنا مع النصوص، فإننا سنجدف معه بمجداف نتقاطع معه في بنية النص الشعري شكلاً، وهو الأهم، خاصة وأن الساحة الأدبية بدأت تزخر في هذا الزمن بالعديد من الشعراء الذين يسترقون كلمة الشعر وينسبونها لأنفسهم، في ظنٍ منهم أنهم قادرون على الانتساب إلى حديقة لا يدخلها إلا من ارتوى بماء الشعر الجاهلي ، ولبس ثوب الخليل بن أحمد، وانطلق يباهي بشعره في كل مكان، بل إن شعره يتباهى بذات الشاعر.
أما المضمون ، أو الموضوعات الشعرية التي تناولها الشاعر، فحري بي أن أذكّر هنا معنى الإبداع الذي أرى بأنه لا ينبع من التجديد في الشكل المخالف لميزان الشعر المبني على قاعدة (الكلام الموزون ) والذي تحكمه قواعد العَروض، كما يظن البعض، وإنما من المضمون المبني على لغة شاعرية قادرة على الوصول إلى المتلقي دون عناء.
فالإبداع لدى الشاعر يرتكز على وسادتين أولها البناء، وثانيهما اللغة الشعرية، وتلك هما من مقومات الشاعر المبدع الذي يركب بحور الشعر دون عناء، ويتعامل مع القاموس الشعري بجدارة.
وهذا يذكرني بمقدمة كتاب للشاعرة نازك الملائكة " قضايا الشعر المعاصر" للدكتورعبد الهادي محبوبة بقوله: " إن شعرنا العربي – بين الآداب والفنون الجميلة العالمية- كان ولم يزل في طليعة فن القول من حيث معانيه وأساليبه، ومن حيث مضامينه وأغراضه، وصور التعبير فيه ثم من حيث موازين عروضه وقافيته وتنوع أشكاله....والخصب الذهني والعاطفي، والثراء اللغوي التعبيري الذي كان يتميز به الشاعر العربي".
الشاعر حسن توفيق يتألق في ديوانه" وردة الإشراق" حيث أجاد في القصائد العمودية أي ذات التفاعيل والبحر العربي، كما هي قصائد الشعر الحر، التي استطاع أن يبنيها على أوزان بحور الشعر العربي للخليل بن أحمد، فأجاد في الشكلين أيما إجادة، وبوقفة عابرة أمام قصيدة" الجمرة والنبع" لترى كيف تنساب الكلمات الشعرية والصور الفنية، والموسيقى الداخلية:
نبع من الطيب يستلقي به العشب مستبشراً بشروق .. نوره يحبو
والعشب يبدو وساداً ليناً سكرت أطرافه بندى من فـوقه يصبو
والورد قرب ضفاف النبع أوسمة قد شكلته يــدُ يهفو لها القلب
إلى أن يقول:
اسندت رأسي على العشب الطري لكي أصغي لما في عروق الأرض ينصبّ
فحاصرتني مُدَى الأشواك جامحة وأيقظت في دمي نيرانها الشهّب
صرخت يا نبع.. قلبي جمرة خفقت فهل يرقّ لها إشراقك العذب؟
فجاوبتني مياه النبع هامسة انهض عن العشب يطفئ جمرك الحب
تلك هي رومانسية إبراهيم ناجي، برزت بين ثنايا النص من خلال لغة إبداعية، وحوارية أيقظتها الصور الفنية الجزئية والكلية دون تصنع.
وشاعرنا ليس بحاجة لإثبات موهبته الشعرية في أي لون من ألوان الشعر الملتزم، خاصة وأنه لم يهرب من هذا البناء إلى بناء آخر كما فعل الآخرون الذين أرى بأن نضجهم واستيعابهم لعروض الشعر قاصرا مع الاحترام لكل من خرج عن هذا البناء وعلى رأسهم المرحوم ( الماغوط) وفوق هذا لم ألحظ صناعة لغوية، بل بالعكس إن معظم القصائد منسوجة في قالب فكري مسخر لنقل المعنى داخله، ليصل إلى المتلقي بالأسلوب الذي يشاء.
" وردة الإشراق " خمس وثلاثون قصيدة جديدة، هي حصاد سنوات قليلة خلت، تستند في فنيتها الشعرية إلى تنوع في الموسيقى الشعرية، فنقرأ" فن المعارضات الشعرية" كما في قصيدة " النيل العاشق" و" فلسطين لا تزعجي نومنا" و" كوكب الشوق في سماء الشرق" معارضاً في الأولى قصيدة النهر الخالد- مسافر زاده الخيال" وفي الثانية" أخي جاوز الظالمون المدى" أما القصيدة الثالثة" سلوا كؤوس الطلا .." والقصيدة المدورة، إضافة إلى اعتماد الشاعر على البحور الصافية، والمركبة، وهذا يعكس اندماج الشاعر في التجربة بشكل كبير، بحيث لا يغرقه في الرمزية المفضية إلى الانغلاق والغموض، ولا إلى السطحية التي تخرج النص عن جلاله وقيمته اللغوية.
إذن الشاعر مدرك تماماً لمقولة " إن من الشعر لسحرا..." والسحر نابع من إنصهار المتلقي مع اللغة الشاعرية سواء كان بإسلوب الإلقاء، أم القراءة الذاتية، رغم التباين بين الحالتين، وهنا تظهر القيمة الحقيقية للنص، وهذا ما يؤكد عليه الشاعر حسن توفيق عندما يهرب من الذات الخارجية إلى الذات الداخلية فيتولد النص الذي أرادته التجربة.
أما تصنيفه المتعدد للمرأة جعله يتوه عبر بواباتها، فتارة مراوغة، وتارة تخدّر بالجسد، وأخرى تقيم علاقات سريعة عابرة، وصنف متشبب، أما النموذج الأكثر تأثيراً في الشاعر، تلك المرأة البسيطة والصادقة تأتيه عبرأسلاك الهاتف فيقول في ( وردة الإشراق)
عبر الأسلاك تطل حياة
عبر الأسلاك بكل لغات الأرض تظل تطل حياة
همسات شفاه أو صيحات مرعدة أو صخر حوار
أشواق... أو حسرات فراق.. أو أسرار
صدق- كذب- نبلُ-صفو-غيم-ورد أشواك
عبر الأسلاك
عبر الأسلاك يفوح عبيرك في باقاات من كلمات
كلما تأتيني.. وترفرف حولي في هيئة أطياف مجلوة
تتجمع نوراً يحمل نبرتك الحلوة.
وهناك نموذج آخر يتمثل في المرأة الباحثة عن هوية للكون، بحيث تظهر مهمومة فيه، أما النموذج الأخير، فهو صورة " حيزية" التي انتحرت لأن التقاليد والعادات حالت دون أن تتزوج من ابن عمها " سعيد" .
ما يلمسه القارئ في النصوص جميعها، هو الحرية في اختيار الأوزان والقوافي، فعكس التدفق العاطفي والفكري كمياه الجداول، مما جعل النص قريب من النفس، بعيد عن التعقيد.
إن التبادل بين الشعر الموزون والحر في الديوان هو إبداع من نوع آخر، خاصة إذا تتبعنا مضامين القصائد، فالشاعر ما لجأ إلى هذا التبادل إلا ليعينه على التغلب على الواقع المؤلم التي أصاب الأمة العربية في خاصرتها الشرقية، ففي قصيد (النخل صديقي) احتكاك مع الألم والمعاناة، وفي تقديري هي صفعة قوية في الهواء الطلق تصيب بها مَن ترك العراق يئن ويتوجع ويتألم، لكنه متفائل بأنه لن يُهزم .
إن الانصهار الكلي بين الشكل والمضمون جعل للنص قيمة فنية عالية، وصاحبهما حركة متدفقة في الموسيقى الداخلية التي ساهمت بشكل كبير في إثراء الصنعة الشعرية غير المصطنعة، فبرزت المحسنات البديعية داعمة للنص الشعري، وملبية لرغائب الصورة الفنية من خلال الاستعارات والتشبيهات والكنايات.
وإذا كان أدونيس يقول في كتابه ( زمن الشعر ) علينا في الشعر أن نُخرج الكلمات من ليلها العتيق ، أن نضيئها، فنغيّر علائقها، ونعلو بأبعادها....." فهذا حسن توفيق، تجاوز بالكلمة الشاعرية تلك الحدود، إلى ما هو أعمق فجاءت عنواين قصائده: النجم والمارد، النيل العاشق، النخل صديقي، جسد يتشمس بالحسد، خيول النار، الغابة والأشباح، المتاهة المسحورة....." تدل على معاني ودلالات أكبر وأعمق، فعلت الكلمات على ذاتها، وزخرت من خلال مضمون النص بمعاني ودلالات ذات إيحاءات تنم عن فكرٍ خصب يتمتع به الشاعر.
إن مَن يقرأ الديوان يشعر بتباعد في المضامين أحيانا، وتقارب في البنية، لكن المدقق يستشعر بخيط رفيع يجمعهما ويتمثل في سلاسة اللغة، وجمالية الصور الشعرية، والإيقاع الموسيقي في القصائد الخليلية، بهذه الروح الرومانسية، وهذا التساؤل المحيّر، نجده مغموساً في همومه، فيبدأ نصّه الأول بشفافية عالية:
ماذا عسى يحمل البريد لعاشق نجمه بعيد.
يظلّ في ضجّة المقاهي يضجّ لكنه وحيد
إجواء اليأس التي تسيطر على الشاعر، من خلال دلالات الآلفاظ( بليد – أسى، الشوك، يذوب،) مصحوبة بالأمل في نهاية المطاف، ( أغنيات – شوق، ابتهال، إشراق، سعيد) تلك هي صورة الشاعر في لحظة من لحظات الزحام.
وكعادة الشاعر، فإن جميع دواوينه لا تخل من قصيدة عن فلسطين، كيف لا وهو من المهمومين بالقضية الفلسطينية، نجده يحاول من خلال معارضته لقصيدة( أخي جاوز الظالمون المدى) يعاني ويتألم مع أبناء فلسطين وما آلت إليه احوالهم، بل وينتقد بأسلوب لاذع ما يُسمى ( سلام) فيقول في قصيدة( فلسطين لا تزعجي نومنا):
سكتنا على الوحش منذ ارتجفنا فطرنا هباءً وصـــرنا سدى
فلسطين ... لا تزعـجي نومنا وأهدي وحوش العِدا المسجدا!
نظر الشاعر إلى الواقع الفلسطيني فوجده على غير ما يتأمل، أو بمعنى جاء الواقع بعكس الصورة، فقد وجد الجرح الفلسطيني قد غار، والألم يومياً يزداد، والمعاناة تضرب بقوة في الجسد الفلسطيني، فجاءت ألفاظه محملة بهذا الهم( ضيّعت – تلطم – العار – الرجس – الوهم – زيف الطريق – وحلهم – غدر – الوحوش.....)
وكم كنت آمل ألا تنتهي القصيدة بما انتهت إليه، طالما هو مؤمن إيماناً عميقا بالقومية، خاصة وأن قصيدة أخي جاوز الظالمون المدى تنتهي بالتفاؤل والنصر، وهذا لا يتأتى إلا بالفداء.
إن المتأمل في هذه المجموعة لابد وأن يقف مطولاً عند العديد من النصوص الشعرية لإشباعها لثماً وتقبيلاً، خاصة وأن الصور الفنية التي ترفع من قيمة العمل الشعري ذات قيمة عالية.