مقالات
( رحمانيّات ربانية للآمة المحمدية )(14) نعمة العقل بين الخشية والخوف والرجاء-بقلم : المنتصر بالله حلمي الآغا
بسم الله الرحمن الرحيم
( رحمانيّات ربانية للآمة المحمدية )
(14)
نعمة العقل بين الخشية والخوف والرجاء
بقلم : المنتصر بالله حلمي الآغا
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يمن علينا بالرشاد والإيمان الكامل وأن يهدينا سواء السبيل ، اللهمَّ آمين . ذكر الله سبحانه وتعالى كثيراً نعمة العقل في محكم كتابه العزيز القرآن الكريم وبيّن قََدْرِ وشرف ومكانة العقل ، وضرب الله سبحانه وتعالى الأمثال وأوضحها وبيّن بدائع خَلقِْهِ ومصنوعاته ، وبيّن تَدَّبُّر أهل العقول فيما خلق الله تعالى في الكون وفيما أنزل من قرآن كريم على رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم من أحكام للدين والدنيا . وأمّا التفكّر فمكانه رأس الإنسان ، وأمَّا العقل وإعْمَالَه فمَكَانَهُ القلب . من أجل هذا ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن مضغة في الجسد إذا صلحت صلح كامل الجسد مشيراً إلى القلب . أمّا عدم الإدراك فهو بيان للعمى العقلي ، والعاقل من جمع بين العقل والسماع والرؤية والخشية والخوف والرجاء ، وهذا هو نور البصيرة . والله تعالى يقول في سورة النجم (آية11):‘‘ مَا كَذَبَ الفُؤاد مَا رأى ’’ ، فالله سبحانه وتعالى سمّى إدراك الفؤاد وهو القلب بالرؤية .
وفي الحديث عن كعب الأحبار قال : دخلت عائشة رضي الله عنها فقالت:[ الإنسان عيناه هادٍ ، وأذناه قٌمْعٌ ، ولسانه ترجمان ، ويداه جناحان ، ورجلاه بريد ، والقلب منه مَلِكٌ ، فإذا طاب الملك طابت جنوده ] ، وقالت: [ هكذا سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ]. والعقل والقلب هما موضع الفهم والإدراك ، فالمرء يستعين بعقله ليفهم ، وسمعه وعينيه ليسمع ويرى ، والمرء يفهم ويعي بعقله وقلبه ما سمع ورأى ، وقد شبّه الله تعالى الّذين لا يعقلون ولا يفقهون ما حولهم بالأنعام ( أي بالحيوانات ) بل هم أقل من ذلك وأضلُّ ، ووصفهم جلَّ شأنه بالغافلين ، فقد غفِلوا عن ذِكر الله تعالى وغفِلوا عن فهم ما أنزل على رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم ، وغفِلوا عن الآخرة فلم يعملوا لها ، فضاعوا في الدنيا والآخرة ، ومن ضيّع فهمه في الدنيا ، ورغب عن الفهم لن يستقيم إيمانه ، ومن فعل ذلك فليجهّز نفسه ليكون في الآخرة من الخاسرين خسراناً مبيناً والعياذ بالله . والله جلَّ شأنه يقول في سورة الأعراف:‘‘ وَلَقَدْ ذَرِأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ(179)’’ ، وإن شرَّ الدواب الصم البكم الّذين لا يعقلون . ويقول أهل المعرفة والعلم:[ أنَّ العقل جوهر مضيء خَلَقَهُ الله عزَّ وجل في الدماغ وجعل نوره في القلب يُدْرَك به المعلومات بالوسائط ، والمحسوسات بالمشاهدة ] .
وقالوا أيضاً:[ أن العقل نورٌ وضعه الله تعالى طَبْعَاً وغريزةً في القلب كالنور في العين ، وهو يزيد وينقص ، ويذهب ويعود . والمرء يدرك بالبصائر شواهد الأمور ، ويدرك بنور القلب المحجوب والمستور ، وعمى القلب كعمى البصر ، ودليله قول الله تعالى (سورة الحج آية 46):‘‘ أَفَلَمْ يَسِيِرُواْ فِي الأَرضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أوْءَاذّانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ’’ . ورُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم:( أنه أول ما خَلَقَ الله تعالى العقل ، فقال له:‘‘ أقْبِلْ فأقبل ، ثم قال له : أدْبِر ، فأدبر ، فقال عزَّ وجلّ:‘‘ وعزّتي وجلالي ما خلقت أعزُّ عليَّ منك ، بكَ آخذ وبكَ أعطي وبك أحاسب وبك أعاقب ’’ ) . كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام لعليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه:‘‘ ما خَلَقَ الله خلقاً أكرَمْ عليه من العقل ’’ . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:‘‘ الجنّة مائة درجة ، تسعة وتسعون منها لأهل العقل وواحدة لسائر الناس ’’ ، وقال ً صلّى الله عليه وسلم أيضا:‘‘ الأحمق أبغض الخلق إلى الله تعالى ، إذ حَرَمَهُ أعز الأشياء عليه وهو العقل ’’ .
والله تعالى ندب إلى المؤمنين إعْمَال عقولهم وألبابهم والتفكر في خلق الله تعالى وشئون الحياة ، وذوي العقول يُسَخِّرون عقولهم وقلوبهم لهذا:‘‘ الَّّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِين هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ(18)’’(سورة الزمر)، و‘‘ ألاَ بِذِكْرِ الله تطمئن القلوب’’( الرعد 28) . وذوي الألباب والعقول يذكرون الله تعالى ويسألونه في جميع أحوالهم كما قال سبحانه وتعالى في سورة آل عمران:‘‘… الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامَاَ وَقُعُودَاً ُوَعَلَى جُنُوبهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هّذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابِ النَّارِ(191)’’ ، وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن تلك الآيات:‘‘ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها ’’ .
من أجل هذا يتفكّر المؤمنون ويذكرون الله تعالى ويُعملون عقولهم في الخلق وأمور الدنيا والآخرة والله تعالى يستجيب لهم ولا يضيّع أعمالهم مصداقاً لقوله تعالى في آل عمران:‘‘ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أنِّي لآَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُُمْ مِّن ذَكَرٍ أوْ أُنثَى بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ ..’’ إلى آخر الآية الكريمة . والأمثلة على مكانة العقل والتفكر عند الإنسان في القرآن الكريم والحديث الشريف كثيرة ، ولا يتسع المقام لنورد الكثير منها ، ونذكر بعضها للدلالة . يقول الله تعالى في سورة الزخرف (آية 3):‘‘ إنَّا جَعَلْنَاهٌ قُرْءَآنَاً عَرِبِيَّاً لَعَلَّكُمْ تعْقِلُونَ ’’ ، وفي سورة إبراهيم (آية52):’’ هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلْيُنْذَرُواْ بِهِ وَلْيَعْلَمُواْ أنَّمَّا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَليَذَّكَّرَ أُولُواْ الأَلْبَابِ ’’ ، وفي سورة إبراهيم (آية 33):‘‘ وَسَخَّر لَكُم الليّْلَ والنَهَار وَالشَمسَ وَالقَمَرَ والنُجُوم مُسَّخَرَات بِأمْرِهِ إنَّ فِي ذَلِك لآِيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ’’، وفي سورة العنكبوت(آية 35):‘‘ وَلَقَد تَّركْنَا مِنْهَا ءِايَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ’’ ، وفي سورة النحل (آية 67):‘‘ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرَاً وَرَزْقَاً حَسَنَاً إنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لِقَوْمٍ يَعقِلُونَ ’’ ، وفي سورة الجاثية(آية5):‘‘ وَاخْتِلافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّـمآءِ مِن رِّزْقٍ فَأحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِيَّاحِ ءَايَاتُ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ’’. وقال جلَّ شأنه في سورة الطلاق:‘‘.. فَاتَّقُواْ اللهَ يَاُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أنْزِلَ اللهُ إلَيْكُمْ ذِكْرَاً (10) ’’ . والله تعالى وصف ذوي العقول والألباب في سورة الرعد بتسعة أوصاف ، قال تعالى:‘‘ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أعْمَى إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولِي الألبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنقُضُونَ المِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللهُ بِهِ أن يُوْصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِم وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرَّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّـيِّئةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلُحَ مِنْ ءِآبَائِهِمْ وَأزْواجِِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الَّدارِ (24) ’’.
ويقول أهل العلم أن العاقل له علامات يتصف بها : الحلم على الجاهل ، لأنه يحب الخير لكل من عَدَاه أملاً في كسبه ، ومحاربة وإبعاد النفس عن الباطل لأنه يخشى الله تعالى ويخشى سوء الخاتمة ، وإنفاق المال في حقّه وفيما يرضي الله تعالى ، وأنه يعرف صديقه من عدوه . وشتّان بين الجهل والعقل . كما أن الجاهل له أيضاً علامـات يتصف بها : الغضب من غير شيء ، وهذا من الحماقة ، وإتبّاع النفس في الباطن ، وإن أظهر عكس ذلك ، وإنفاق المال في غير حق ، والعاقل والمؤمن لا يفعل ذلك ، وقلّة معرفة صديقه من عدوه ، والعدو الأول للإنسان هو الشيطان الّذي يُجَمِّل له الأشياء السيِّئة من خطايا ومعاصي إلى حبٍ للدنيا ، والبعد عن الله تعالى وسلوك طريق الضلال والعياذ بالله . والعاقل هو من تفكّرَ فبَحَثَ ، فعَلِمَ ، فاتقّى الله تعالى ، فالتزم بسـلوك إيماني بينه وبين الله تعالى ، وأخلاق طيبة إيمانية بينه وبين الناس .
وهذا هو المقصود بأن المؤمن دائماً بين الخوف والرجاء ، وتفكُره وإِعْمَال عقله في خياراته ، وكلها يضعها في ميزان الإيمان ، وعند كل عمل يسائل نفسه ، هل ذاك العمل من الإيمان أم يتعارض مع الإيمان ؟! ، أمَّا ما حاك في صدره فهو يبتعد عنه ، فيعتبره من الإثم كما ورد في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . ومن هنا فالمسلم يحاسب نفسه حتى يكون مؤمناً صحيح الإيمان ، فيصحح إيمانه لو شعر بنقصٍ فيه ليصبح من عباد الرحمن وخاصته ، والمؤمن يراجع ويحاسب نفسه دائماً ويعمل لنفسه كشف حساب ليحاسبها ، لأن ذلك أيسر عليه من حساب الله تعالى له ، وهذا تحسباً لعلمه بحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أن[ من نوقِش الحساب عُذِّب ] ، من أجل هذا يسأل المؤمن دائماً الله تعالى ويبتهل إليه ألاّ يحاسبه وألاّ يسأله يوم القيامة ، بل يسأله دخول جنته برحمةٍ من الله تعالى التي وسعت كل شيء . والمؤمن صحيح الإيمان فطنٌ حاضر الذهن والبديهة دائماً من أجل محاسبة نفسه خوفاً وخشيّة وتحسّباً ليوم الحساب:‘‘ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ’’(سورة الحاقة آية 18) .
رُوِيَ عن سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:[‘‘حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه أيسر وأهون لحسابكم ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتجهزوا للعرض الأكبرفإِمّا:‘‘ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ’’(سورة القيامة آية22) مؤاها الجنّة إن شاء الله تعالى ، أو:‘‘ وَوُجُوهٌ يَوْمَئذٍ بَاسِرَةٌ ’’(سورة القيامة آية 24) مؤاها جهنم والعياذ بالله بما كسبت أيديهم’’] ، والله تعالى يقول في سورة القيامة (آية14):‘‘ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ’’ . وقد روى شدّاد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:‘‘ الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتْبَعْ نفسه هواها وتمنى على الله عزَّ وجل المغفرة ’’ .
وأخيراً أود القول أني أردت بهذه النصيحة لمن حاد عن الطريق الصحيح أن يعود ويُعمِل عقله في أموره الدنيوية والآخرة ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:( من آثر دنياه على آخرته خسر كلاهما معاً ) أو كما قال صلّى الله عليه وسلم ، من أجل هذا أسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل فنُعْمِل عقولنا لنخشى ونخاف الله تعالى لنكسب آخرتنا ولا نكون من أهل الدنيا . والعمل الصالح يبقى للذرية والولد ، وقد قيل في الغلامين المذكورين في سورة الكهف ( صاحبي السور الذي بناه سيّدنا الخضر ) الذي كان أبوهما صالحاً ، أن ذاك الأب كان الجد السابع ، وكما العمل الصالح يبقى ، فإن الأوزار والتعاسة والبؤس والفقر والذّلِّ تبقى للذرية إذا كان أساسها معوّجاً . نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق وأن يرحم أموات المسلمين والمؤمنين ويغفر لهم ، وأن يتقبلنا ويتجاوز عن سيّئاتنا ويتقبل شهدائنا في الوطن والخارج ، وأن يلهمنا الصبر على ابتلاءات الدنيا ويفرج الكرب ويرد كيد الكائدين إلى نحورهم ، ويعزّ وينصر من ينصره ، اللهمَّ آمين ،
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبة أجمعين ومن تبعهم إلى يوم الدين ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين
[1] طارق احمد قاسم الاغا | مقابل مسجد عمر بن الخطاب | 29-07-2010