لا أدري كيف يمكن لنا أن نجيد الحديث عن شخصٍ لا نعرفه، إلا صوراً رأيناها وما أندرها، وحديثاً سمعناه وما أقله، ولم تصلنا إلا شظايا الحزن في يومين فائتين، للقريب البعيد، الذي غادر الدنيا تاركاً رصيداً من المكرمات والقصص والذكريات، لجيل من عاشروه، وعانقوا أيامه، حتى وإن كان بعيداً لم تره عينايّ مرة واحدة قبل ذلك .
أخبرتني أمّي، أن خالي أحمد قد أذّن في أذني حين مولدي، وأخبرتني كثيراً أنه رجل صالح، وأنه لم ينجب، وقد تزوج بسيدة مصرية واستقر هناك، حيث أرض الكنانة التي أخذت من عمره ما أخذت .
لأول مرة أشعر أن للموت مزايا، فقد طفت سيرة الرجل على السطح، وأخذ يذكره القريب والبعيد، وكلهم يسترجعون ما احتفظوا به من ذكريات التقاء .. وملامح موقف مّروا به على عجل، أو قصة سمعوها من هذا و ذاك .
أخطأتُ كثيراً أيها الخال، حينما لم أعرّج عليك في طريق سفري من غزة إلى الشارقة، ولكنها قسوة الطريق، وضيق الوقت، رغم أنه في كل مرة، كان يراودني الرحيل إليك، حبيباً نشتاق رؤيته من رائحة الغالية .
ماذا كنت تستشعر في غربتك ؟ هل كان الحنين ينتفض في روحك صانعاً جبل الذكريات؟!
كيف كنت تمسك عصافير الشوق وتلملمها في قفص أحلامك، ممنياً نفسك بعودة قريبة ؟!
هل كنت حقاً تشعر بحزن التراب الذي لم تمشِ عليه إلا قليلاً، وهو ينوح كطفل صغير راجياً بعض قدمك ؟!
لماذا آثرت الغياب أيها الرجل الكريم؟ وتركت الموت يأخذك بعيداً عن حضن الأخوة والأخوات، ومرابع الطفولة والصبا ؟!!
كلنا رأينا تجاعيد الحياة وهي ترفع كفها لك مودعة بقاءك في الدنيا، حاملة معها استئذاناً لرحيلك الأخروي، وذهابك عن رب الكون، مستظلاً برحمته ومغفرته في شهره الأعظم .
يا أيها الشيخ :
على جسدك المسجى، وقفت سحابة المطر، توزع الذكر والتراتيل على روحك الطاهرة، حاملة على ظهرها كل دعوات الذين أحبوك وعرفوك وعلمتهم وعلموك، والتقيتهم والتقوك، وغبت عنهم وغابوا عنك ..
يا ابن جدي، لقد خرجت جنازتك من الوطن، وصلى عليك الجميع، وترحموا بألسنتهم وقلوبهم، هكذا رأيتُ المشهد بقلبي، حتى وإن كانت الحقيقة خلاف ذلك، ورأيت زوجك الحزين بيننا، تحزن معنا، وتدمع بين أهلك فيض دموعها لرحيلك .
رأيت خلف جنازتك كل طلابك وبنيك من أبناء المسجد، من الذين تتلمذوا على يديك كتاب الله، رأيت الشوارع قد امتلأت بأولئك الذين أحبوا الشيخ أحمد في حياته، وحين رحل إلى جوار ربه، آمناً مطمئناً .
حزينة يا خالي لأنك بقيت في المنفى بجوار الموت والصقيع، حزينة جداً لأنني لم أرك ولو لمرة واحدة، أجامل بها فؤادي، حزينة _ ولست وحدي _ أننا لم نسمعك، ولم نأكل معك، ولم نقف في جماعة نتبعك .
من آذان الفجر حتى الليل .. حتى السحر .. كل يوم، ندعوك يا الله أن ترحم خالنا وترحمنا، أن تتغمد الشيخ الشهيد الغريب، في واسع رحمتك .. وظل جلالك، و اتساع محبتك .
[1] آية محمد نايف الأغا | لفراقك وهجٌ لا ينطفئ | 30-08-2010