قال تعالى" ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يُرزقون" صدق الله العظيم
" شهداؤك يا خان يونس يا ابنة الأكابر كنوز تاريخية، وعلامات مضيئة على طريق الحق والحرية، أدلّة بارزة مرئية.... أرواح ابناؤك طاهرة زكيّة.... ستبقى في الذاكرة الأبدية، لا مهملة ولا منسية، سيبقى أبناؤك في الضمير خالدة أبية ليوم حساب بين فلسطين الأبية، والدولة العبرية" إحسان الأغا
للشهداء واجب علينا، ولذوي الشهداء احترام وتقدير، ولمدينة الشهداء وقفة إعزاز وإكبار، إنها قصة مذبحة لمدينة من مدائن فلسطين، إنها " خان يونس" تلك المدينة الوادعة التي تتكئ على شاطىء المتوسط جنوباً، لبست السواد منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، فابناؤها لم ولن ينسوا تلك المذبحة المروّعة التي راح ضحيتها أكثر من 500 شهيد من أبنائها.
إنه شهر نوفمبر أقسى شهور السنة على الشعب الفلسطيني وأكثره قساوة على أبناء خان يونس، ونسائها وشيوخها، وشجرها وحجرها وبرّها وبحرها.
رحمكم الله يا شهداء خان يونس، وشهداء المذبحة رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، رحم الله كل الشهداء من أبناء فلسطين، ورحم الله شهداء الأمتين الذين استشهدوا من أجل فلسطين.
أكتب اليوم في ذكرى المذبحة لأحكي للأجيال الجديدة قصة مدينة صامدة صابرة، وعن شهداء ارتقوا بيد الغدر الإسرائيلي، وفاء للشهداء الأبرار، وتذكرة للأجيال الصاعدة، ليبقى الجرح مفتوحاً طال الزمان أم قَصُر، حتى تتحرر الأرض. إنهم أحبّة لذويهم ولنا استشهدوا نهاراً، فرادى وجماعات، وأمام أعين ذويهم بدم بارد، إنهم الأكرم منّا عند الله، ونحسبهم كذلك.
نحاول تسليط الضوء على هذه المذبحة التي لم يكن حجم تأريخها يتناسب مع شهدائها، ولم أجد تفسيرا لهذا التجاهل أحياناً لدى المسؤولين، علماً بأن مجازر راح ضحيتها اقل من ربع الشهداء تجد من يهتم بها إعلامياً. لهذا كان الجهد الكبير والعظيم والمشكور من الدكتور إحسان خليل الأغا " رحمه الله"عندما أصدر كتاباً بعنوان ( خان يونس وشهداؤها) المذبحة والصمود، فأصبح الشاهد الوحيد على المجزرة.
عندما نطالب المؤرخين بهذا، فمن أجل إبراز الحقيقة، وليس من أجل كتابة اسم الشهداء، ولإبراز وجه إسرائيل العنصري ضد أبناء فلسطين، وفضح أساليبهم أمام الرأي العام العالمي، لفا نلوم بقدر ما نعتب، وعتبنا على كل مسؤول في هذا الزمن، نابع من إيماننا بأن الوطن واحد، والشهيد برصاص الاحتلال شهيد الوطن. ولكن وفي نفس الوقت أثمّن عالياً بلدية خان يونس التي تفتح هذا الجرح سنوياً، متمنياً عليهم إقامة ورشة عمل بهذا الخصوص، ومحاولة رسم جدارية ثابتة بجانب القلعة، باعتبار جدارها شاهد على المذبحة، أو إعداد فيلم قصير لنفس الغرض.
المدينة بمساحتها التي تبلغ 53.820 دونما ، وبأهلها الأكثر طيبة وكرمأً ومحبة للأخر، تفتح ذراعيها للقاصي والداني، كما فتحته لأبناء الوطن في عام نكبة 1948، ومرحبة بكل زائر دون النظر لهويته وجنسه وديانته، تتميز جغرافيتها عن كثير من مدن فلسطين بالسهلية، فيُزرع فيها جميع أنواع الخضروات والفواكه التي تتناسب وطبيعة بيئة المتوسط، إضافة إلى منطقة المواصي التي تشتهر بها وتتميز عن غيرها من مدن فلسطين بكاملها، لكنها الأكثر قوة وصلابة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي كغيرها من مدن فلسطين.
فقد كنت شاهداً عام 1967 عندما دخلت القوات الإسرائيلية المدينة في اليوم الحادي عشر من يونيو أي بعد ستة أيام من الحرب، حيث وقفت صامدة مقاومة، فتكبدت القوات الإسرائيلية الكثير من الخسائر في الأفراد والآليات، فكان لابد من قصفها حتى تستسلم ، ولكن لطف الله على أهلها كان المانع والحامي لها في لحظة حاسمة، وكأنه لم يرد أن تُصاب بنكبة شبيهة بنكبة 1956، فدخلتها القوات الإسرائيلية بعد مقاومة شديدة، وبقيت المدينة شوكة في حلق إسرائيل بشكل يختلف عن باقي المدن الفلسطينية حتى بعد احتلالها.
إنها مدينة الشهداء كما أطلق عليها بعض المؤرخين لكثرة من استشهد من أبنائها في فترات متقاربة، وكثرة المعتقلين من أبنائها.
وهنا نعود بالذاكرة إلى شهر نوفمبر الحزين الذي يشهد بالعديد من المناسبات المؤلمة على الشعب الفلسطيني.
خمسة أيام شاهدة ومشهودة، ففي اليوم الثالث من نوفمبر عام 1956 بدأت المجزرة، وانتهت في اليوم السابع، فخلال خمسة أيام وصل عدد الشهداء إلى أكثر من خمسمائة .
إنها المذبحة الأكثر قسوة ليس لكثرة الشهداء الذين ارتقوا، بل لبشاعة المنظر والأسلوب الذي مورس على أهل المدينة سواء من مناظر الذين استشهدوا أو من رواة التاريخ الأسود عن تلك الأيام، فقد بدأت المجزرة من مدينة خُزاعة ثم عبسان فبني سهيلا في المنطقة الشرقة من المدينة، وصولاً إلى المدينة فالمعسكر وحتى البحر، ثم منطقة القرارة وصولاً إلى مشارف المدينة، ومنطقة الشاعر والنجار حتى مدينة رفح، ولم يكتف اليهود بالقتل بل استخدموا الطائرات التي كانت تحمل أطناناً من المتفجرات، لتلقي بحممها على الآمنين بحراً وبراً، إلى الدبابات والقصف العشوائي.
المذبحة وهو الاسم الأكثر مناسبة، فبعد أن خرج أبناء المدينة من بيوتهم في اليوم السابع والثامن صُعق أهلها بحجم المصيبة والكارثة، دماء في كل مكان، على الأرض وعلى جدران المنازل وأسوارها وقلاعها، دماء في الطرقات، وفي منطقة البحر، دماء تسير مع المياه، وشهداء على ابواب المنازل، وداخلها أمام أعين ذويهم، جثث متناثرة هنا وهناك، بعضهم لم يتعرف ذووه عليهم للتشوهات التي حدثت نتيجة تركها أكثر من ثلاثة أيام مما أصابها بالتعفن، فما يُسمع إلا بكاء وعويلاً في كل مكان، مشهد مُروّع لا مثيل له إلا مجزرة صبرا وشاتيلا.
في اليوم السابع من الشهر أي بعد أربعة أيام من المذبحة، صحا الناس على الجريمة البشعة، فأخذوا يبحثون عن أحبة لهم أباء وأمهات، أخوة واخوات، أصدقاء وجيران، شيوخ وعلماء، مسلمون ومسيحيون، بدا أهل المدينة يعدّون موتاهم، عشرة، عشرون، مائة، مائتين، ثلاثمائة، الأخبار تترى، هنا شهيد، وهناك ثلاثة، تأتي الأخبار من بني سهيلا وغيرها من المدن والقرى تقول بأن برهم محمد أبو جامع تم التعرّف عليه، وجاء خبر من عبسان بأن محمد خليل أبو مصبح قد استشهد، وأن حسين علي أبو هيبة من يافا وشقيقه، واسماعيل الأسطل وفاطمة الجبور، ورمضان عبد الله الخطيب، وعمر حمدان، وأحمد حسن شحادة وسعيد يوسف الشريف من حمامة، وعطا موسى شهوان، وعلي العامودي، وسالم العمور، ومحمد خليل عياش، وحسين أحمد قديح، وخليل أحمد، وحسونة جاسر، وفضل سليم، وعودة مصطفى وجميعهم من عائلة الأغا، وصادق علي صادق، ونعمة سعيد صادق، وأنور سليم بربخ، وحسن البطة، ونديد حافظ البطة، وجميل تنيرة، وقاسم سعيد الفرا، وإبراهيم علي النجار، وراغب عثمان شبير وغيرهم كثير وكثير من أبناء المدينة، إلى أن وصل العدد إلى خمسمائة شهيد، ومن أراد الاطلاع على أسماء وعدد الشهداء فعليه بالمرجع الوحيد، " خانيونس وشهداؤها"، أو موقع عائلة الأغا ( النخلة).
هكذا فعلوا بهمجية دخلوا البيوت وفتشوها، وعاثوا فيها فسادا، واعتقلوا شبابها، وساقوهم إلى أماكن تجمع محددة، حسب المكان، وجعلوا وجوههم إلى الحائط وبدأووا بإطلاق النار عليهم بدم بارد، وعندما بدأ أهل المدينة بالبحث عن مواتهم في اليوم السابع والثامن، وجدوا رصاص الغدر في أنحاء متفرقة من أجسادهم، ليعكس قسوة المشهد.
ذاكرة الزمن تروي أن الطفلة عائشة أبو دقّة وعمرها ثلاث سنوات كانت ممن استشهد في اليوم الأول، وأن السيدة عائشة انشاصي وعمرها خمس وستون عاماً كانت ممن ارتقى، فما ذنب النسوة العجائز، والأطفال الأبرياء؟! لكنه القتل بدم بارد، ومازلنا نبحث عن أرضية للسلام!
مازالت جدران الجريمة شاهدة حيّة على بشاعة المنظر، فهذه مذابح القلعة، والمسلخ، وحائط الشيخ / حافظ البطة، وحائط دار صوالي، وشارع البحر، وشارع جمال عبد الناصر، وشارع جلال، وغيرها من شوارع وأزقة المدينة شاهدة على المجزرة.
آه يا خان يونس، يا مدينة أراقت الدماء الزكية
آه يا خان يونس ستبقين شوكة في حلق أي حكومة استبدادية
آه يا مدينة الشهداء ستبقين عصية في وجه الحكومة العبرية
آه يا خان يونس ستلبسين الأبيض يوم تحرير القدس الإسلامية
كلمة أخيرة: من أجل الشهداء، فلسطين أرضها وعلمها وقدسها ودينها واحد، فهل من متعظ؟
من المراجع: خان يونس وشهداؤها، إحسان خليل الأغا
[1] خالد احمد خالد الاغا | ويا جبل ما يهزك ريح | 03-11-2010
[2] سعيد خميس سعيد الشوربجي | لا فض فوك | 03-11-2010
[3] حسام عثمان محمد الأغا | خان يونس الرجال | 03-11-2010
[4] عيسى حامد حسين الأسطل | خان يونس | 03-11-2010
[5] محمد فخري مصطفي الاغا | بوركت يا دكتور يحيي وبورك قلمك | 04-11-2010
[6] المنتصر بالله حلمي أحمد الآغا وعائلته | مدينة الشهداء والأبرار | 05-11-2010
[7] د.بهاء عبدالله يوسف الاغا | تحية وتقدير | 06-11-2010