بسم الله الرحمن الرحيم
صلَةُ الرّحِم قاعدةٌ في البناء الحضاري!.
الحمد لله، وبعد:
فما قيده يَراعُ الملاحظة منذ مدة من الزمن كثرةُ شكوى الناس من الهجران والتدابر عامة وبين ذوي الأرحام خاصة!، وآخرون مما يجدونه من وحشة في القلوب وقلة في البركة، مع اجتهادِهم في إعطاء كل ذي حقّ حقه ما وجدوا إليه سبيلا!، ولعمري إن كانتْ – بعد النظر فيها مليا – إلا صيحةَ نذير ونداءَ تحذير، داء استشرى بين أطياف المجتمع وفئاته، وتغلغل في كل طبقة من طبقاته، وتمثلت أعراضُه في صُوَرٍ شتى: في التهاجر وقطع التزاور، وفي ترك السؤال وتفقد الأحوال، وفي التباغض والتحاسد، وفي الاستطالة على المسلم: في عرضه بالهمز واللمز، وفي ماله بأخذه بغير حق، وفي دمه بالعدوان عليه، وأدنى ذلك في ترك السلام وفي التجَهّمِ وإيصال الأذى!.
وإنه لمن الديانة والحكمة أن نعود بالداء إلى منشأه وجذوره؛ لا أن نلقي باللوم على تقصيرِ آحادِ الناس فحسب، فإن الأمة لما كانت بمنزلة الجسد الواحد كان لما يصيبه أثرٌ على البدن كله، وسيانِ ما أصابه في الرأس أو أصابه في أصابع القدم!، وما الوحشة التي يستشعرها الصالحون؛ وقلة البركة في الوقت والمال إلا من آثار ذلك كما نبه عليه غير واحد من العلماء، فإن أثر المعصية ينتقل إلى جميع الأمة كما ينتقل الألم إلى كافة أعضاء الجسدِ تأثرا بالعضو المصاب، وهذا هو سرُّ الحكمة في تكليفنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي التواصي بالحق، وفي الأخذ على يد الظالم!، وسريانُ هذه الآثارِ واقع في الأمة كونا وقدرا، مترتب على مقارفة الذنوبِ ترتب النتائج على الأسباب، لا يسلم من ذلك إلا من أنكر وبرئ، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ولئن كان سائر الجسد يتداعى بالسهر والحمى لعضو أُصيبَ فإن تداعيَهُ لما يصيبُ الرأسَ أشد وأعظم، والرأس في الأمة هو كل من تولى أمرا من أمورها، فيشمل السلطان الأعظم فمن دونه؛ إلى الوصي على مال الوقف واليتم، وولي النكاح؛ ونحوهم، فكل هؤلاء لا يقع من أحدهم ظلمٌ أو ذنب يتعلق بمصالح المسلمين إلا وسرت آثاره وجنايته إلى الأمة كلها، عضوا عضوا...، فما يقع من السطان والأمير من الهجر لأحكام الله تعالى؛ والعدول عن السياسات التى جاءت بها شريعةُ الإسلام إلى السياسات الجائرة الظالمة التي تَهدر كرامة الإنسان وإنسانِيّتَهُ مثلاً؛ تنتقل آثاره إلى المجتمعِ والفرد في صور شتى؛ كمحق البركة في الزرق، واستشعار الوحشة في القلوب، والضيق في الصدرو، وتقطيع الأرحام، وانتشار العقوق،....ونحوها حتى وإن كان الفرد ينكر كل ذلك ولا يرتضيه!، ومثل هذا أيضا شكوى الناس من الصالحين وغيرهم من ذهاب البركة من المال والرزق مع اجتنابهم للمال الحرام!، فإن علته انتشارُ التعامل بالمحرمات المالية كالربا وأنواع المكوس والضرائب والبيوع المحرمة والعدوان على أموال الوقف والأيتام واقتطاع الأرضين من الناس ظلما؛ وغير هذا...، فينتقل أثره إليهم، وتسري جنايته عليهم، وفي الكتاب والسنة وقصص التاريخ وشواهد الحال من البراهين النقلية والعقلية على صحة ذلك ما لا يتسع المجال لحكايته.
ومَن وَهَلَ من الناس ظنّ في هذا الكلام وفي عُنوانِ المقالةِ نوعَ مبالغَةٍ وتعظيم، لأن معنى الحضارة اخْتُزِلَ في أذهان كثير من الناسِ في تقدم الصناعةِ وتَوَسُّعِ المعرفة، ثم ازدادت الصورة انحصاراً في الدول التي ينعتها الناس ب (المتقَدّمةِ)!، وهذا غلط بَيّنٌ، تصحيحهُ في أن الحضارة تقوم على عناصر خمسة: 1- عقيدة المجتمع. 2- تقاليده الخلقية. 3- نظامه السياسي. 4- موارده الاقتصادية. 5- متابعة العلوم والفنون. فأما العنصر الأخير؛ فالعلوم والفنون تنتقل بين الأمم انتقال الدورة الدموية بين أعضاء الجسد الواحد، وتتخلف المتابعةُ فَتُثْمِرُ انهيارا في حضارة المجتمع والأمة، كما شرحت ذلك تفصيلاً من قبل في المسامرة التي بعنوان: (سر صناعة الحياة)، وأما العناصر الأخرى فهي عرضةٌ للزوال إلا بشرط: أن تنبني على أصولٍ تضمنُ لها البقاء والدوامَ، وإلا وُلدَتْ الحضارةُ القائمةُ عليها ولادةَ الجنين المشوّه في غرفة الإنعاشِ يعيش إلى أجل قُدّرَ له ثم يموتُ، وإذا كان المجتمع بمنزلة الجسد الواحد يقوم بالروح والبدن معا؛ فإن موته تتعدد أسبابه كما تتعدد أسباب موت الإنسان، إما بداء يصيب الجسد أو الروح أو يصيبهما معا، فلا تستوي الحضارات إذن في أسباب سقوطها وزوالها، ولا يجوز بحال أن يقارنَ بينَ الإنهيار الحضاري الذي تشهدهُ (أمريكا) اليوم مثلاً وبين ما تعرض له العالم الإسلامي في تاريخه الطويل، لقيام عناصر الحضارة في العالم الإسلامي على أصول وقواعدَ ثابتةٍ قُدّرَ لها الخلودُ شرعا وقدرا، بينما قامت الأخرى على غير أساس أصلا!، ومن دروس الأكوان وعبر الأيام أن يشهد العالم كلّهُ سقوطَ الإمبراطورية (الأمريكية) ماثلا أمام العيان، في الوقت الذي يشهد فيهِ نهوضَ العالم الإسلامي واسترجاع دوره ومكانته، وليس الحديث عن هذا رجما بالغيب؛ أو إغراقا في التفاؤل، أو ضربا من الأماني؛ أو نسجا من وحي الخيالِ، بل مقدمات ونتائجَ نستقرئُها من سنن الله تعالى في الدول والأمم، أرجو أن يتسع الحديثُ لها في مقام آخر.
ولما كان العمرُ الحقيقي للإنسان يقاسُ بعطائِهِ ونفعهِ، ومن دُونِ ذلكَ يُخْتَصَرُ عمرُ المريض المزمن في ولادته ووفاته؛ وفيما بينهما من أسباب الوفاة، أجرى الله تعالى هذه القاعدةَ على من خرج عن سنته وهديه من الأمم فقال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}، فلم يذكر غير الحياة والموت!، وهذا كما قال أيضا: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، فهذه الأمم لما قامت عناصر حضاراتها الأربعة الأولى على غير أساسٍ لم تستحقّ الخامسةُ - التي هي ما أبقته من المعارف والفنون - الذكرَ، لأنها كما ذكرنا لا تخص أمة دون أمة، وإنما خص بالذكر منشأ الأُمم وفناءها، وما بينهما: وهو اتباع ما زُيّنَ لهم من الهوى، والخروج عن النهج السوي مع علمهم به، والاستكبار والعتو في الأرض، ثم الذنب والعقوبة والعاقبة.
وإذا كانت العقائد في نشأة المدنية والمجتمع المدني هي التي ترتقي بالإنسان إلى الإخلاص للعمل ذاته، وتجعله أكثر عطاء وصدقا مع النفس في عمره القصير في الدنيا قبل أن يتخطفه الموت، فإن القانون الأخلاقي هو الذي يربط بين المجتمع، وهو الذي يطرد سلوك الناس وينتظم تبعا له، وهو الذي يحملهم على اتخاذ هدف وحافز وغاية لهم في الحياة، كما أن التربية هي التي تنقل ثقافة المجتمع والأمة من جيل إلى جيل، وهي التي تورث الأجيال روح الأمة ومعارفها وآدابها وأخلاقها وتقاليدها وأعرافها وعلومها وفنونها، وهذه الثلاثة – العقائد؛ والأخلاق؛ والتربية، ويهمنا منها هنا القانون الأخلاقي وما بعده – بيداء مقفرةٌ معتمةٌ في تلك الأمم، فملامح الإنهيار في المجتمع (الأمريكي) على سبيل المثال - وهي مدعمة بالأرقام والإحصاءات - أبرزُها فساد النظام الأخلاقي؛ومنهُ: تفكُّكُ النسيج الاجتماعي الذي يتمثل في فقرٍ يعيشه عدد كبير من أبناء المجتمع، وفي ارتفاع عدد الوفيات والموت الجماعي للأطفال الرضع، وانتشار الأمراض المزمنة، وتدني المستوى الثقافي بين عامة الشعب، وانتشار القلق، وارتفاع معدلات الجريمة ومنها جرائم الشذوذ، والإباحية، والمخدارت، والقتل، والعنف، والعنف الأسري، والاغتصاب، والنهب، والسرقات!.
وليس غرضنا هنا الحديث عن تلك المجتمعات، وإنما ذكرناها مثالا لأسباب انيهار الأمم، لأن الذي يقابل الإنهيار هو البناء، وكل ما أشرنا إليه من الأمراض التي تفتك بالمجتمع يرجع علاجها إلى قاعدة كلية واحدة، هي: صلة الأرحام، والرحم المأمور بوصلها على الصحيح هي: كل قرابة وإن بعدت، نعم قد يقال بتفاوت الحقوق باختلاف درجة القرابة قربا وبعدا، لكن لا يمنع هذا من اشتراك الجميع في المأمور به من الصلة، ولأن الصلة كما قال ابن عابدين من علماء الشام في القرن الثاني عشر الهجري تقع بالسلام؛ والتحية؛ والهدية؛ والمعاونة؛ والمجالسة، والمكالمة؛ والتلطف، وأنواع الإحسان، وبالزيارة، أو بالمكاتبة إن كان غائبا.
في صلة الأرحام راحة النفوس، وصفاء القلوب، وبردُ الضمائر ونقاؤها من أدواء العداوة والبغضاء، فينموا عطاء الفرد لمجتمعه وأمته، وصفاء البال مع شعور الفرد بانتفاع المجتمع بما يبذله ويقدمُه من أهم ما يشحذُ الهممَ حتى يبلغ بِها إلى التضحية بالنفس والنفيسِ، فيقوى نسيج المجتمع وتلاحمه؛ ويتعاونُ على سدّ منافذ الإنيهار الأخلاقي، ويتفرغ للعطاء والبناء، وهذه قاعدةٌ مهمةٌ في بناء الأمم والدول، ولهذا يَتقصّدها كل من يُضْمِرُ للإسلام عداوة وشرا؛ كما تقتضيه قواعد الحرب من ضرب الأصول والأسس لسرعة إفضائها إلى إلحاق الهزيمة بالخصم، ولذا شدد الشارعُ في شأن (صلة الأرحام)؛ لأن الإسلام روح أمة وبنيانها، وفي المحافظة على قواعده بقاؤها وسر قوّتها، وقاطع الرحم يهدمُ االقواعد ويزيل الأساس....
لا جرم أن ورد لعنه في كتاب الله في موضعين تصريحا، وفي الثالث إشارةً وتلميحا...
ولا جرم أن ورد عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أن الله تعالى يصل من وصل الرحم، ويقطع من قطعها...
وأن أجدر الذنوب بتعجيل العقوبة قطيعة الرحم، وأعجل الطاعات ثواباً صلة الرحم...
وأن قاطع الرحم لا يدخل الجنة...
وأن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم، فكيف لو كان ذا رحمِه!...
وأن أبغض الأعمال إلى الله تعالى بعد الإشراك به قطيعةَ الرحم...
وأن وصل الأرحام سببٌ لحصول الهداية ودخول الجنة...
وأن وصلها علة لعمار الديار، وطول الأعمار، والبركة في الأموال...
وأن خير الناس أتقاهم لله تعالى وأوصلهم للرحم؛ ويفهم منه أن شر الناس أبعدهم عن التقوى وأقطعهم للرحم...
وأن وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بترك التباغض والتقاطع والتدابر والتحاسد، وأن يكونوا عباد الله إخوانا...
وواصل الرحم هين لين سهل مُحَبّبٌ إلى الناس، وقاطعها قاسٍ نَزِقٌ مظلمُ القلب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: حُرّم على النار كل هينٍ لين سهلٍ قريبٍ من الناس.
وإنما قرنت صلةُ الرحم وقطعُها بالثواب والعقوبةِ جريا مع قاعدة الشرع في تربية النفوس بالترغيب والترهيب، ولأن صلة الرحم إن كانت لغير الله تعالى لا بقاء لها، كما يشاهد من كثير من الناس، يصل مِن رحمه ما يحقق لهُ مصلحةً من مصالح الدنيا، فإذا انقضتْ مصلحته قطع صلته، وهتك ستر صاحبه، وكشف من أسراره ما كان مؤتمنا عليه، وسعى في فضيحته بين الناس، واتخذ الغيبةَ مركبا، والنميمة وطاءً، فيجمع الشقي إلى قطيعة الرحم آثاما آخرى، وكل منها كبيرة من الكبائر، فالقطيعة كبيرة، وهتك ستر المسلم كبيرة، وخيانة سره الذي اؤتمن عليه كبيرة، وغيبته كبيرة، والنميمة كبيرة، وذلك مفض إلى إغراء العداوة بين المؤمنين فهو كبيرة، وإلى الفت في عضد أهل الإسلام فكبيرة أخرى، فانظر إلى هذه الفاقرة كم تجر على المسلمين من الويلات، وانظر إلى انتشارها في المجتمعِ وآثارها عليه حتى إنك لا تكاد تجد بيتا خليا عنها!، ثم انظر إلى كثير ممن يقع بينهم التهاجر والتباغض اليومَ لغير سببِ، لا ديني ولا دنيوي!، وإنما لاستيحاش يجدونه في قلوبهم، وحرجٍ في صدروهم، لا يعرفُ له سبب سوى انتشار الظّلْمِ والمعصيةِ الذين يمحقان البركةَ ويمنعان حصولها، وانظر بعد ذلك في صور من تقطيع الأرحامِ مما لا يأبَهُ الناسُ له، أو مما انتجهُ فساد الحياة المدنية، فهو من آثارها السلبية على الفرد والمجتمع:
- منها التحاكم في الخصومات إلى الأعراف التي تخالف الشرع، فَتُهْدَرُ بها الحقوقُ التي أقرتها شريعة الإسلام، سواء كانت حقوقا مادية أو معنوية، كحق ولي الدم في القصاص، وحقّ المرأة في الميراث والنفقة، وحقها في المطالبة بالعدل بينها وبين ضراتها في المبيت والإنفاق، وحق الأبناء في التربية والحضانة،...وغير هذا، ومثل العرفِ المخالف للشرع هنا القانونُ الوضعيُّ أيضا، وكل ذلك من الشرك بالله في حكمهِ، فهو حرام لا يجوز.
- ومنها الاستعانةُ بالسحرةِ وتسليطهم على الآخرين بأنواع الضرر والأذى، وأعرفُ من فُرّقَ بينهُ وبين زوجهِ بالسحرِ أكثر من عشرين عاماً، وهما يعيشان في بيت واحد لا يكلمها ولا تكلمه!؛ ولا أظلهما سقف واحد طيلة المدة المذكورة، وهكذا يفرقون بين الرجل وأبيه، والرجل وأخيه، والمرأة وابنها!، ألا ساء ما يزرون.
- ومنها عقوق الوالدين، ومن أعظم مظاهرهِ المحْدثَةِ تقليداً للأمم الغربيةِ إنشاء دور العجَزَةِ والمسنّين، وكم سمعنا عن حوادثَ تقع في بلاد المسلمين!، فإذا بلغ الأب والأم أو أحدهما الكبرَ أرسله الأبناءُ إلى تلك الدور، لأنهم مُنْشَغِلُونَ عن القيامِ على مصالحه!، زعموا... وهذا مما لا يتناهى بشاعةً وظلامةً وقبحاً، وهو من أعظم التقطيع للأرحام الجالب لسخط الله تعالى وغضبه، ثم هو من أعظم المحادّةِ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى أمر ببر الوالدين، ووصى بهما عند الكبر في السن خاصة، لشدّةِ حاجتهما إليه في ذلك الوقت، ولأنه لولاهما لم يكن له وجود في الحياة الدنيا، وقد أفنيا أعمارهُما في تربيتهِ ورعايته، وسهرا ليلهما في الخوف عليه وتدبير مصالِحِهِ، أفيكون جزاءُهما بعد هذا كلهِ أن يُنْبَذا من دارِهِ إلى غريب يتَجَهّمُهُما ولا يرْحَمُهُما!، فبئستِ السنةُ هذه والله، وليرجعْ من سنّها في ديار المسلمين مأزورا لا مأجوراً، نعوذُ بالله من سخَطِهِ وموجِباتِ عقابهِ.
- ومنها: إهمال تربية الأبناء، إما بتوكيل ذلك لمن لا يُؤتَمنُ على دينهم وأخلاقهم، من المعلمين والمربين، أو إلى الخادمات كما يفعلُ في كثير من الدور، أو بالانشغال عن تربيتهمْ بأنواع الملهيات من المحرمات أو المباحات!، أما الإنشغال عن التربية باللهو المحرمِ فحرامٌ، فإن أفضى إلى ترك التربية الواجبةِ فقد جمع بين ارتكابِ محرمين والوقوع في محظورينِ، وإن اشتغل عن التربية الواجبة باللهو المباح فحرامٌ أيضا، لأنه كمن ينشغل عن صلاة الفريضة برياضة البدنِ!، وحد التربية الواجبةِ: هو ما يضمنُ للولدِ حصولَ الحدّ الأدنى من مصالح الدنيا والآخرة، فيقيه بذلك من التقصير في الفرائض والواجبات، ويحفظه من الوقوع في المنهيات، ويُهَيئُهُ لحياةٍ كريمةٍ صالحةٍ تجعله عضوا نافعاً لنفسهِ وأمتهِ، والتربيةُ المندوبةُ على مراتبَ، وحدُّها: تحصيلُ معالى الأخلاقِ ومكارم الصفاتِ، وبلوغُ الغاياتِ في بناء الفردِ والأمةِ، فمن أهمل القدر الواجبَ من ذلك وفرّط فيهِ كان قاطعا لرحم من يعولُ قبلَ أن يقطعوه، وعق أبناءَه قبل أن يعقوهُ، هدانا الله وأهلنا وأحبتنا وسائرَ المسلمينَ إلى التي هي أقومُ.
- ومنها: الاعتذار عن ترك التواصلِ بكثرة المشاغل، في الحياة المدنية خاصةً، فتمضي الشهورُ والأعوامُ وبين الرجلِ وذوي رحمِهِ رَميَةٌ بحجَرٍ، فلا يأتيهم، ولا يسألُ عنهم، ولا يدري عن أحوالهم شيئا، ولا يشاركهم فرحا ولا تَرَحاً، وهذا العذرُ والذنبُ سواء، فإن الله تعالى قد هيّأَ للناس من أسباب التواصل مالم يكنْ معهوداً من قبلُ، فقطعَ بذلكَ العُذرَ عن كلّ معتذر، أجلْ؛ من عجَزَ عن الصلةِ لأمر خارج عن القدرة فهو معذور، ولا يلكف الله نفسا إلا وسعها.
- ومنها: ما يفعله بعض الناس من قطع الأرحام إرضاءً لزوجِهِ، وقد يعقّ لأجل ذلك أباه، ويهجرُ أمه، ويصرمُ حبال المودّةِ بينهُ وبين إخوانهِ وأخواته، وبينه وبين عمومته وخؤولتِه، وقد كثر بين النساءِ من تصنعُ بزوجها ذلك وتحملهُ عليه، وربما خيّرَتهُ بين مواصلةِ أهلهِ وبين طلاقها!، فتجمع بين كبيرتين من كبائر الذنوب؛ حَملِهِ على قطيعة الرحم، وطلب الطلاق من غير ما بأس، وقد قال عليه الصلاة والسلام: أيما امرأةٍ سألتْ زوجها الطلاق من غير ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنة، وذلك من عَتَمَاتِ الزمان، وعلامات الحرمان، ساءَ مثلاً الرجُلُ يطيع زوجه في مثل هذا، وساءت مثلاً المرأةُ تدعوه إلى مثله، حاشا الصالحةً من المؤمناتِ، فإنها خير عونٍ لزوجها على جميل البرّ وحُسْنِ الصلةِ.
- ومنها: انتشار الطلاقِ وتهاونُ الناسِ فيه، فإنه مثارٌ للشحناء والعداوة، وقطع لصلةِ القربى، ولذا كان أبغض الحلال إلى الله تعالى.
- ومنها: الزواجات التي أحدثها الناس وروَجوها، ولم تكن معهودةً في المجتمع المسلم من قبل، كالزواج بنية الطلاق، وزواج المسيار،... ونحوها، فإنها إهدارٌ لكرامةِ المرأة، وعونٌ على انتشار الطلاقِ، وذريعة إلى الفحشاء بين المسلمين، وحسبك من الدلالة على حرمتها أن الرجل لا يرضاها لنفسهِ في أختهِ أو ابنته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأيضا فإن من حِكَمِ الزواجِ تقويةَ أواصرِ المودّةِ بين المؤمنين، وهذه تفضي إلى عكسِ ذلك من الشحناءِ والتدابُر وتقطيع الأرحام.
- ومن أعظم أسبابِ ومظاهر تقطيع الأرحامِ إثماً، وأشدّها محادّةً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ العملُ على نشر الرذيلة وشيوع الفاحشة بين المؤمنين، ورأس ذلك المواقع التي تدعو إلى الإباحية الأخلاقية، وتُجرّئُ الناس على المعصيةِ، وتُهَوّنُ الفاحشة في أعينهم، وتروجُ لها بين المحارمِ أنفسهم!!، فهم مجوسُ الصنيعَةِ والأخلاقِ، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابهِ وأمره بقتل رجلٍ لأنه نكح زوجَ أبيهِ، فكيف بمثل هذه الصنائع؟!.
- وقريبٌ من حال هذه المواقع بعض البرامجِ التي تعرضُ في الإذاعات المرئيّةِ وظاهرُها الحوارُ وحرّيةُ الرأيِ!، وباطنها الدعوةُ إلى الفجور والخنا، وكذا ما ينشرُ تحتَ بابِ معالجة القضايا والمشاكل الاجتماعيةِ وحقيقته نشرٌ للفساد وتشجيع على المعصيةِ، فكل ما ذكرناه يفضي إلى شيوع الفاحشة في المجتمع، وذلك مفض لزاما إلى تقطيع الأرحام والتدابر بين المسلمين.
وللقارئ أن يستدركَ على ما ذكرته من صور تقطيع الأرحام في الحياة الاجتماعيةِ ما شاءَ مما يراهُ ماثلاً أمام عينيه، وليتأمل في آثاره على المجتمَع على الوجه الذي بيناه، فإنه يظهر له بذلك وجهُ كونِ صلة الأرحام من قواعد بناء الأمم والدول، وإذا كان إحكام الصنعة يدل على إتقان الصانع، فإن التأمل في شيء من أحكام الشرع يدل على أنه لا يمكن أن يكون شيءٌ منه من عند غير الله تعالى، وإذا أتقنَ الصانع اللبنات الأولى من البناءِ وتأنّق في وضعهنّ ورصّهِنّ عُلِمَ أنه يريد علو البنيان وبقاءه، وإذا تَبَيّنَ من البناءِ تعددُ الأصول والأسس لاح من وراءه تعددُ أهدافِ البناءِ وغاياته، وبدا للناظر من شموله واتساعه على قدر ما آتاه الله من العلم والحكمة.
وهذا الذي ذكرته لك من بدائه العقول والمسلمات؛ فاعرض على هذه القاعدة الكلية ما شئت من أصول الإسلام في جوانبه الثلاثة: العقائد والعبادات والمعاملات؛ لترى إحكام الأصول والأسس في كل جانب من جوانب الحياة البشرية!،
وفي كل زاوية من زواياها!:
في مفاتيح العلوم وكنوز المعرفة المودعة في آيات الكتاب الكريم...أولا...
وفي كتب السنة؛ ككتاب الصحيح الجامع لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري مثلا؛ ترى فيه:
1- بناءَ الفرد في أحاديث الإيمان، والتوحيد، والقدر، والعلم، والطهارة، والعبادات...
2- ثم تقريرَ التكافل الاجتماعي في الزكاة وأنواع المعاملات، من بيع، وسلم، وشفعة، وإجارة، وحوالة، وكفالة، ووكالة، ومزارعة، ومساقاة، واستقراض، وشركة، ورهن، وعتق،...ونحوها...
3- ثم السياسةَ الداخلية للمجتمع في نحو المظالم، والشهادات، والصلح، والشروط، والوصايا، والنكاح، والطلاق، والنفقات...
4- وفي مكملات بناء المجتمع: كالطب، والأدب، والاستئذان، والدعوات، والرقاق...
5- ثم السياسةَ الخارجية للأمة في الجهاد والسير، والمغازي، والجزية والموادعة، والحدود، والمحاربين من أهل الكفر والردة، واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، والديات، والإكراه، والفتن، والأحكام...
6- وانتهاءً بالاعتصام بالكتاب والسنة إشارة إلى طريق نجاة الأمة وخلاصها على مر العصور وكر الدهور، وأن فيهما الحلَّ لجميع ما يعرض لها من مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية،...إلخ.
7- وختاما بالتوحيد إشارة إلى قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وتنبيها على أن دعوة الإسلام تشمل جميع الأحوال، والأزمنة، والأمكنة.
ومن هذين النبعين الصافيين يُسْتَقَى البرهانُ التاريخي العلميُ العمليُّ الذي لا يزال شاهدا على أن الإسلام أنار العقول والأفئدة، وفتح أمامها طرق البحث وآفاق المعرفة في كل زاوية من زوايا الحياة، يتجلّى ذلك في أكثرَ من (نصف مليون) ترجمةٍ لعلماء الأمة وأدبائها وقادتها ومفكريها، وفي أكثر من ثلاثة ملايين كتاب مخطوط موزعة في مكتبات العالم، تناولت البحث في أكثر من خمسمائة نوع من أنواع العلوم والمعارف كما تراه في كتابي: كشف الظنون لحاجي خليفة، وكتاب أبجد العلوم لأبي الطيب البخاري أحد ملوك المسلمين في الهند وعلمائهم!.
وصلة الأرحامِ في إقامةِ دولة الإسلامِ ومجتمَعه أصلٌ من الأصولِ التي أحكمَ الشارعُ وضعها، وقانونٌ أخلاقي ثابت لا يتغير، شأنه شأنُ كل خُلقٍ دعا إليه الشرع وأقرّه، وإنما أقر الإسلام من الأخلاقِ ما يوافق الفطرة البشريةَ؛ والْجبِلّةَ التي خلق الإنسان عليها، فهي توائمُ جميعَ الأمم والشعوبِ؛ على اختلاف أجناسها وطبائعها وتقاليدها، فهي كالماءِ ضرورة حياتية لكل أمة، بل لا حياة للإنسان إلا به، بحيث يكونُ منْ خرجَ عنها كان خارجاً عن الفطرةِ الإنسانية والطبيعة البشريةِ، وهذا وحده كافٍ للردّ على من يزعمُ من علماء الغربِ نسبيّةَ الأخلاقِ، من أمثال: (أناتول فرانس) الذي زعم أن الأخلاق مجموعة أهواء المجتمع!، وأمثال: (آناكارسِزْ) الذي ادعى أن الأخلاق ما هي إلا وسيلة يحافظ بها النظام الاجتماعي على تماسكه، وإلا فإن ما تقدسه جماعةٌ تمجهُ أخرى، وكل ما يسميه الناسُ رذيلةً كانت يوما ما فضيلةً في تنازعِ البقاءِ، يشيرُ بذلكَ إلى أن النظام الأخلاقي لا يرجع إلى أصل ثابتٍ، وإنما هو أمر يصطلح عليه المجتمع، ثم قد يصطلح على عكسه متى شاء!، ومعنى هذا أن بر الوالدين مثلاً قد يكون خلقا نبيلا في يومٍ من الأيام، ثم يأتي يومٌ على المجتمع يصبح ضربُ الوالدينِ فيه خلقاً سائداً يُمدُحُ فاعله!، ومن المعاصرين الذي ساروا على النهج نفسه البروفيسور الملحد (ريتشارد دوكينز)، ويعترف هؤلاء بأنهم في حيرةٍ لا يهتدونَ معها سبيلاً، ويقولون: إن ما لا نستطيع اليومَ قُبُولَه وفَهْمَهُ قد يتبين لنا صوابه غدا، فلا ميزان عندهم للصواب والخطأِ سوى ما يصطلح الناس عليه!، وإنما أُتِي هؤلاءِ من كونِهم حصروا الدينَ في الطقوس والسحرِ وتقديمِ القرابين، وتصوروا الأخلاق بعيدا عن الدين، ولم يجعلوا الدينَ أساسا لها وحاكما على صوابِها وخطئِها، ورأَوْا أن دور الدين إنما هو في المحافظة على القِيَمِ القائمةِ لا في إيجادِ قِيمٍ جديدة، ولئن صدقَ هذا التصوُّرُ في النصرانِيّةِ المخْتَرَعَةِ ورهْبانِيّتِها المُبْتَدَعَةِ فلا يجوزُ أن يُنسبَ إلى الإسلام بحال، وأقربُ برهانٍ عقليّ يخاطبُ به هؤلاء ويدلّ على صحةِ الأصول والقواعد الأخلاقيةِ التي جاء بِها الإسلامُ هو النظر المنصفُ في أسباب سقوط الدول وفناء الأمم، فما زال شيءٌ منْها إلا بنَقْضٍ لقاعدةٍ من قواعدِ البناء الأمَمِيّ وخروجٍ عن الأصول الأخلاقيّةِ التي جاء بها الشرع!، وهذا الاطّرادُ من أعظمِ البراهين على أن الإسلامَ من عندِ الله.
وكما أنعم الله تعالى على الإنسانِ إِذْ خلقه من ماءٍ وجعل منه نسبا وصهراً، وإِذْ كان الإنسانُ بطبعه محتاجاً إلى ذلكَ لأنه يجدُ فيه من يشاركه أفراحه وأحزانه، ويعينه على نوائب الدهر، فكذلك الأمم، تحتاج في طبيعة تكوينها إلى هذا، ولذا امتن سبحانه على عباده بالتأليف بينهم في قوله تعالى: {وَاذكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}؛ وتأمل كيف كانت هذه المنةُ في بدايةِ إنشاء المجتمع المدنِي المسلمِ وإقامة دولة الإسلام، فالعالم الإسلامي اليومَ وهو يُزيحُ عن كاهلِهِ البقيةَ الباقيةَ من خريفِ الظلم والطغيان، وقد هبتْ عليه نسائمُ الربيع فاستشعرَ حلاوةَ الحرية وذاق طعم الكرامةِ أحوجُ ما يكونُ إلى إرساء هذه القواعد الأخلاقية – ومنها: صلة الأرحام - تَهَيُّئا واستعداداً لما حُمّلَهُ من الأمانةِ والتكاليف، فليُخَلّدْ كلّ امرئِ في صحائفِ حمدِهِ من المآثر ما شاء، فربّ مَكْرُمَةٍ تملأُ مسامعَ الزمان حمداً.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] ياسر محمد عودة الأغا | وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ | 21-04-2012
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: { لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم }
الأستاذ والشيخ الفاضل أبو الوليد، مقال رائع وهادف، بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك
[2] فتحي خالد حسين الأغا | مقال رائع ومفيد | 22-04-2012
[3] أم خالد عثمان حسن الأغا | ثمرة العلم وتقوى الله | 22-04-2012
[4] أ . خالد رياض خالد الاغا | شكر وتقدير | 22-04-2012
[5] أم العبد خميس سعيد الشوربجي | جزاك الله خيراً | 23-04-2012