مقالات

جولة مغترب فلسطيني في وطنه- نبيل خالد الأغا - الدوحة

شهدت مدينة خان يونس الواقعة وسط القطاع الغزي شهقتي الحياتية الأولى وقضيت في أبهائها الشرخ الأول من شبابي، وعندما غزاها الهولاكيون الجدد في عام 1967 كنت أنهل العلم في جامعة القاهرة، ولم تتسن لي العودة المشروعة إلى أعزّ الأحضان وأدفئها، فطوحت بي الحياة القاسية في مواقع عربية مختلفة آخرها دوحتنا الأنيسة المؤنسة.
في عام 1995 اغتنمت فرصة تسلم السلطة الفلسطينية مهمة إدارة «الوطن»، فزرت مدينتي الأثيرة شبه الأسيرة، فأطفأت جزءًا من لهيب الشوق المتأجج في أعماق أعماقي، ولما عدت إلى الدوحة نشرت سلسلة من التحقيقات الصحافية نشرت في صحيفة الشرق القطرية على امتداد تسعة ايام  بتسع صفحات بعنوان رئيسي : " الحكم الذاتي بين الاحلام والاحزان" ترجمت خلالها انطباعاتي، وقد عثرت مؤخراً في مكتبتي على هذا النص فأحببت اطلاع القراء الفضلاء عليه، لعله يحظى بالقبول الحسن.


حبيبتي تستيقظ مبكرا


تستيقظ مدينتي عادة في وقت مبكر، وتكون صلاة الفجر ــ خاصة في مسجدها الكبير ــ مؤذنة بدبيب الحياة في أوصالها بعد هديرها في اليوم السابق. لقد كنت مسكونًا بشوق عارم لرؤية قسمات مدينتي الحبيبة، وقراءة تقاطيع وجهها الندي الصبوح.
غادرت بيتنا العائلي العتيق في شارع «الصِحيِّة» مع امتداد الخطوط الأولى لأشعة الشمس، وكنت أظن أن طيور مدينتنا أضحت خرساء، فَقَدتْ مقدرتها على النُّطق لكثرة ما شهدت من أهوال ومآسي الحرب.. بل الحروب المتكررة عليها، ولكن خاب ظني.. فها هي تصدح وتغني مشاركة أبناء مدينتي فرحتهم، وامتلاكهم لحريتهم النسبية التي لم تكن مطلقة البتة.
لم يكن أهل المدينة وحدهم مْنَ عانوا ويلات الحرب ومآسيها، فالطيور أيضًا عانت وضحَّت، وفقدت الكثير الكثير من أبنائها وأصدقائها وجيرانها، حقًا لم تصدر بلاغات رسمية أو شبه رسمية عن عدد الطيور التي نفقت أو جُرحت أو اعتُقلت، ولا عن أعشاشها التي تقوضت أو احترقت أو صودرت، لكن المعاناة على أية حال لم تكن مقتصرة على بني البشر وحدهم، بل شملت كثيرا من الأمم التي خلقها الخالق تبارك وتعالى، وقدَّر لها سبحانه أن تعيش في هذه المنطقة الموبوءة بالصراعات المستمرة المريرة بين الحق والباطل، بين أتباع الرحمن وأتباع الشيطان، هذا قدرها وليس لها دونه من سبيل.
حقًا.. لم تعد مدينتي الأبية ملبَّدة بالهموم الاحتلالية البغيضة، لكنها مكتظة بهموم أخرى تبرز في مقدمتها ويلات الفقر، والمرض، والبطالة، إضافة إلى جنون الأسعار الذي يفترس ما تبقى في قاع الحياة من مسرات، ولسان الحال ينطق بقول الشاعر: لو كان همًّا واحداً لاحتملته لكنه همٌّ وثانٍ وثالث .

 

السياحة البريئة عبادة



بيد أن الهموم مهما قلَّت أو كثُرت لا تقاس بالهموم الصهيونية الإمبريالية التي تقوض ما تبقَّى من دعائم السلام الهش في المنطقة العربية برمتها. أخذت أتابع سيري في تلك السويعات الصباحية المملوءة طُهراً وصفاء باتجاه السوق الأسبوعي الذي أعرفه منذ كنت يافعاً تستهويني السياحة البريئة في أنحائه إما مشتر أو بائع أو متفرج. انه يوم الخميس موعد السوق الأسبوعي لخان يونس ومنتجعاتها وقراها حيث يتدفق إليه آلاف البشر، وعشرات السيارات والعربات المجرورة بالحمير والبغال وقليل من الخيول التي تقوم بتفريغ أو تحميل البضائع والخضراوات والفواكه وبعض أنواع السلع الاستهلاكية القادمة من بني سهيلة وعبسان وخزاعة والسطر والقرارة ومنتجعات المواصي التي تعانق زرقة البحر الأبيض المتوسط.
أذهلتني - حقيقة لا مجازاً - كثرة أعداد البشر الذين رأيتهم، واختلطتُ بهم في هذا السوق الشعبي الشهير الذي يؤمه كذلك بعض التجار والمتسوقين القادمين من المدائن المجاورة: غزة ورفح ودير البلح.
كتفاي يرتطمان بعشرات الأكتاف، وعيناي تقعان على مئات الوجوه، أحملق فيها لعلي أتعرف إلى بعضها.. لكن الفشل ظل حليفي الأوفى، شعوري بالإحباط والقهر ترتفع وتائره شيئاً فشيئاً. هاتف يهتف من مضغة القلب المكلوم: ما بك أيها الزائر الغريب تتفرس وجوه الشباب بشكل خاص، اختصر معاناتك ولا تنظر لهذه الفئة تحديدا فأنت لم تعد شاباً حتى تعرف أبناء هذا الجيل، بل انظر وتمعن في فئتي الكهول والشيوخ التي تندرج فيهما أو بينهما!
استجبت للنداء الخفي.. وكدت أقع في المحظور، اشتبهت في أحد الكهول وهو واقف يساوم لشراء سلعة معروضة على الأرض، صرت أتفرس في وجهه وقد شبهته بأحد أقرباء الدرجة الثانية، وبرغم فشله في المساومة إلا أنني لم أعفه من نظراتي ويبدو أنه انتبه لي فقال بما يشبه التأنيب: خذها إذا كانت نفسك تواقة لشرائها! طأطأت رأسي خجلاً متمتمًا: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.. وانسحبت بهدوء مشوب بالحسرة.
أمعقول هذا الذي ألمسه بكل حواسي؟ أين أقربائي؟ وأصدقائي ومعارفي وجيراني؟.. وا.. أسفاه.. لم أعرف أحدًا منهم، لم يحيِّني لسان، ولم تصافحني يد برغم أنني كنت أحييهم كلهم بقلبي وأصافحهم بوجداني لكنهم ـ وا.. حسرتاه ـ لم يأبهوا لوجودي، بل تجاهلوني ومضوا في طرائقهم كل إلىّ مبتغاه،
هل أعتب عليهم أم على نفسي أم على الظروف؟ صدقوني لم أحْمل عليهم ولا على نفسي، بل حمَّلتها على كاهل «الظروف» كما نفعل نحن العرب دائمًا كي نداري عجزنا وفشلنا في معالجة قضايانا! وشعرت حينئذ بارتفاع حاد ومفاجئ في درجة شعوري بالغربة وكأن هذا الشعور المؤلم أبى أن يفارقني حتى في أثناء تجوالي في تضاريس وشرايين وطني الأحب الأغلى.

 

مرارة الغربة في الوطن !


 لله ما أشد مرارة الشعور بالغربة في أحضان الوطن، إن الإحساس المضني بهذه الغربة شيء فظيع جدًا قلَّ من يَسْبر غوره أحد سواء أكان كاتبًا أو شاعرًا أو أديبًا!
أحاول الهروب السريع من هذه الأحاسيس غير الغوغائية فأغرقت نفسي كعادتي في مثل هذه المواقف الحادة في التسبيح والحمدلة والحوقلة متأملاً في ملكوت الله، المبدع الأعظم والأوحد لهذا الكون.
ويعاودني الإحساس العارم والحنين الجارف لكل ما يحيطني من إنسان وجماد ونبات، فكثير من هذه العناصر التي أراها تربطني بها أحداث وصور وذكريات مضت منذ عدة عقود، لكن الكثير منها ما برح محفورًا في الذاكرة وهأنذا أستحضرها أمامي تشدني إليها الرغبة في عودة الماضي الذي لن يعود وإن كنت قد أعددت بعض أدواته ومعطياته، وحشدت على جبهة الذكريات العريضة كل خلجات نفسي وروحي فلقد حان موعد إحيائها وبعثها، بل والتحسر عليها!
يطوف أمامي طيف جدنا أبي العتاهية قائل بيت الشعر الذي نردده كلما أعيانا التقدم في العمر وأغارت على أجسامنا النحيلة الهزيلة غوائل الأمراض:
ألا ليت الشباب يعود يومًا                                  فأخبره بما فعل المشيب
هأنذا ألامس سور مقبرة «الشيخ يوسف» الخاصة بعائلتي وما تيسر من أنسبائها والمقربين منها الذين توفاهم الله تعالى، وتمت مواراتهم فيها منذ عشرات السنين، هنا ترقد «أم الحبايب»، و«أبوالحبايب» وأعمام وعمات وأخوال وخالات.. في ضيافة الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.. ويرقد من بين أصدقاء العائلة المرحوم عبدالرؤوف عرفات القدوة الحسيني والد القائد الشهيد ياسر عرفات (أبوعمار).
وتتوالى العبرات والدعوات والرحمات على الجميع. راودتني النفس اللواَّمة بالهروب من هذه الأجواء المكفهرة الجامعة بين تزاحم الأحزان وتزاحم المتسوقين، والتسلل إلى ديوان «العائلة الأغوية» بقلعة المدينة، حيث تتوافر راحة النفس والبدن والروح وعبق العم وديع أحمد الأغا سراج العائلة المنير، وباقي منظومة الأحباب وأحاديث الذكريات على وقع فناجين القهوة السادة، والشاي المنعنع، والماء المبرد في أباريق الفخار، لكن النفس المطمئنة كان لها رأي آخر مفاده التريث والصبر واجترار المزيد من ذكريات المكان والزمان. فليست كل الأيام «خميسا» وما هو متيسر اليوم قد لا يتيسر غدًا وكانت الغلبة لهذا الرأي.

 

مزيد من الإبحار في السوق



وبرغم أنني أكره الزحام والمزاحمين بشكل عام وأحاول في الظروف الطبيعية الهروب من كافة التجمعات العشوائية غير المنضبطة، إلا أنني واصلت الإبحار في السوق وسط جموعه الكثيفة التي يختلط فيها الصراخ بالأنين، والنهيق بالصهيل، والأزيز بالهدير! ومرة أخرى يعاودني الشعور الممض بالغربة وتنتابني رغبات متلاحقة للإمساك بأهداب الناس وتلابيبهم وهزّ أكتافهم لأسألهم بعتاب لا يخلو من حدِّة ونزق:
ما بالكم يا قوم تعرضون عني؟ لماذا تُصَّعرون خدودَكم دوني؟ لماذا تتجاهلون وجودي بينكم؟ لِمَ لا تُحسنون قراءة أحاسيسي ومشاعري؟ لماذا لا تتقون الله في ضيفكم ومحبكم ومخلصكم في الله؟ أنا ما فتئت أحييكم بالأنبل من التحيات الطيبات المنبثقة من وجداني، وأسلَّم عليكم بكل قسمات روحي وخلايا جسدي، فلماذا لا تردون تحياتي بمثلها، ولن أطمع بأحسن منها!
لا.. لا.. لا تثريب عليكم أحبتي.. فأنتم أهلي وعشيرتي، وليس بيني وبينكم حساب ولا عتاب، إن هي إلا جمرات الاغتراب تهصر كبدي كلما التقيتكم أو نأيت عنكم أو بالخير تذكرتكم، فلا تثريب عليّ ولا عتاب، لا.. ولا تثريب عليكم ولا عتاب، الله لطيف بي وبكم وبكل المقهورين والمطحونين أمثالنا. ولا نامت أعين الجبناء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


• نشر هذا الموضوع في جريدة الوطن القطرية بتاريخ 21/5/2012 .

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على أ. نبيل خالد نعمات خالد الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد