سيدي وسيد أمتي وخليل بارئها إبراهيم بن آزر أبا الأنبياء سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد:
أحني هامتي إجلالا لك، وتعظيما لقدرك، وأقف خاشعاً مبهوراً أمام سيرتك العظيمة المستقاة من قرآننا الخالد، وما أجدرنا بقراءتها ودراستها نقطة نقطة، وفاصلة فاصلة، وكلمة كلمة، واستخلاص نتائجها وعبرها في شتى جوانب حياتنا، وخاصة في هذه الآونة التي نشهد فيها وقائع عيد التضحية والفداء الذي ترجع فيه أمتنا المسلمة لتذكر بكل فخر واعتزاز أباها الذي تتبع ملته، وترث عقيدته.
فأنت يا سيدي المفضال الأب البار الذي تردد بمهجتها اسمك المكرم أكثر من عشرين مرة في تشهدات صلواتها الخمس كل يوم، مثلما تفعل مع حفيدك الأعز الأكرم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم .. خاتم رسل الله الذي انتهى إليه ميراث الرسالات السماوية، وذكركما لا ينقطع على لسان كل مؤمن في كل صلاة بقوله «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد» (صحيح البخاري).
وقد تجلت عظمتك يا سيدي كونك أول من نادى بفكرة التوحيد، فأنت بحق إمام التوحيد والموحدين بلا منازع، وأنت أول من تصدى للوثنية فازدريت أتباعها، واحتقرت آلهتها.
وقد اتخذك الأنبياء المنتجبون أسوتهم الحسنة، وقدوتهم المثلى في السلوك والمنهج، وقدتهم إلى الخير المطلق دينا ودنيا وآخرة.
فأنت يا سيدي أكثرهم ذكرا بالاسم في دستور الله الخالد حيث ورد ذكرك تسعا وستين مرة في ست وعشرين سورة من بينها سورة تحمل اسمك بالذات، وأكثرها ورد في سورة البقرة.
فأنت «أبو الأنبياء» لأنك رائد الدعوة النبوية في العالم، ومنك تناسل سفراء الله إلى عباد الله وتتابعوا، فجميع أنبياء بني إسرائيل نسلك لأنهم من أبناء يعقوب «وهو نفسه إسرائيل» بن اسحاق، واسحاق هو ابنك، ومنك تفرعت شجرة النبوة المورقة بالبركات حتى وصلت وانتهت إلى حبيبنا المصطفى الممتد من سلالة ولدك اسماعيل مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى في سورة العنكبوت «اية 27» «ووهبنا له اسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب».
إذن أنت يا سيدي وسيد أمتي الذي طبعت الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام بطابع دعوتك فاستحققت عن جدارة مطلقة أن تدعى بأبي الأنبياء الذي لقبك به ربك القائل في سورة الحج «ملَّة أبيكم إبراهيم».
وفي مقابل ذلك فحفيدك محمد صلى الله عليه وسلم هو «إمام الأنبياء» حيث أمّهم جميعا وصلى بهم في المسجد الأقصى المبارك ليلة الإسراء والمعراج.
وأنت يا سيدي النبي الوحيد الذي حاول اتباع الديانتين السابقتين للإسلام أن ينتسبوا إليك، بل إن مشركي مكة زعموا أنهم ورثتك في رسالتك وسدنة بيتك المعمور، لكن القرآن الكريم سفّه أقوالهم بقوله في سورة آل عمران «ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا «مائلا عن الباطل إلى الدين الحق» مُسلما (موحدا ومطيعا لله) وما كان من المشركين» آية 67 .
وقبيل ولوجنا إلى محراب حياتك يا سيدي نود الإشارة إلى أن المعلومات التي نستند إليها في قراءة صفحات حياتك مستمدة وقائعها الرئيسة المؤكدة من القرآن الكريم، وما عدا ذلك فشروحات وأخبار منسوبة إلى مؤرخين ومفسرين كثيرين، محتملة التأويل والاجتهادات.
وبما أن حياتك الطويلة حافلة بأحداث ووقائع عظيمة تفردت بها وتنوء عن بسطها هذه الرسالة الوجدانية المدججة بأندى مشاعر العشق والحب، فسأعمد إلى وضعها تحت بند «لمحات» أجل «لمحات» فحسب، وبالله الغوث والعون.
اللمحة الأولى: احتجاج على الباطل
في بواكير المرحلة الطفولية الأولى من عمر هذا الكوكب، كانت الأرض ظمأى لينبوع عذب يطفئ ظمأها الروحي، فأذن الخالق عز وجل بولادتك لتؤدي رسالته الخالدة وإعلان وحدانية عبادته وحده.
وذكر المؤرخون أن نسبك يا سيدي يصل إلى سام بن نوح عليه السلام، وهو الأب الثاني عشر في نسبك الشريف، وأنك ولدت في مدينة بابل التاريخية في العراق، وكان والدك نجاراً مهمته الأساسية صناعة الأصنام، وبيعها لمن يرغب في عبادتها! وكان مؤملا أن تحذو حذوه، وترث مهنته، لكن الحق تبارك وتعالى أنار بصرك وبصيرتك، وقذف في قلبك وعقلك فيوضا من رحمته، وقد ظهر ذلك جليا في كافة مراحل حياتك المديدة.
وقد خطوت خطوتك التاريخية الأولى باحتقارك وتسفيهك لتلك الأحجار الصماء، وبيان سخافة عبادتها، وثورتك عليها، ونشأتك على ما تبقى محفوظا من ملة نوح عليه السلام.
وتأملت مرارا يا سيدي في هذا الكون اللامتناهي .. والمجهول .. وقادك تأملك الواعي الى نفي منطقي لوجود أية علاقة بينه وبين الأحجار الكريهة التي يصنعها أبوك وغيره من الناس بأيديهم ثم يعبدونها وفي نهاية المطاف تبلى وتزول!!
إذن لا بد من وجود سر عظيم لهذا الكون العظيم:
تأملت فيما حولك من مخلوقات نظرت الى السماء وأمعنت فيها، تابعت أحد النجوم ليلا .. منذ بدأ حتى غاب .. ثم قدرت أن الإله الحق لا يغيب، وفي مرات ثانية تأملت القمر، لكنه سرعان ما غاب .. وتساءلت: إذا كان بعض الناس من قومك الكلدانيين يؤلهون القمر فهل يغيب الإله عن الوجود؟!
ثم قدرت أن الإله الحق لا يغيب، ومرة ثالثة اتجهت صوب الشمس وهي الأكبر حجما، والأكثر توهجا، وقد حدث لها ما حدث للقمر وللكوكب من قبل وأقمت الحجة على قومك .. فالأجرام السماوية التي تظهر وتختفي لا بد أن تكون مخلوقة لا خالقة .. معبودة لا عابدة .. ومحال ان تكون ربا لأن الرب لا يغيب عن مخلوقاته.
وقد أكرمك ربك فصور في محكم كتابه ما حدث لك في سورة الأنعام ستبقى خالدة على مدى التاريخ:
«وكذلك نُري إبراهيم ملكوت (آيات) السماوات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جنّ عليه الليل (ستره بظلامه) رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل (غاب) قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا (طالعا) قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم اني بريء مما تشركون، اني وجهت وجهي للذي فطر (خلق) السماوات والأرض حنيفا (مائلا عن الباطل إلى الدين الحق) وما أنا من المشركين».
وبعد هذه التأملات المعمقة خرجت يا سيدي بنتيجة حاسمة وهي أن وراء هذا الكون العظيم ربّا أكثر عظمة.
وقذف الله تعالى في قلبك الحق المطلق فأعلنت براءتك التامة من الشرك والمشركين، وأعلنت على الملأ «وما أنا من المشركين»، وقد أثبت الله نبوتك وأنزل عليك الصحف المسماة «صحف إبراهيم» ووصفك بأنك «أمة» أي جامعا للمكرمات فقال: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين، شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه الى صراط مستقيم، وآتيناه في الدنيا حسنة، وأنه في الآخرة لمن الصالحين» النحل 120-122 .
اللمحة الثانية: كيف يحيي الله الموتى؟
وبعد ان استقر النور في قلبك توسلت الى ربك ان يريك كيف يُحْيي الموتى، فاستجاب لك على الفور، وقد سجل القرآن الكريم هذا المشهد في سورة البقرة «وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أوَ لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك (قطّعهن) ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم» «الآية 260».
ان بعض الناس يا سيدي يا أبا الضيفان قد يفهم انك كنت شاكا في قدرة الله على إحياء الموتى، وهذا الفهم غير سليم البتة، فمعاذ الله ان تشك في قدرة الله يا نبي الله، فأنت سألت عن الكيفية «كيف تحيي الموتى» ولم تسأل عن الماهية، فلم تقل «هل تقدر يا رب ان تحيي الموتى»؟ والسؤال عن الكيفية انما هو بقصد الشوق والتطلع لرؤية الصنعة الإلهية، ان ظاهر هذه الآية غير باطنها.
وقد امتثلت لأمر ربك وأتيت بأربع طيور حية ثم ذبحتها وقطعتها إربا إربا ووزعتها على عدد من الجبال ثم أخذت رؤوسهن بيدك ثم امرك الله ان تدعوهن فصرت تنظر الى الريش يطير الى الريش، والدم الى الدم واللحم الى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها الى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينك يمشين سعيا، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي بيدك يا سيدي، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فاذا قدم إليه رأسه تركب مع باقي جسده بحول الله وقوته.
لقد رأيت بالمشاهدة الحسية كيفية إحياء الله الموتى انها احدى المعجزات الربانية الاعظم.
وافتتحت الستارة تارة اخرى على عبدة الاصنام والتماثيل من اهل بابل وهم اهلك وذووك، وابتدأت بأقرب الناس اليك وأحبهم اليك ملبيا أمر الله تعالى بدعوة قومك الى التوحيد، وقصدت مخاطبة ابيك آزر بأسلوب فاض عذوبة وأدبا، فخاطبته اربع مرات بالكلمة الموحية الندية في صدر كل جملة: يا ابت.. يا ابت وذلك استمالة له وترقيقا لقلبه.
وقد صور القرآن الكريم تلك المحادثة منقطعة النظير بقوله في سورة مريم «واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، اذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان ان الشيطان كان للرحمن عصيا.يا أبت اني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب انت عن آلهتي يا ابراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي انه كان بي حفيا واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا. «مريم من الآية 41 حتى 48».
وواضح من مجمل الآيات ان أباك لم يتقبل دعوتك وأخذته العزة بالاثم، فتوعدك بالرجم والهجر، لكنك يا سيدي امتصصت غضبه بقولك له: سلام عليك.. وهذا أسلوب رهيف شفيف، بل انك زدته برا وإحسانا بقولك: سأستغفر لك ربي انه كان بي حفيا «رحيما» في هدايتي لعباده تعالى، وقد عودني الاجابة لما أطلبه منه.
وقد أوفيت بوعدك يا سيدي عندما ايقنت ان أباك مُصرّ على عداوته لله، فأعلنت للملأ قرارك التاريخي الشجاع براءتك من ابيك وابتعادك عنه بصورة نهائية وقاطعة.
ومعلوم انك بذلت جهدا خارقا لاقناعه بالعدول عن موقفه اشفاقا منك على مصيره السيئ الذي ينتظره اذا استمر على رفضه وعناده، بل انك وعدته بالاستغفار اليه قبل ان يتبين لك انه عدو لله.
وقد صور الحق تبارك وتعالى هذا المشهد بقوله في سورة التوبة «وما كان استغفار ابراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأوّاه حليم» «الآية 114».
بعد ان فقدت ايها المؤمن الصابر المحتسب الامل في هداية ابيك اتجهت لمحاورة قومك لعلهم ينتصحون بنصحك ولكنهم ركبوا رؤوسهم وصدهم الشيطان عن درب الرحمن، ولما يئست من تغيير المنكر باللسان لجأت الى تغييره باليد فقلت لهم متحديا «والله لأكيدنّ أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين» «الأنبياء 57».
وفي ليلة ظلماء كظلام قلوبهم هويت بفأسك الضخمة على الاصنام المؤلهة فحطمتها وجعلتها جذاذا، لكنك استبقيت كبيرهم لعلهم يرجعون اليه، وجرت محاورة حادة بينكم حيث خاطبتهم قائلا لهم «أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين، واذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئي يوم الدين، رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين» «الأنبياء من 57 حتى 67».
لقد ران الضلال على قلوب القوم فاستحبوا العمى على الهدى كما حدث فيما بعد مع نبي الله صالح وقومه أهل ثمود، ولم يجدوا الا الانتقام منك تأييدا لضلالهم، وألقوا القبض عليك، وقرروا اعدامك حرقا وقذفوك في أتون النار الملتهبة امام مرأى ومسمع كل الناس بعد ان قيدوك ووضعوك في فوهة المنجنيق وقذفوك في الاتون الملتهب، لكنك يا سيدي لم تحترق، لأن خليلك لم يخذلك، وانت بدورك لم تفقد الثقة في خالقك الذي عطل وظيفة النار في الحرق وأصدر امره الصارم اليها «.. يا نار كوني بردا.. وسلاما على ابراهيم» «الانبياء 69».
وفشلت المؤامرة ورد الله كيد المشركين الى نحورهم «وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين» «الانبياء 70».
النمرود ينازع الله في ملكه!
وبعد ان نجحت يا سيدي في اقامة الحجة على عبدة الكواكب والتماثيل جاء دورك الفاعل في اقامة الحجة على عبدة الملوك والسلاطين.
وتضمنت سورة البقرة وصفا دقيقا لمناظرتك مع ملك بابل النمرود بن كنعان الذي ادعى الربوبية ونازع الله في عرشه! فألجمته يا سيدي، بحجتك وبرهانك فبهت النمرود ورسب في المناظرة رسوبا مخزيا، عندما زعم ذلك الدعي القدرة على انه يحيي ويميت انما يعني اذا اتى برجلين قد تحتم قتلهما فاذا امر بقتل احدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد احيا هذا وأمات الآخر.
وقد جاريته في مقولته ولكنك أفحمته افحاما معجزا حين تحديته بأن يأتي بالشمس من المغرب لأن الله تعالى يأتي بها من المشرق، لكن النمرود بهت ولم يستطع الاجابة.
وتضمنت سورة البقرة تفصيل ذلك المشهد المثير «ألم تر إلى الذي حاج ابراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال ابراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت «تحير» الذي كفر «النمرود» والله لا يهدي القوم الظالمين» «الآية 258».
اللمحة الثالثة: الهجرة إلى مصر وفلسطين والحجاز
سيدي يا من وصفك خليلك بأنك كنت صدّيقا نبيا.. لقد حاولت استثمار الضجة الكبرى التي حدثت في مجتمع الكفر، وبذلت جهودا مضنية لهداية قومك، لكن جهودك لم تسفر الا عن هداية ابن اخيك لوط بن هاران بن آزر عليه السلام وزوجتك الاولى سارة وبرغم انها كانت عاقرا الا انها كانت احب الناس الى قلبك وبوحي من الله تعالى قررت هجر قومك والهجرة الى فلسطين الخصيبة وأقمت في بيت المقدس رفقة سارة ولوط ثم قررت بوحي من ربك التوجه الى مصر بعد ان اجتاحت بلاد الشام موجة قحط عاتية ولم تمكث فيها طويلا، فاضطررت للعودة الى فلسطين ومعك اموال وأنعام، ورافقتك زوجتك الجديدة «هاجر» التي قدمها الملك هدية لسارة بعد ان رأى من كرامتها ما رأى كما يقول المؤرخ ابن كثير والتي وهبتها سارة لك فتزوجتها وحملت منك «فبشرناه بغلام حليم» فولدت هاجر ابنها الاول «اسماعيل» وبعدئذ اوحى الله اليك ان تهاجر بهاجر واسماعيل الى الحجاز بواد غير ذي زرع وامتثلت لارادته وبدأ فصل جديد في حياتك وحياة كل المسلمين.
ويقتضينا السياق للاشارة ان الله انعم عليك بزوجين وولدين اسماعيل من هاجر واسحاق من سارة ومن وراء اسحاق يعقوب حفيدك، وفي السورة القرآنية التي حملت اسمك يا سيدي ورد قولك متضمنا تضرعك لله تعالى «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وارزقم من الثمرات لعلهم يشكرون، ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء» (37-38).
ومضيت يا سيدي عائدا الى فلسطين تنفيذا لارادة الله تعالى تاركا زوجتك وطفلك في مكة برعاية الرحمن الرحيم ولما استبد العطش بها سعت بين مرتفعي الصفا والمروة سبع مرات باحثة عن الماء حتى انفجرت بقدرة الله بئر زمزم ومنذ ذلك التاريخ يتبع حجاج ومعتمرو بيت الله الحرام نهج أمهم وأبيهم في السعي بين الجبلين.
قال تعالى في سورة مريم «إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه (لا إثم عليه) أن يطوف بهما، ومن تطوّع خيرا فإن الله شاكر عليم» (158).
اللمحة الرابعة: الذبيح إسماعيل والبلاء العظيم
سيدي يا أنموج الابتلاءات والصبر على الطاعات.. لقد تعرضت اسرتك المباركة لأشد امتحان لم يتعرض له مخلوق لا من قبلكم ولا من بعدكم. فقد رأيت في منامك ــ ورؤيا الانبياء حق ــ أنك مأمور بذبح ولدك الحبيب الوحيد اسماعيل ذي الثالثة عشرة من العمر بيديك وليس بيد أحد سواك ودونما ذنب ارتكبه ذلك البريء لكن على قدر عمق الايمان يأتي عمق الابتلاء وعسر الامتحان !
إنك يا سيدي لم تخدعه ولم تفاجئه وعزمت على تنفيذ الاشارة الربانية بامتثال النبي لربه وليس بعاطفة الابوة وحنانها فناديته وقلت له «يا بُنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟». لم تتردد ولم تعترض انك لم تستشره في رحلة أو نزهة بل في ذبحه واسالة دمه وازهاق روحه !
يا لله ما أشقك على النفس أيتها «الرؤيا» !
ويرتقي «ضناك» اسماعيل الذبيح الى الأفق الشامخ الذي ارتقيته من قبل بكل نبل وطاعة وبذات اسلوبك الرهيف «يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين» (الصافات: 102).
وأراد الابن من جانبه تخفيف لوعة الثكل عنك ويرشدك الى اقرب السبل لتنفيذ امر الله قائلا «يا أبت.. اشدد وثاقي وأحكم رباطي حتى لا اضطرب وأكشف عن ثيابي حتى لا ينضح عليها شيء من دمي فينقص أجري ولتحد شفرتك ولتسرِّع أوارها على حلقي ليكون أهون عليّ فإن الموت شديد ووقعه أليم» (قصص القرآن ــ محمد جاد المولى).
ومضيتما معا لتنفيذ الاشارة الإلهية في رضى ويقين فكببت ابنك على جبينه استعدادا للذبح وما كدت تهوي بالسكين على عنقه حتى ناداك ربك من فوق سبع سماوات طباقا «أنْ يا ابراهيم قد صدّقت الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء العظيم» (الصافات 102).
أجل ورب الكعبة ان هذا لهو البلاء العظيم يا ابا الأنبياء لقد صدقت يا ابراهيم ولم يبق الا النحر والدم وازهاق الروح وهذا تنوب عنه أية ذبيحة من لحم ودم وروح ويفدى الله الرحيم هذه النفس بذبح عظيم قيل انه كبش املح ساقه الله اليك فقمت بذبحه بذات السكين ومضت بذلك سنّة النحر في الأضحى ذكرى متجددة لهذا الحادث العظيم حتى تعرف الأمة حقيقتك ايها النبي الكريم. وصدق الله العظيم القائل في حق ولدك اسماعيل الذبيح قولا فصلا ورد في سورة مريم «واذكر في الكتاب اسماعيل انه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا» (مريم 54).
هذا ويدعي اليهود والنصارى يا أبا الانبياء وبعض العلماء من المسلمين بأن الذبيح هو اسحاق وليس اسماعيل، وهذه لعمري ادعاءات قائمة على اسانيد ضعيفة لا يمكن الاعتداد بها وهي من جانب آخر لا تخلو من وجود عصبية دينية أو عنصرية في تركيبتها والله تعالى أعلم.
اللمحة الخامسة: إبراهيم وإسماعيل يرفعان قواعد البيت الحرام
لقد أمرك صاحب خلتك ومحبتك يا سيدي بتشييد البناء فوق ما تبقى من البيت الحرام بالاشتراك مع ابنك اسماعيل، ذلك ان هذا البيت المقدس بنته الملائكة قبل بعثتك وقد انحصرت مهمتكما في رفع القواعد وتجهيزه للمهمة العظيمة التي ستأتي لاحقا، ويرى بعض المؤرخين بأن اقامة اسماعيل وأمه هاجر كانت بجوار البيت واستدلوا بذلك على نص الحديث الشريف المروي عن ابي ذر رضي الله عنه القائل: قلت يا رسول الله اي مسجد وضع في الارض أولا؟ قال «المسجد الحرام» قال. قلت: ثم اي قال: المسجد الاقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فإن الفضل فيه».
وعمد ابنك اسماعيل الى حجر اسود كبير فوضعه لك فقمت عليه لاتمام البناء ولما انتهت المهمة دعيتما الله تعالى ان يتقبل عملكما ثم سألتماه ان يبعث في الناس رسولا «هو رسولنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وآله وسلم ليعلمهم كتاب الله».
وورد ذلك مفصلا في سورة البقرة بقوله تعالى «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مُسلمين لك (منقادين مخلصين) ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا (معالم حجنا) وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم» (127-129).
كاتب المقال يتبارك بملامسة الحجر الأسود 1985
ثم دعوت يا سيدي يا خليل الرحمن ربك ان يجعل مكة (والمنطقة كلها) وطنا آمنا وأن يرزق أهلها بالخيرات وهي الدعوة المستجابة التي نرى اثرها على رخاء المملكة العربية السعودية اليوم.
قال تعالى «وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر» (البقرة 129).
وصار البيت الحرام مباركا وهدى للعالمين من عابدين وطائفين وقاصدين اليه من كافة انحاء المعمورة ليشهدوا منافع لهم ويؤدوا الركن الخامس لمن استطاع اليه سبيلا وهو الحج.
ولقد خلّد الله لك يا سيدي ابراهيم الخليل ذكرا معطارا للأجيال البشرية القادمة حين قال «وتركنا عليه في الآخرين»، كما وجه إليك أكرم الأكرمين أكرم التحيات في قوله «سلام على إبراهيم»، «كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا الصالحين». وأنعم عليك بمرتبة الاحسان التي هي اعلى وأرفع مراتب السلوك في الدين.
اللمحة الأخيرة: دعاء للتسامح والتضحية
لم يذكر القرآن الكريم العمر الذي عشته يا سيدي ولا الاعمار التي عاشها ذووك لكن سفر التكوين ذكر أنك عشت مائة وخمسا وسبعين سنة وان الله رزقك بإسماعيل وأنت ابن ست وثمانين سنة وعندما ولد اسحاق كان عمرك مائة سنة.
وقيل ان حبيبتك «سارة» ماتت ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة ودفنت بقرية «حبرون» وهي ذاتها مدينة الخليل الفلسطينية المعروفة والتي سميت باسمك يا سيدي الفضيل وقد حزنت على رحيلها حزنا شديدا واشتريت من رجل «حبشي» يدعى عفرون بن صخر مغارة «المكفيلة» بأربعمائة شاقل من الفضة ودفنت سارة فيها.
وذكر الامام مالك في موطئه عن مالك بن يحيى قال «كان ابراهيم أول من اضاف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه، وأول الناس رأى الشيب فقال: يا رب: ما هذا؟ فقال الله: «وقار» فقال: يا رب زدني وقاراً».
يا أبا الأنبياء..
كم سار على خطواتك وخطوات ولدك اسماعيل وزوجتك هاجر من طائف وساع وحاج وواقف بالمناسك.. وكم سيسير قبل ان يأذن الله بطي صفحة الحياة الدنيا وبدء صفحة جديدة من الحساب والمآل بعد الحساب؟
يا أبا الأنبياء
ادع ربك الكريم ان يحبب الى امتك المسلمة فضيلة التسامح مع نفسها أولا.. وكذلك فضيلة التضحية والفداء لكي تهب لانقاذ حرمك الابراهيمي الشريف بمدينة الخليل التي يحتلها الصهاينة منذ عام 1967 والتي تحمل اسمك وتضم رفاتك الطاهر ورفات ذريتك من الانبياء المكرمين اسحاق ويعقوب ويوسف ولوط ويونس عليهم الصلاة والسلام ورفات العديد من الصحابة والتابعين والعابدين..وادعوه تعالى يا سيدي وسيد امتي ان يوحد كلمة ومسعى المسلمين لانقاذ القدس ومسجدها الاقصى من التهويد والضياع..
وعندما جاءك ملك الموت ليقبض روحك يا سيدي قلت له : هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله إليه فقال لك : هل رأيت حبيباً يكره حبيبه؟ !
فقلت : يا ملك الموت اقبض.
واسمح لنا في نهاية هذه الرسالة المورقة ان نردد دعاءك الذي كنت تردده في كل يوم تطلع فيه الشمس: اللهم إن هذا خلق جديد فافتحه عليّ بطاعتك، واختمه لي بمغفرتك ورضوانك وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها، وضاعفها لي، وما عملت فيه من سيئة فاغفرها لي انك غفور رحيم ودود كريم. وقلت: ومن دعا بهذا الدعاء اذا اصبح فقد ادى شكر يومه.
وسلام الله عليكم وعلى حبيبنا المصطفى وكافة الأنبياء ورحمته وبركاته.
المرجع:
أنبياء الله في فلسطين: نبيل خالد الأغا - المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت/عمان/ 2001م
[1] م يحيى محي الدين الاسطل | شكر | 12-10-2013