ومضة وفاء
الدكتور محمد الفرا .. سفير الكلمة المضيئة
نموت دون احتضار حين نموت من الأسى بابلونيرود
نبيل خالد الأغا
الدوحة ــ قطر
فقدت الدبلوماسية العربية مؤخرا أحد أبرز نجومها في الساحتين العربية والدولية خلال النصف الثاني من القرن الماضي الدكتور محمد حسين الفرا، ابن مدينة الشهداء خان يونس، وابن فلسطين البار الذي توفاه الحق تبارك وتعالى في العاصمة الأردنية أواخر شهر مايو 2009 عن ستة وثمانين عاما.
تألق نجمه سطوعا وحضورا في عالم الدبلوماسية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، اعتلى أعلى منبر إعلامي في الخريطة العالمية رئيسا لوفد المملكة الأردنية الهاشمية في منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن في نيويورك، مدافعا صلدا وعنيدا عن الحقوق العربية التي سطت عليها إسرائيل جهارا نهارا مع سبق الإصرار والترصد ضمن أكبر الجرائم البشرية ممثلة في نكبة فلسطين الكبرى عام 1948م ونكسة يونيو/حزيران 1967 وما ترتب عليهما من مآس ومصائب.
احد عشر عاما قضاها الفرا منافحا شريفا بالكلمة المضيئة عن قضايا أمته ضد أعتى الخصوم واشدهم دهاء ولؤما وسجل له التاريخ موقفه الحازم ودفاعه المستميت عن عروبة فلسطين والقدس اثناء التمهيد لصدور قراري مجلس الامن التاريخيين رقمي 242 و252 عامي 67 و68 اثناء مباحثاته مع جونار يارينغ المبعوث الدولي الى الشرق الاوسط. وكذلك تأييده المطلق لقضايا المغرب وتونس والجزائر وعمان في ذلك الوقت.
وبعد انتهاء مهمته في هيئة الامم المتحدة شغل الدكتور الفرا منصب مساعد امين عام الجامعة العربية بالقاهرة بناء على رغبة امينها العاميومئذ محمود رياض وزير خارجية مصر الاسبق وبقي في الجامعة عدة سنوات لكنه اضطر الى تقديم استقالته بعد استيائه من سوء احوال الجامعة وترهل موظفيها وهو انها على نفسها وعلى الذين تمثلهم.
هذا وقد سجل الدكتور الفرا خلاصة تجاربه الدبلوماسية في كتاب صدر باللغة الانجليزية اولا ثم تمت ترجمته الى اللغة العربية بعنوان «سنوات بلا قرار» وما انفك هذا العنوان الدقيق صالحا حتى الساعة ولن تنتهي صلاحيته الا بمعجزة إلهية تنهي الوضع المأساوي الذي تغرق في مستنقعه النتن أمتنا العربية كسيحة القوادم.
اللقاء الأول والأخير
سمعت باسم الدكتور الفرا للمرة الأولى نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي من أحد أعز أصدقائي من تلك العائلة الكريمة، وزميلي على مقاعد الدراسة بمدرسة خان يونس الثانوية المرحوم الأستاذ الدكتور فاروق حمدي الفرا (1942 - 2003) والذي حدثني بفخر عن ابن عمومته المقيم في أميركا واستطرادا أقول إننى مازلت أشعر بالحزن على وفاة صديقي فاروق أستاذ المناهج والتقنيات التربوية في جامعة الأزهر بغزة، وصاحب السمت الهادئ، والأخلاق النبيلة، وقد أكرمه الله تعالى وأكرمنا جميعا بتفوق ابنه الدكتور حمدي (36 عاما) الذي يحمل الجنسية الألمانية ويعمل طبيبا في مستشفى جامعة ماربورغ بألمانيا بنجاحه بامتياز في علاج الأجنة داخل الأرحام.
أما زميلي في نفس الفترة فاروق مصطفى الفرا فكان يحدثني عن أخيه الدكتور صبري (1933 - 2000م) الطبيب والمؤسس للعديد من المنظمات الإسلامية والعربية بالولايات المتحدة، وبهذه الصفة دعاه البيت الأبيض ليشهد على توقيع اتفاقية السلام عام 1993م.
هذا .. وما برحت تلوح في أفياء الذاكرة تلك السيارة الأميركية الفارهة التي أهداها الدكتور محمد حسين إلى أخيه قاسم (أبو منار) سكرتير بلدية خان يونس الذي كان رحمه الله يتبختر عليها في شوارع خان يونس التي ربما لم تكن حتى ذلك الوقت قد سارت فيها سيارة اميركية بحجم وحداثة وفخامة تلك السيارة التي استرعت انتباه الناس. وكان زميلنا الدكتور منار قاسم الفرا يزهو بشخصية عمه وبسيارة أبيه.
لم تتح لي فرصة الالتقاء شخصيا مع الدكتور الفرا الا في العام 1981 في العاصمة الاردنية عمان، ويعود الفضل في ترتيب هذا اللقاء- الذي كنت أتوق اليه - الى صديقنا المشترك المرحوم اكرم زعيتر (1909 - 1996) الذي شغل مناصب دبلوماسية عديدة من بينها وزارة الخارجية الاردنية، فاجتمعنا بفندق «عمرة» وسط العاصمة الاردنية بحضور السيد زياد شقيق الاستاذ اكرم.
كان اللقاء حميميا ودافئا تعارفنا وتذاكرنا في شؤون وشجون فلسطيننا الغالية، واستذكر مغادرته لخان يونس في العام 1947 حينما كانت قرية شديدة التواضع ثم أبحر من ميناء حيفا صوب الولايات المتحدة الاميركية التي عانى فيها الكثير والكثير من المتاعب المادية والمعنوية لكنه بصبره وجلده وقوة ارادته تجاوزها بحمد الله وظفر من احدى الجامعات على شهادة الدكتوراه في القانون الدولي.
ثم تحدث عن المتاعب والمعضلات التي واجهها اثناء عمله في المنظمة الدولية من اللوبي الصهيوني المتغلغل حتى النخاع في الشؤون السياسية والاقتصادية والاعلامية الاميركية وكذلك ابعاد الانحياز الاميركي الاعمى لاسرائيل والتغاضي الفاضح عن الحقوق الفلسطينية والعربية بشكل عام.
وأكد أن التكلس العربي يومئذ أدى بصورة مباشرة الى الهزيمة العسكرية المنكرة في العام 1967، وتحدث عن جهوده واخوانه السفراء العرب في استصدار قراري مجلس الأمن المشهورين بالنسبة لانسحاب إسرائيل من (الأراضي) (أراض) عربية محتلة.
وفي نهاية اللقاء تواعدنا على اللقاء في خان يونس لكن الإرادة الإلهية لم تشأ للوعد ان يتحقق، فقد غاب ابو الهادي وارتقى الى سدة اللطف الإلهي.
قراءة في دفتر الذكريات
لقد اتاح غياب ابي الهادي الفرصة لأفتح دفتر ذكرياتي البعيدة مع مجموعة طيبة من آل الفرا الكرام ويبرز في مقدمتهم استاذي وصديقي الدكتور محمد علي عمر الفرا \ 1932 الذي تتلمذت عليه في مدرسة خان يونس الثانوية والذي شغل فيما بعد مناصب اكاديمية وثقافية رفيعة ومتعددة في الاردن اضافة الى نشاطه الصحفي والبحثي العلمي المستمر وتربطنا معا صداقة ودودة وان كانت اللقاءات بيننا غير منتظمة بفعل الاغتراب والشتات وتعجبني مقالاته السياسية والمجتمعية الدقيقة وحرصه على ارتياد آفاق تاريخية حساسة.
ومن الزملاء الذين اعتز بهم ايضا الاستاذ عبدالحميد هاشم الفرا حيث جمعتنا معا صفوف المراحل الدراسية الثلاث في خان يونس وكان بيته مجاورا للمدرسة الثانوية وكان يغتنم استراحة الضحى ليكرمنا في بيتهم ويمدنا بالعصائر والفطائر واذكر من اخوانه الاكارم السيدين عبدالخالق وعبدالحي اما اخوهم الاكبر المرحوم عبدالرحمن ابو هاشم فالذاكرة تحتفظ بين دهاليزها بذكريات طيبة معه فقد امضيت برفقته عدة اسابيع في فندق نهر الاردن بعمان في اعقاب نكسة يونيو 1967 واعترف بفضله علي في مواقف سابقة وحرصت على زيارته اثناء اعتماري خان يونس في العام 1996 واما ابنه الدكتور هاشم فيتمتع بمكانة طيبة في الوجدان.
ولن يغيب عن البال صديقنا المخضرم الدكتور عوض حسني الفرا احد اعضاء «شلتنا» الشبابية في خان يونس وكان مقرها منتزه خان يونس حيث كان والده الحاج حسني يشرف على ادارة مقهاه ولا ضير علينا ان نذكر اعضاء «الشلة» التي تفرقت بهم السبل بعدئذ وهم: ابن العم الحبيب يونس، الدكتور حافظ هاشم شهوان، كامل الانصاري، محمد توفيق شيخة، محمد علي عليان المصري، محمد كشكش، محمد سعد النفار.
وبالمناسبة فأنا معتز بالمصاهرة التي تمت مؤخرا بين عائلتينا حيث تمت خطوبة الاستاذ عماد ابن حبيبنا المرحوم سليم ابراهيم الأغا على الآنسة مريم (محمد علي) عبد الرحمن الفرا وكذلك خطوبة السيد حسن طلعت الأغا على الآنسة سهاد ماجد الفرا، وهاتان لعمري خطوتان مباركتان لتمتين المودة بين العائلتين الرئيسيتين في المدينة. كانت العائلتان في عهد (الجاهلية الثانية) تتنافسان على هوية من سيتبوأ رئاسة بلدية خان يونس باعتبار الرئاسة اعلى منصب مدني في المدينة !
وبرغم حداثة سني نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي فقد تألمت لحدوث خلاف بين عائلتينا وعلى اثر ذلك قدمت اقتراحا لزملائي بالمدرسة من الطرفين تضمن عقد «مؤتمر» بين ممثلي الطرفين لحل وتجاوز الخلافات الطارئة بينهما لكن لم يتم التجاوب العملي مع الاقتراح. والحمد لله ان ازداد الوعي اليوم ولم يعد في العقل حيّز لأية انحرافات عصبية أو شعوبية.
وتجسيدا لرغبتي الملحة في الوفاق بين الطرفين فقد اخترت استاذي وأخي مضيوف عبدالمالك الفرا وليا لأمري عندما عبأت استمارة تقدمي لامتحان الثانوية العامة في قطر في العام الدراسي 1962-1963 والذي كان يعمل مدرسا بمدرسة قطر الثانوية في ذلك الوقت.
اخترته كي اساهم في طمس المعالم المشوهة لتلك الصورة القاتمة القائمة بين عائلتينا اخترته برغم وجود عدة وجوه مشرقة من ابناء عمومتي في قطر وهم: استاذنا المخضرم جاسر عبدالحافظ الأغا، المرحوم الاستاذ عمر خليل الأغا، ابن عمي وصديقي الأعز يونس عبد الأغا (جسورة) وأخيرا زميلي وصديقي وائل خليل الأغا.
ومن جانب آخر فأنا حريص على متابعة مقالات الأخ الدكتور اسامة الفرا محافظ خان يونس والتي تتميز بعمق الطرح ونضوج الفكرة ونضارة الاسلوب وأتفق معه في كثير من طروحاته. هذا ولن اطوي صفحة الذكريات قبل الاشادة بعمنا الراحل عادل الفرا \ ابوظافر \صاحب الشخصبة المميزة والقامة المديدة والكلمة الفكهة والصوت الجهوري والجلسة الممتعة \ وتقبع في جدران الذاكرة وجوة مشرقة من هذه العائلة الفاضلة لا يتسع المجال للعروج عليها .
الرحيل الأبدي
لقد شاءت الإرادة الإلهية أن يبتلى صاحب هذه السيرة المضمخة بالأطايب العصامية والنضالية بمرض الزهايمر الذي اطاح بذاكرته فلم يعد يتذكر أحدا من احبابه الذين وقفوا عاجزين عن مساعدته أو إغاثته اللهم الا الدعاء له بالشفاء إن كان الشفاء خيرا له أو رحيله ان كان الرحيل خيرا له حسب مضمون الحديث النبوي الشريف.
رحلة طويلة ومضنية مع المرض والمعاناة والعوز تعرض لها الفرا وأسرته فانعدم المغيثون وعز المنجدون وانتصر الجاحدون دولا وحكومات وهيئات وأثرياء وأباطرة فساد وإفساد في كل واد من بلاد العرب والامجاد.
لا تثريب يا ولدنا هادي ولا عتاب يا ابنتنا هبة ولا عجب يا أختنا ام هادي فنحن نعيش في زمن غريب عجيب يجعل الحليم حيرانا والحكيم غضبانا.
ويا أبا الهادي كفاك شرفا أنك في رحاب الهادي.
رجاء إلى رئيس بلدية خان يونس
أخي الكريم الاستاذ محمد عبدالخالق الفرا رئيس بلدية خان يونس تحية حب وود وبعد:
تقديرا ووفاء من مدينة الشهداء «خان يونس» لتضحيات تخبة من ابنائها البررة نرجوكم الموافقة على إطلاق اسماء الشخصيات المرموقة التالية على خمسة من معالم المدينة وقراها «مثل الشوارع والمدارس والقاعات».
أولا: الدكتور محمد حسين الفرا
ثانيا: المناضل سفيان عبد الله الأغا (مجيد)
ثالثا: الدكتور قنديل شاكر شبير
رابعا: الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي
{ خامسا: المؤرخ الدكتور سلمان أبو ستة
نسأل الله تعالى أن يسدد خطانا، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه، وهو سبحانه من وراء القصد والهادي إلى سواء السبيل.
أبو خلدون - الدوحة - يونيو 2009
[1] يحيى عطية بركات الفرا | شكر وتقدير | 06-06-2009
[2] عبد الكريم على قاسم الفرا | من الرجال الأفاضل | 09-06-2009
[3] المحامى / عبد العزيز يوسف الاغا | شكر وتقدير | 03-06-2013
[4] راوية شكري شاكر شبير | أصا لة أبناء خان يونس | 03-06-2013
ان ما كتبته يا نبيل عن الدكتور محمد الفرا رحمه الله و ما كتبته عن الدكتور فاروق الفرا رحمه الله ينم عن أصالتك و عن شهامتك..وان ضداقتك لأولئك الأفراد تعبر عن علو أخلاقك ..قل لي من تصادق أقل لك من أنت لأن الخل على دين خليله وهذان الانسانان أجمل ما فيهما التواضع و محبة الناس رحمهما الله جميعا ورحم موتانا معهم..ان ما كتبته يدل على نبل أخلاقك و على حرصك على بلدنا الحبيب خان يونس وتطبيقا لقول رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم"المؤمنون في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كالجسد الواحد،اذا اشتكى عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى "
فبارك الله فيك يا نبيل و بارك في أمثالك و جزاك عن الجميع كل خير