سفيان الآغا .. عنوان الطهارة النضالية
نبيل خالد الآغا ـ الدوحة
عندما بلغني نبأ وفاته قبيل عامين، حاولت التجلد والصبر، ولذت بالحمدلة والحوقلة، ورددت كما يردد الصابرون المحتسبون «(إنّا لله وإنّا إليه راجعون)، ورتلت في صبر مشوب بالألم ما شاء لي من الآيات، ودعوات للحق تبارك وتعالى أن ينزل الرحمات على الفقيد الغالي .
وبعد فريضة العشاء لبّيت دعوة من أخي الدكتور يحيي (أبو زكريا) للمشاركة في اجتماع العزاء الذي أحياه في بيته إكراماً لروح الحبيب ابن الحبيب سفيان (مجيد) . وبدأ الحاضرون يدلون بدلائهم عن مآثره، ومكانته، ونزاهته ...
وبقيت صامتاً إلى حين .. أشتري ولا أبيع .. ولما أزمعت الحديث عنه، وتلفظت ببضع كلمات .. انفجر ما احتبس في العين والقلب من فيوض الدموع والعبرات . لم أحاول إيقاف ذلك النزيف الذي انسكب على الوجنتين ساخناً سخونة الحدث، فالدموع رحمة ونعمة من الله تعالى هدفها امتصاص الكثير من ردود أفعالنا العاطفية وحينئذ تذكرت قول جدنا الشاعر ابن الرومي:
لم يُخلَقُ الدمعُ لامرٍئ عبّثاً الله أدْرى بِلَوعةَِ الحُزن
جذورٌ عميقة
سفيان عبدالله يوسف الأغا، صديق الطفولة، وزميل الدراسة، ورفيق الشباب والثورة، قواسم مشتركة عديدة جمعتنا سوياً، قلباً إلى قلب، وروحاً إلى روح، وهدفاً إلى هدف . القرابة الدّمية إضافة أخرى لهذه المنظومة، وكما يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : (تحتاج القرابة إلى مودة . ولا تحتاج المودة إلى قرابة).
ذكريات ماتعة مشتركة في شتى المراحل الدراسية، ورحلات وجولات في برّ السَّطر وبحره ومواصيه وبخيراته المتنوعة، وقراءات شتى في كتب متبادلة شعراً ونثراً، المتنبي وجبران وأحمد أمين وأضرابهم ضيوف شبه دائمين بيني وبينه .
بعد حصوله على الثانوية العامة في خانيونس . وحصولي عليها من قطر جمعتنا أبهاء «إدارة الوافدين» بالقاهرة لتقديم استمارات النجاح وتعبئة طلبات الإلتحاق بالجامعة . وتم قبوله طالباً بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وكانت هذه الكلية تحديداً أمنية عزيزة المنال، وتم قبولي طالباً بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة في العام 1963 .
لم يجد سفيان مشقة في إقامته بالقاهرة، فقد احتضنته - كما العشرات قبله وبعده - الشقة التاريخية التي تحمل الرقم (8) بشارع عبدالرحمن البرقوقي بحي المَنْيَل (بفتح الميم وتسكين النون وفتح الياء) التي قصّ شريط افتتاحها الأخ الدكتور هاشم يوسف الأغا عندما كان طالباً بكلية الطب بجامعة القاهرة . وهو أول من حط رحاله فيها من العائلة «الأغوية» . وقد تعاقبت عليها - وحتى الآن - أجيال وأجيال، أذكر من بينهم الأخ القاضي الأستاذ نعيم يوسف الأغا (شقيق الدكتور هاشم) الذي كان يومئذ طالباً في كلية الحقوق بجامعة القاهرة أيضاً .
سكنت في مصر الجديدة في العمارة رقم (3) بشارع المعالي بحي روكسي وهو ذات الشارع الذي كان يسكن في احدى شققه الأخ الدكتور مروان خليل الأغا وهو أول مستأجر لها، وتعاقبت عليها أجيال وأجيال من الطلاب من ضمنهم حبيبنا الراحل الدكتور إحسان خليل الأغا، والأخ الدكتور سليمان مصطفى عثمان الأغا أمدّ الله في عمره ويقيم فيها حالياً الأخ عدنان كامل الشوربجي.
واستمرت العلاقات الوطيدة بيني وبين سفيان نتبادل الزيارات الودية في أماكن إقامتينا بين المنيل ومصر الجديدة وبالعكس.
قلعة فلسطينية في القاهرة
ولكن العلاقات ازدادت رسوخاً ومتانة بالتقاءاتنا باتحاد الطلاب الفلسطينيين بشارع طلعت حرب بوسط القاهرة وهو يومذاك أقوى اتحاد طلابي معروف، يمارس نشاطاته السياسية بحرية، محاضرات، خطابات، أمسيات ثقافية شعرية ونثرية، ومسابقات ورحلات ترفيهية .. كنا نعيش في العصر الذهبي للطلاب الفلسطينيين، عهد الزعيم الخالدجمال عبدالناصر الذي لم يُعوّض حتى اليوم.
وكانت تجري في مقر الاتحاد انتخابات سنوية للرئيس وللهيئة الإدارية، انتخابات لم تخل من مشاحنات ومنافسات تشعل أوارها الانتماءات السياسية والحزبية للطلاب، وكان من بين أبرز المشاركين فيها من مؤسسي الاتحاد : هايل عبدالحميد «ابو الهول» (رحمه الله) وموسى وغازي عبدالقادر الحسيني، وتيسير قبعة، وغيرهم.
أخذت الساحة الفلسطينية خلال عقد الستينات من القرن الماضي - حيث كنا طلاباً - تموج بالتيارات السياسية المختلفة التي انعكست سلباً أو إيجاباً على القضية الفلسطينية برمتها : حركة القوميين العرب وتنظيمها العسكري «طلائع العودة» من خلال منتسبيها في الجامعات المصرية، وكذلك حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال تنظيماته، والإخوان المسلمون وأنصارهم، وحزب التحرير الإسلامي وغيره وغيره .
لكن الحركة الثورية الفلسطينية التي تغلغلت بصدق في وجداننا هي «حركة التحرير الوطني الفلسطينية فتح» التي قدحت زناد الثورة المسلحة في مطلع العام 1965، وهو نفس التاريخ الذي التحق فيه سفيان رسمياً إلى الحركة .
ولا يغيب عن الذاكرة الأثر الذي أحدثه غياب مفتي فلسطين ورئيس الهيئة العربية العليا المرحوم الحاج محمد أمين الحسيني من المشهد الفلسطيني، وولادة منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1964 تركت صدى مدوياً في الشارع العربي والفلسطيني، وساهم تعيين المناضل أحمد الشقيري في رفع وتيرة الصدى خاصة في القاهرة التي احتضنته ووفرت له حرية الحركة، وكان يداوم في المكتب الرسمي للمنظمة في حي الدقي . وساهم في التوعية وشحذ الهمم لتحرير فلسطين، وحضوره اللافت للاحتفالات والمناسبات الوطنية متى توفر له ذلك.
سفيان.. اصرار على التضحية
وقد شهدت مع سفيان والأخ بسام مصطفى الأغا فعاليات «ندوة فلسطين العالمية» التي نظمها اتحاد الطلاب الفلسطينيين في جامعة القاهرة في العام 1965، وقد افتتح المناضل الشقيري تلك الندوة وهو يرتدي بزته العسكرية مما ألهب مشاعر الحاضرين فهتفوا وصفقوا طويلاً، جدير بالذكر أن سفيان ساهم بشكل لافت في انجاح الندوة لكنه كان يتفادى الظهور أمام عين الكاميرا بمجرد انضمامه للحركة وقد آثر الرصاصة على الكلمة، والثورة على الجامعة مقابل النصر أو الشهادة .. نجح في السنتين الدراسيتين الأولى والثانية، ولكنه في السنة الثالثة أخذ قراره الحاسم بالتفرغ كلياً للثورة .. لم يستطع الجمع في سلة واحدة بين النضال التعليمي والنضال العسكري أو السياسي، كانت فلسطين في قناعته الذاتية أغلى ألف ألف مرة ومرة من البكالوريوس والماجستير والدكتوراة ..، ولكنه بناء على نصيحة بعض زملائه أبقى خط الرجعة قائماً، فكان يقدم شهادة مرضية قبل بدء الامتحانات فيعفى منها . تجادلنا مطولاً بالنسبة للتفرغ .. لم أقتنع بحجته، وأذكر أنني استشهدت ببيت من الشعر يؤكد على أهمية ومساواة من يناضل بالكلمة ومن يناضل بالقوة :
سّيانَ عند ابتناء المَجْدِ في وطن
من جرَّد السيف أو مّنْ جرّد القلما
ولكن هيهات أن يقتنع سفيان من أحد، فقناعته دائماً منبثقة من مبدئه الذي لا يحيد عنه «فلسطين أولاً وأولاً بلا ثانياً أو ثالثاً !
وتقتضيني الأمانة هنا أن أسجل مضمون محادثة شهدتها بأم عيني، وسمعتها «بأم أذني» إذا جاز التعبير !
فأثناء زيارة أستاذنا وحبيبنا عصام سعيد الأغا رحمه الله إلى مسكننا بمصر الجديدة بحضور أخي المرحوم أحمد الذي سأله قائلاً : لماذا - يا أبا خليل - لا تقنع ابن أختك سفيان لكي يكمل دراسته الجامعية أولاً ثم يتفرغ بعدئذ للقضية كيفما شاء؟
فأجابه رحمه الله :
والله يا أحمد لقد نصحته مرات عديدة، فكان يمتص انفعالي بقوله : إن شاء الله .. كل شيء بأمر الله تعالى يا خالي.
تفرغ كامل في فتح
لم أجرؤ على مجاراة سفيان في جرأته وتفرغه الكامل للعمل النضالي ، فانضممت الى الحركة وخضت انتخابات الكلية في قائمة فتح وكنت ضمن الفائزين فيها.
كانت ظروفي الموضوعية غير ظروفه، برغم أنني أعتز بنشاطاتي الوطنية المكثفة داخل كلية دار العلوم بشكل خاص . وشكلنا( لجنة الطلبة الفلسطينيين بالكلية) مكونة من أربعة أفراد : المرحومة الدكتورة شهناز استيتية من نابلس، والشاعر محمد عز الدين المناصرة من الخليل، والدكتور صالح خليل أبو أصبع، ونبيل خالد الآغا.
واقترحت على زملائي باللجنة أن نحيي في النفوس ذكرى انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة إثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 . وعودة الإدارة المصرية إلى القطاع يوم السابع من مارس عام 1957م .
وتمت الموافقة من الأعضاء ومن إدارة الكلية وأقمنا مهرجاناً ضخماً شارك فيه عدد من المثقفين الفلسطينيين والمصريين، وكان لسفيان فضل ترشيح ودعوة بعض الشخصيات، وأبدى إعجابه بنجاح المهرجان وبالفكرة نفسها ، ومن ابرز الوجوه التي شاركت فيه: القائد عبدالله التل قائد معركة القدس في العام 48 ، الاديبة سميرة ابو غزالة ، الشاعر صلاح عبدالصبور، و الشاعر علي هاشم رشيد وغيرهم.
و تخرجت في الكلية في ذات السنة التي حدثت ابانها نكسة 1967 والتي قصمت الظهر العربي قصماً مؤلماً لم يبرأ منه حتى الساعة،ومكثت في القاهرة عدة أشهر أتلظى في جحيم النارين: نار الهزيمة ونار الفراغ ، وقررت السفر الى الأردن.
غادرت القاهرة وهي في حالة إعياء شديد وتوجهت إلى عمان، وأثبت حضوري في أحد مواقع الحركة، والتقيت سفيان الذي أضحى معروفاً باسم «مجيد»، وعلمت منه بوجود أخينا الأخ وائل خليل الأغا «أبو خليل» قادماً من قطر، وهيأ لنا مجيد فرصة حضور دورة عسكرية مدة أسبوعين وسط جبال السلط الوعرة، وكانت دورة رائعة بكل المقاييس، وحاضر لنا فيها بعض القادة السياسيين والعسكريين، إضافة إلى التدريبات العسكرية الشاقة والمحببة معاً، وعانقنا وللمرة الأولى والأخيرة سلاح الكلاشنكوف، وهتفنا لـ ( الديكتريوف )
وأنشدنا :
أنا ابن فتح ما هتَفَتْ ُلغيرها ولشعبها المقدام صانع ثورتي
وأثناء وجودي في عمان تعاقدت مع البعثة التعليمية الليبية مدرساً في إحدى مدارس مدينة البيضاء بمحافظة الجبل الأخضر .
وبمجرد وصولي إلى بنغازي عانقتني قبلات وابتسامات الأحبة من الغوانمة الغانمين دوماً إن شاء الله وفي مقدمتهم أستاذنا عاشور مسعود (أبو مسعود) وأخيه أمين مسعود (أبو منهل) وباقي الكوكبة المنيرة، وكان لوجود ابن الخالة عادل صالح الآغا طعم حلو المذاق في القلب والخاطر.
وأثبت الحضور في مكتب حركة فتح في بنغازي بحضور أبي مسعود والمرحوم كمال الدين السراج مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، وتم تكليفي رسمياً ممثلاً لحركة فتح في محافظة الجبل الأخضر، إضافة إلى عملي الرسمي بالمدرسة .
السفر بدون جواز سفر
وخلال العطلةالصيفية سافرت إلى عمان، وسألت عن مجيد فقيل لي أنه مقيم في دمشق فسافرت إليه بدون جواز سفر .. صدقوا أو لا تصدقوا، على رسلكم .. مجرد ورقة صغيرة ممهورة بتوقيع المسؤول وخاتم الحركة وبدون صورة شخصية! وهذا هو النص شبه الحرفي لمضمونها : «يسمح للمناضل «أبو الطيب» بالسفر براً إلى دمشق والعودة إلى الأردن خلال شهر من تاريخه، وثورة حتى النصر» ولا علاقة لمكاتب الجوازات على الحدود الأردنية والسورية بهذا التصريح، لكن يوجد على الجهتين مكتبان مختصان بهذا الشأن.
والتقيت مجيد في أحد مواقع الحركة في منطقة الهامة خارج دمشق، وكان في أبهى حالاته النفسية، وأطلعني على بعض الغنائم التي غنمها الفدائيون من العدو الصهيوني، إضافة إلى بعض الاعضاء لقتيل صهيوني محفوظ في إناء به مادة حافظة ... مشهد لم ولن يبرح ذاكرتي ما حييت !
تناولت معه طعام الغداء، وأطلعني على مطبخهم المتواضع وقال : نحن هنا نشكل الوحدة العربية التي طالما حلمنا بها وجفت حلوقنا ونحن نهتف لها، وأشار بسبابته : هذا فول مصري، وهذا حمص لبناني وهذا مشمش حموي وهذه جبنة أردنية ..
وخلال وجودنا في دمشق حضرنا حفل زفاف أخينا الدكتور سليمان مصطفى الأغا على كريمة عمنا المرحوم الشيخ فهمي حافظ الأغا أختنا الفاضلة الدكتورة هيفاء «سناء»، وشهد الحفل عدد من أبناء العائلة والأصدقاء من بينهم :المرحوم الشيخ فهمي الآغا وابنه الدكتور رياض وأخي المرحوم عدنان خالد الآغا،ومأمون سعيد الاغا وجهاد قاسم الاغا ووائل خليل الآغا وغسان عبدالله الاغا والمرحوم عبدالرحيم شراب والمهندس محمد كشكش وغيرهم.
وقد رفض مجيد كعادته أن يظهر أمام عدسة الكاميرا بل لم يمكث معنا إلا قليلاً من الوقت ، ثم انصرف لشأنه.
وخلال السنوات التسع التي قضيتها في ليبيا (1968 - 1977) التقيت مجيد مرتين في بنغازي مرافقاً الزعيم الراحل ياسر عرفات أثناء زياراته إلى ليبيا،وفي الوقت الذي استمر فيه سفيان منغرساً في فتح الا أنني فقدت صلتي بها فيما بعد وان بقيتُ على اتصال حميم مع بعض شرفائها وأطهارها.
العودة المنقوصة إلى الوطن !
نتيجة لإفرازات إتفاقية أوسلو الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، تم الإعلان عن إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية التي تسنمت الحكم المحلي في الضفة الغربية وقطاع غزة . ودخلت الأجهزة الرسمية الفلسطينية إلى المنطقتين، وكان مجيد ضمن المسؤولين المقرر عودتهم إلى رحاب الوطن .
وكنت يومذاك قد توجهت لزيارة مدينتي الأثيرة خان يونس، وحللت ضيفاً على أخي المرحوم عدنان والعزيز نعيم يوسف، وقيل لنا أن سفيان سيصل إلى معبر رفح (سيئ السمعة) صباحاً، فذهبنا لاستقباله ومكثنا نحو عشر ساعات عجاف بانتظاره معيّة الأخوين الكريمين سليمان مصطفى واخيه المهندس عيد، والشابين اليافعين يوسف وأمجد نعيم، وبعد بضعة أيام ذهبت لزيارته .. وجلست معه مطولاً ووجدته هو هو .. لم تتسبب الرتب العسكرية والمدنية «لمجيد» في المس بأصالة «سفيان» تلك التي ورثها كابراً عن كابر وأضاف إليها من عذوبة روحه، وطول تجربته : الطلعة البهية .. الحياءالمشوب بالخجل، حسن الوفادة والسمت الهادئ .
وجملة هذه الخلال الكريمة كانت متوافرة في أبيه الذي بالمناسبة يحمل شهادة التخرج من مدرسة خضوري الزراعية بقضاء طولكرم وتحمل اليوم اسم «جامعة فلسطين التقنية خضوري» وهي أقدم وأكفأ مدرسة زراعية في فلسطين فقد تأسست في العام 1931 وحملت اسم مؤسسها المليونير الصهيوني (أليس خضوري) . وربما يكون العم المرحوم عبدالله يوسف الأغا الوحيد الذي حصل على شهادتها من سكان خان يونس وقراها .
وليسمح لي كرام القراء أن أعرج برهة من الوقت لأترجم لهم - وللشباب خاصة - ما أكتنزه في قلبي وعقلي من حب وتقدير لهذا الإنسان الكريم .
وبرغم الفارق العمري بين وبينه إلا أنه رحمه الله كان يعامل الإنسان كإنسان بغض النظر عن عمره وشكله ومرتبته الإجتماعية . كان عميق الفهم، حاد الذكاء، واسع الأفق له آراء قيمة في السياسة والإقتصاد وشؤون الحياةبشكل عام .
والحق أنه رحمه الله لم ينل نصيبه الذي يستحقه خلال مسيرته الحياتية التي لم تخل من المشاق والهموم، لكنه كان شاكراً حامداً قانعاً بما قسمه الله تعالى له، رحمه الله كم كان ودوداً .
وأطلب السماح مرة أخرى من كرام القراء لأعرج مسافة سطرين لأحيي بهذه المناسبة شقيقة العم أبي سفيان السيدة الفاضلة الحاجة سميحة يوسف حمدان الأغا (أم عصام) زوجة عمي الراحل المرحوم مهدي نعمان الأغا (أبو عصام) التي تعتبر بحق صورة باهرة الإشراق في النبل والكرم وعذوبة الحديث، وروعة الاستقبال والمعاشرة، أدعو الله تعالى أن يمد في عمرها ويبارك لها ولأولادها ولأحبابها بطول العمر وحسن الخاتمة .
هذا .. وتمتد الجينات الوراثية لسفيان لتصل إلى جديه الراحلين : العالم الحاج سعيد حمدان الآغا جده لأمه المرحومة مَلَك، والمحسن الحاج يوسف حمدان الأغا جده لأبيه ... وجهان مشرقان بحب الخير جمعا بيننصاعة الأخلاق، وحميد الخصال وسمت الأتقياء، وقد أكرمهما الكريم بسلالات الأبناء والأحفاد على النهج الإسلامي القويم .
المتسلقون على جدار الوطن
لفت انتباهي أثناء زيارتي له في العام التالي 1996، أنه مقيم في نفس المنزل الذي كنت أزوره فيه قبل نحو ثلاثين عاماً، لم أر أي تغيير دراماتيكي فيه، برغم أن ساكن البيت الذي غادره شاباً متورداً متوجاً بنضرة الشباب عاد إليه حاملاً على هامته عبئاً نضالياً طويلاً وشريفاً ومشرفاً . وللحقيقة رأيت فقط صالة أضيفت لاحقاً إلى البيت خصصها مجيد كمتحف متواضع جمع فيه بعض أدوات التراث الاجتماعي الفلسطيني .
لم أجهد نفسي في المقارنة بين الرتبة النضالية لمجيد (لواء) وسكنه المتواضع من جانب، وبين بعض المنتفعين من محدثي النعمة الذين شيدوا العمارات والفلل والأبراج والأنفاق على حساب شرفاء الناس وأطهارهم، المتسلقون على جدار الوطن هم لصوص بامتياز مهما تباينت وظائفهم أو اختلفت انتماءاتهم، لقد استباحوا لأنفسهم - في غياب الضمير الحي والرقابة الصارمة والمحاسبة الدقيقة - السطو على حليب الأطفال، وأدوية المرضى، ومعونات المعوزين والفقراء والمسحوقين . فقد اختلط حابل «المناضلين» بنابلهم، فلم يستطع رجل الشارع الفلسطيني المهموم التمييز بسهولة بين «المناضلين» المنافقين ذوي «الصناعة التايوانية» الهابطة، وبين المناضلين المناضلين ذوي الأصول العريقة والهمم العالية، والقامات المديدة .
لم يكتف الدجالون والذين في قلوبهم مرض بالإساءة المهينة لكفاح شعبهم العظيم على امتداد قرن من الزمان، بل أساءوا أيضاً إلى الواقع الفلسطيني الحالي الذي يشهد تقهقراً مخيفاً ومرعباً في القضية الفلسطينية ومستقبلها المحفوف بأبشع المخاطر، وعلى قدسنا الحبيبة الغالية التي يغرقها طوفان التهويد المجنون، والتي تجأر - وكل أهلها الشرفاء - بالشكوىالمريرة من غياب النخوة العربية، وتكلّس الشهامة الإسلامية، أمام أشرس وأخطر مؤامرة تتعرض لها منذ الاحتلال الصليبي لها بتاريخ 7/6/1099م وهو نفس اليوم الذي سقطت فيه المدينة بيد الاحتلال الصهيوني (7/6/1967) . ويا لها من مفارقة.
مناجاة الحبيب
سفيان .. مجيد .. أيها الغائب الحاضر، القريب البعيد، الغني الفقير، طوبى لك مقامك الأبدي في عناية اللطف الإلهي، هنيئاً لك حياتك الدنيوية الحافلة بالإنجازات التي غبطك عليها الأحباب، وحسدك عليها الانكشاريون الجدد، قناصو المنابر والمناصب والصفقات التجارية المشبوهة، هنيئاً لك يا ابن العم رحيلك في الوقت المناسب الذي اختاره لك ربك قبل أن يستنوق الجمل، ويستأسد الحمَل، ويتفرق الشمل، ويتسع الرقع على الراقع !
[1] مهران نايف بدوي الأغا | مكارم الأخلاق | 30-04-2009
[2] د.سلام زكريا اسعيد الأغا | مهما كتبت الأقلام فلن توفيك حقك أيها الراحل الكبير | 30-04-2009
[3] الصحافي/حاتم علي مصطفى العسولي | رجل في زمن عز فيه الرجال | 30-04-2009
[4] سليمان مصطفى عثمان الأغا | ذكريات خالدة | 02-05-2009