بسم الله الرحمن الرحيم
جمهورية السودان
جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية
كلية الدراسات العليا والبحث العلمي
البِنْيةُ اللُّغَويّةُ والمـوُسِيقيّةُ في الشِّعرِ الفلسطينّي المُعاصرِ
(دِرَاسَةٌ فَنيّةٌ وَموْضُوُعيّةٌ)
بحث مقدّم لنيل درجة التخصص العليا ( الدكتوراه)
في الأدب والنقد
إعداد
الطالب : يحيى زكريا الأغا
إشراف
الدكتور : عبد الله بريمه فضل
1420هـ 2000 م
إهداء
( إلى وجه الله سبحانه وتعالى )
ثمّ إلى روح والديّ في دار البقاء وفاء لعهد
وإلى أبناء جنّة الأرض _ فلسطين – بشعرائها وعلمائها
وإلى الشهداء الذين رسموا خارطة الوطن بدمائهم
وإلى الذين مازالوا يسيرون على نهج صلاح الدين الأيوبي لتحرير
القدس ،،،
أهدي هذه الرسالة
شكر وتقدير
أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير لأستاذي الدكتور الجليل/ عبد الله بريمة فضل،
الذي منحني من علمه الفيّاض، ووقته الثمين، ما ساعدني على تلمّس الصواب،
لمواصلة البحث والدراسة، فقد كان ومازال يحفظه الله، لحسن توجيهاته، أعظم الأثر
في رؤية هذا البحث النور.
والله أسأل أن يحفظه منارة للعلم، ونبراساً وعوناً لكل من تلمّس عنده غزارة
علم، وفيض منهل، ودقة لغة، وموضوعية منهج، وعقادية فكرٍ، إنه نعم المولى ونعم
السميع.
الباحث
المقدمة
موضوع هذه الدراسة ( البنية اللغوية والموسيقية في الشعر الفلسطيني المعاصر،
دراسة فنية وموضوعية ) تعني دراسة البناء الفني، والموسيقي للقصيدة، من حيث
الشكل والمضمون، وتتجه إلى الوقوف على بنية القصيدة، والتطورات التي لحقت بها،
وكيف واكبت روح العصر، بأبنية مختلفة فرضتها طبيعة المرحلة، والحالة النفسية
التي تعتور وجدان الشاعر، تلبية لرغائب تتجانس موضوعياً وفنياً على السواء مع
الواقع، ثمّ قدرتها على مواكبة التطورات السياسية والجيوسياسية في فلسطين بشكل
خاص، ففلسطين كما نعلم وقعت تحت الخلافة العثمانية بكل إيجابياتها وسلبياتها،
ثمّ جثم عليها الاستعمار الإنجليزي، فالإسرائيلي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد،
بل عمل الاستعمار الإسرائيلي على تقسيم الأرض الفلسطينية إلى ثلاثة أقسام،
وكذلك الشعب الفلسطيني.
وقد ارتكز الشعراء في عطائهم اللامحدود على مرتكزين أساسين: الأول: مواكبة
الشعر للواقع، ويمثله الشعراء الذين عاشوا التطورات والحدث بكل ما يحمل من
معاناة وألم منذ التقسيم" النكبة "، والثاني: الإرهاصات المتلاحقة التي ساهمت
بدور فاعل في إثراء القصيدة سلباً أو إيجاباً، ويمثله الشعراء الذين استندوا
إلى التاريخ في الوقوف على المعاناة، إضافة إلى معايشتهم لمعاناة جديدة ومتجددة
في نفس الوقت، وكلاهما يكمل بعضهما الآخر.
وبنظرة متفحصة في هذا البناء الجديد، وجدنا بأنه لا يخرج عن الإطار العام للشعر
في الوطن العربي، بل هو جزء من هذا الرافد بكل صوره وأشكاله، ولا يمكن للنقاد
أن يتجاوزوه، بل ومن الواجب إلقاء الضوء عليه بصور مختلفة، حتى يخرج من عباءة
القبول والرفض، إلى عباءة الواقع، لكونه أصبح واقعاً ولغة حية، قادرة على
مسايرة كل مرادفات اللغة والحياة.
إن دراسة هذا اللون من الشعر – شعر التفعيلة – يختلف عن دراسة الشعر الموزون
المقفى، من حيث الشكل والمضمون، لأن المرحلة التي يمثلها هذا الشعر، تختلف
زمنياً عن المراحل التي مرّ بها الشعر المقفى، مع قدرة هذا الفن للاستجابة
لبواعث نفسية تختلف عن تلك المتمثلة في الشعر المقفى، وقدرته على محاكاة اليومي
والمألوف، أكثر من الكلاسيكي أحياناً، إضافة إلى تناولها العديد من القضايا
الفنية التي تختلف عمّا ألفناه في البناء الآخر، وليس هذا تقليلاً من ذلك
البناء المتجدد في مضمونه حتى الآن، بل سيبقى من أهم الروافد في الأدب العربي،
مهما امتد به الزمن، لهذا، فإن من أهم ما ساعد الباحث في تخطى العديد من الصعاب
عند الدراسة، كونه – أي شعر التفعيلة – مازال يعيش بين ظهرانينا، ومازلنا نعيش
المرحلة بكل زخمها، وما تحمل من تطور مستمر في بنيته الفنية، باعتبار أن هذا
اللون من الشعر يعكس الواقع الثقافي الجديد والمتجدد، والتراث بكل عبقه،
المرتبط أشد الارتباط بالواقع النفسي، والاجتماعي، والتاريخي، والسياسي،
والثقافي.
فدراستنا لهذا اللون من الشعر المعتمد على التفعيلة، يرجع من إيماننا المطلق
بأنه الجزء المتمم للكل، وبأنه حلقة من حلقات التطور في هذه البنائية، قائم على
قواعد خاصة، ليواكب معطيات الواقع، ويفتح من خلال النص آفاقاً جديدة لم تكن
معهودة من قبل، باعتبار التنوع في البنى الشعرية لون من الخصوبة والتجديد
والإبداع، وقد بدأ شغفنا لدراسة هذا اللون من الشعر منذ دراسة الماجستير، حيث
وجدنا فيه صورة حيّة لمكامن النفس، ونوازع الحياة، ولغة مضادة في وجه الاحتلال،
تتجانس مع وقع الحياة الجديدة، بكل زخمها، وعصريتها، فتجانست عصرية اللغة، مع
همجية السلوك الذي مارسه الاحتلال على الأرض الفلسطينية، بصورة خاصة.
وإذا كانت محاولات بعض النقاد نالت من هذا البناء ظاهرياً، فإنها لم تحد منه،
بل زادته قوة ورسوخاً، وأصبح اللغة الجديدة التي تتناسب مع معطيات العصر، جنباً
إلى جنب مع الشعر الموزون المقفى، بل أحياناً يتفوق على ذلك البناء ، منذ منتصف
الأربعينيات وحتى الآن.
وإذا كان الشعر الفلسطيني – كما قلنا – رافداً مهماً، فإنه لا يمكن فصله عن
الشعر العربي، باعتباره أحد أهم وأغزر الروافد في هذا العصر، ولكونه مازال
يتعامل مع قضايا ملحّة، ومتأججة في فلسطين وحدها، تتناسب مع انعكاسات النفس
البشرية، فيبدع شعراً متميزاً يساير روح العصر.
وقد كان من أهم الأسباب بل والأهداف، التي دفعتني لدراسة هذا الموضوع، كونه
يؤرّخ لا للشعر الفلسطيني فحسب، بل لتطور هذا الشعر بنائياً في الشكل والمضمون،
بصورة تجعل منه مادة جديرة بالبحث والدراسة، إضافة إلى كون الشعراء موضوع
الدراسة تناولوا مأساة الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية، فعاشوا دقائق
الآلام، وأحداثها الجسام، وذلك بتسليط الضوء على البنية اللغوية والفنية، فمن
حيث الشكل، تتضمن هذه الدراسة تاريخ بنية القصيدة العربية وما اعتراها من تطور
عبر الزمن، وهل كان التطور منبثقاً من بنية القصيدة من الشكل؟ أم هي وافدة؟ أم
من هذا وذاك؟.أما المضمون: فمن الضروري تتبع تطور المضمون الشعري عبر الزمن حتى
العصر الحديث، فمـا المضامين التي تناولتها القصيدة العربية _ ومن بينها
القصيدة الفلسطينية ؟ وهل انبثقت تلك المضامين من الضرورات الحيوية للأمة
سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعقدياً ؟ ومن ثمّ التأصيل لتطور القصيدة
الفلسطينية من خلال القصيدة العربية، أي إثبات أن هذا التطور إنما كان تطوراً
طبيعياً للقصيدة العربية عامة، والفلسطينية خاصة، وجزءاً من إيقاع الزمن،
ومتطلبات الحداثة، وبعد ذلك، التنظير والتقعيد للقصيدة العربية في تطورها، ورصد
هذا التطور. بحيث يمكن القول: بأن القصيدة بشكلها ومضمونها الحالي لا يمكنها أن
تقف عنـد هذا الحد، بل سيعتريها التغيير شكلاً ومضموناً وإيقاعاً، لأن أمام
التفعيلة بنسقها الموسيقي احتمالات نهائية لم تُكتشف بعد، ولكن متى وكيف ؟ هذا،
ما ستكشفه السنوات القادمة، وقد وقفنا على التطورات في بنية النص، من حيث
الشكل والمضمون، وتلمسنا هذه التطورات من خلال البنية اللغوية والفنية للقصيدة،
وصولاً لهذا الشكل.
وتكمن أهمية الموضوع من وجهة نظرنا، في أنه – أي الشعر – أحد ضربي التعبير
الإنساني الذي هو إما أن يكون شعراً، وإما أن يكون نثراً، ويتميز الشعر عن
النثر، في أنه أقدر عن التعبير الإنساني عندما يبلغ ذروة لا يستطيع النثر
التعبير عنه بحال من الأحوال، وبأن الشعر الفلسطيني كان له الصدارة في التعبير
عن القضية، قضية الأرض، والقدس، والإنسان ، ومعظمها قضايا إنسانية وعقدية، تهم
جميع المسلمين، ثمّ يكشف عن النوايا الحقيقية من قيام ( دولة إسرائيل ) واختيار
هذه المنطقة دون غيرها، هذا مع عدم إغفالنا أن هذا الموضوع مازال بكراً، لم
يتناوله الأدباء بالنقد والتحليل، وخاصة شعر شعراء المثلث والجليل ( )، حتى وإن
عالجه البعض، فإن أحداً من الباحثين المعاصرين – فيما نعلم – لم يخصص بحثاً
قائماً بذاته، يتناول القضايا التي عالجناها في هذا البحث، ورغم تقديرنا لكل
جهد طيب خلاّق، قام به البعض حول شعر التفعيلة بشكل عام، فإن دراساتهم كانت
جزئية، ترتكز على فرضيات وأسس بنائية لما يجب أن يكون عليه شعر التفعيلة، ومن
هذه الدراسات نخص الشاعرة والناقدة " نازك الملائكة " في كتابها " قضايا الشعر
المعاصر "، وكذلك كتاب الدكتور : " محمد النويهي " قضية الشعر الجديد، فقد
اهتمت هاتين الدراستين ببنائية شعر التفعيلة، وما يجب أن تكون عليه القصيدة،
إضافة إلى إثارتهما لبعض المعارك الجانبية حول العديد من القضايا فيما
بينهما.لكنهما وضعا أسساً مازال النقاد يهتدون ببعضها، وهناك كتاب للدكتور "
السعيد الورقي " " لغة الشعر العربي الحديث " وكتاب: " حركة الحداثة في الشعر
العربي المعاصر " للدكتور " كمال خير بك " حيث يتناول الشعر اللبناني بصورة
خاصة، ثمّ دراسة للدكتور " علي زايد "، بعنوان " بناء القصيدة ".
ولقد أحسسنا إحساساً قوياً بقصور الدراسات النقدية المعاصرة حول الشعر
التفعيلة، لا تتناسب مع الكم والكيف لهذا الشعر، خاصة عند دراستنا للماجستير "
الصورة الفنية في شعر فدوى طوقان وأثر الوجدان الإسلامي فيها " مما دفعنا بقوة
إلى الدراسة في هذا الاتجاه، علّها تقدّم جديداً، ورغم ما بذلناه من جهد في هذا
الميدان، جعلنا نقتنع أكثر، بأن المعاصرة تحتاج إلى دراسات عميقة ومتخصصة، فقد
مهّدنا لعلاقات مع معظم الشعراء الفلسطينيين داخل فلسطين كاملة، وخارجها،
والاقتراب منهم كثيراً، فأثمرت عن ثلاثة كتب ساهموا بشكل كبير في صقل أفكاري،
هما : إضاءات في الشعر الفلسطيني المعاصر من جزأين في عامي 1996-1997، ودراسة
أخرى جاهزة للطباعة، إضافة إلى رسالة الماجستير، التي تم طباعتها، وتحويلها إلى
كتاب.
وفي تقديرنا المتواضع أن دراسة هذا الموضوع من جوانبه المختلفة، لا تتم إلا
بتسليط الضوء على ثلاثة محاور أساسية، أولها : التراث، باعتباره المادة التي من
خلالها يستطيع الباحث الدخول إلى العالم الآخر للشاعر، وثانيها: البناء الفنـي،
باعتباره نتاجاً طبيعياً لتأثير الواقع، ومعايشته لروح العصر، ونسيجاً بنائياً
موحّداً مع القصيدة العربية من ناحية، واستقلالية من ناحية أخرى، ثمّ هل كان
للتراث أثر في بنية القصيدة الفلسطينية؟ وثالثهما : الموسيقى، التي تعكس الحالة
النفسية للشاعر، باعتبارها المدخل الأول والوحيد لعلاقة النص وقائله بالعاطفة،
ثمّ بالبيئة، ومدى تأثير ذلك على اللغة، فكانت الدراسة.
وإذا كانت مرحلة القلق التي تساور كل باحث، قد أخذت منا مأخذها، فإنها كانت
الحافز على تخطى حواجز النفس، خاصة بعدما تجمّعت المادة الشعرية، وبدأت رحلة
المواجهة بعونٍ من الله، فوجدت الموضوع الذي اخترناه قد حظي من ذوي الاختصاص
بتأييدٍ، وخاصة لجنة التقويم الشامل في جامعة القرآن الكريم بالسودان، فالموضوع
شامل، والمادة الشعرية عصرية وخصبة، والشعراء مازالوا معنا، ثمّ شعرت بغبطة
شديدة من اللجنة، ليقينهم بأن مثل هذه الدراسات مازالت محدودة، بل وقاصرة،
فكانت الانطلاقة نحو البداية ، وقد حددنا المنهج الذي سلكناه في هذه الدراسة،
من أجل وضع الأبواب والفصول متجانسة معه، فكان المنهج الوصفي التحليلي النقدي،
ولم أغفل أحياناً عن المعياري، ورغم يقيننا بأن هذا المنهج يحتاج إلى جهد كبير،
فقد وجدنا فيه ضالتنا مع أستاذنا، الذي ساهم بقسط وافرٍ في بلورة الكثير من
الأفكار، وتلاقيها أحياناً، إضافة إلى ما ساهمت به المصادر والمراجع من صقل
لموهبتنا، وبناء منهجنا، فكان هذا المنهج الأقرب إلى بناء هيكل الخطة بصورتها
الحالية.
وقد كان لتقسيم الدراسة إلى أبواب وفصول، أثر في تقصي وترتيب الأوراق الخاصة
بكل باب وفصل، ولكن نعترف هنا، بأن أصعب ما واجهنا تمثّل في الباب الأول (
روافد الشعر الفلسطيني ) لأنه وضعنا بين أكثر من مائة ديوان لتحديد الروافد،
ومن هنا، فإن هذه الدراسة في إطارها العام، خططت لها من مقدمة وتمهيد، وثلاثة
أبواب رئيسة، وخاتمة، ونتائج، وملاحق.
(1)
يهتم التمهيد، بعرض سريع للقضايا المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ويحاول الاقتراب
أكثر من الحياة السياسية التي أسهمت بشكل كبير في خلق تفاعل مع الحياة الأدبية
بصورة عامة، والشعرية منها بالذات، منذ نهايات القرن الثامن عشر، وصولاً إلى
هذا العصر، مع تسليط الضوء بصورة أكبر على الفترة التي بدأ استيطان اليهود
لفلسطين، ليبدأ معه الصراع الحقيقي على أرض الواقع، وكان أبرز ما حدث هو قرار
التقسيم بتاريخ 2/5/1948، الذي قسّم الأرض إلى ثلاثة أقسام، والشعب الواحد إلى
أقسام متعددة، مع عدم إغفال الوعد المشؤوم عام 1917، فكان لهذين القرارين أثر
بالغ في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن الطبيعي أن يكون الشعر
من أكثر الآداب تأثراً بما يحدث في البيئة، وبرز هذا جلياً وواضحاً في البنية
الفنية والموضوعية للشعر الفلسطيني المعاصر، خاصة عندما برزت أطماع الاحتلال
التوسعية على الأرض بعد حرب 1967، وما تبعها من معاناة على كافة الصُّعد، مع
عدم إغفالنا لمجريات الأحداث التي حدثت للثورة الفلسطينية في مناطق الشتات
العربي، عمّان، ولبنان، والسودان، وتونس، واليمن، خاصة بعد الغزو الإسرائيلي
لجنوب لبنان عام 1982، وقد واكب هذا أدباً له خاصيته، وشعراً له استقلاليته.
(2)
ننتقل من العام الذي تمثّل في التمهيد، إلى الخاص، المتمثل في الباب الأول "
روافد الشعر الفلسطيني " وقُسّم إلى فصلين استدعتهما الدراسة في دواوين
الشعراء، ومجموعاتهم الشعرية المختلفة، الفصل الأول : ( الرافد التراثي )
والفصل الثاني: ( الرافد الواقعي ) ولا أظن لإنسان أن يغفل الصلة الأكيدة بين
هذين الفصلين، وهما بجزئياتهما يمثلان ركائز مهمّة للشاعر والمتلقي على السواء.
الفصل الأول : ( الرافد التراثي ) مهدنا له بتوطئة واجبة، تلمسنا من خلالها
معنى التراث باعتبار أن الشاعر نفسه يمثل هذا التراث، لكونه ينقل إلينا بأمانة
وصدق، صور الواقع، مع إبراز عدم حاجة الشاعر العربي إلى التراث الغربي كمنهج،
أو مرتكز، بل كلون من الثقافة العامة، يمكن أن يثري بها مادته الشعرية، وقد
أبرزنا الأسباب التي دعت الشعراء الفلسطينيين إلى ارتباطهم بالتراث ارتباطاً
عضوياً، في العديد من قصائدهم، تصريحاً كان أم تلميحاً، لأنه يخصّب النص فكراً
ومضمونا، ومن هنا جاء تقسيم الفصل إلى قسمين : ( القسم الأول : الموروث الثقافي
)، وتناولنا من خلاله ثلاثة موروثات: الأول : الموروث الديني، أو العَقَدي، حيث
كشفت الصفحات الثورة الحقيقية للأنبياء الذين ثاروا على الظلم والفساد، وكيف
ربطها الشعراء الفلسطينيون بكينونة الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي، والثاني:
( الموروث التاريخي ) وارتكز على قاعدتين هما :أ- إبراز الأبطال التاريخيين،
والمعارك التاريخية: واستلهام العِبر منها، وكيف استطاع الشعراء توظيفها لخدمة
قضايا وطنية وإنسانية . ب: – المدن التاريخية: وذلك لتحفز الشعب الفلسطيني على
مواصلة الثورة والمقاومة، وقد فرض كل ذلك الوقوف والإطالة عند العديد من
القضايا لخدمة الفكرة والغرض، والثالث :( الموروث الأسطوري ) باعتباره قالباً
رمزياً يمكن فيه ردّ الشخصيات والأحداث الوهمية إلى شخصيات وأحداث تتناسب مع
معطيات العصر.
أما ( القسم الثاني : الموروث الحضاري ) حيث أبرزنا ما قامت به القصيدة من تحدٍ
لكل المحاولات الإسرائيلية لطمس الحضارة الكنعانية والإسلامية، باعتبارهما من
أقدم الحضارات في فلسطين، وتمثل حديثاً بإحراق جزء من المسجد الأقصى، وهدم
المساجد، ودور العبادة، وطمس كل ما يمت إلى الإسلام من معالم، لترسيخ المبدأ
الذي قامت عليه الصهيونية العالمية من اعتبار أن فلسطين هي أرض الميعاد، وأن
لهم فيها تراثاً، علماً بأن "موسى " عليه السلام، لم تطأ قدماه أرض فلسطين،
فعمل الشاعر على استثمار هذه المحاولات، للمحافظة على الهوية الحضارية للوطن،
وإبراز الوجه القبيح الذي تتعامل به الحكومات الإسرائيلية مع الشعب والأرض على
السواء، فيحوّل النص إلى إضاءات فكرية وفنية قائمة على اليومي والمألوف.
أما الفصل الثاني : ( الرافد الواقعي ) فقد مهدّنا له أيضاً بتوطئة واجبة،
تناولنا فيها العديد من القضايا التي تمس الوجود الفلسطيني، ويطمح هذا الرافد
بأن يؤصّل لرحلة شعرية ترتكز على ثلاثة مرتكزات، 1- الحس الوطني، ويتناول
الموضوعات التالية : أ - المقاومة بالكلمة ب- المعاناة بأنواعها – ج –
الانتفاضة، واستندتْ كل جزئية إلى الواقع الفلسطيني المعاش، فالمقاومة بالكلمة،
باعتبارها صورة متجددة، تبرز في القصيدة بصورة خاصة، من حثّها على الجهاد
والمقاومة والتحدي وعدم الاستسلام، أما المعاناة، فقد تناولتْ قضايا عديدة منها
( مصادرة الأراضي، والاعتقال، والنفي، والشهادة ) أما الانتفاضة، فقد ركّزنا
على عنصرين أساسين هما ( الحجر والطفل )، وكل ذلك معزز بنماذج شعرية تتناسب مع
كل مرتكز، وأخيراً استنطقنا العديد من النتائج العامة حول هذا الفصل كغيره من
الفصول.
2 - الحس الإنساني، مهّدنا له بتوطئة واجبة، استندنا من خلالها إلى معنى
الإنسانية، واضعاً نصب عينيّ القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة،
والصحابة، مقارنة بالقوانين الوضعية الحالية، ويستند هذا الحس إلى ( أ- الحرية
بمفهومها العام. ب - الحرية الفكرية. ج – الحرية السياسية والعقدية ) وأبرزنا
صور السلوك اللاإنساني الذي كان يمارس على الشعب الفلسطيني من خلال المعطيات
السابقة، وتعضيد هذا بالعديد من القصائد الشعرية، ثمّ خلصنا إلى نتائج عامة
حول هذه الجزئية.
3 – القضايا الاجتماعية، وارتكز على مرتكزين أساسين برزا في الشعر الفلسطيني
منذ النكبة، وصولاً إلى العصر الحديث، وهما ( أ –– الخيام . ب - الفقر ) على
اعتبار أن هذين المرتكزين كانا الأكثر ظاهرة في دواوين الشعراء، ومن الطبيعي أن
يسلط الشعراء عليهما دون غيرهما، نظراً لطبيعة المرحلة والحدث، وخلص إلى بعض
النتائج.
(3)
أما الباب الثاني :" البنية الفنية اللغوية للشعر الفلسطيني المعاصر " بُني
من ثلاثة فصول: (البنية الفنية للقصيدة) و (البنية الرمزية للقصيدة) و (الصورة
الفنية للقصيدة ) .
ففي الفصل الأول : ( البنية الفنية للقصيدة ) قدّمنا له بتوطئة موجزة لبعض
المفاهيم حول القيمة الحقيقية للغة، من خلال قدرتها على تفجير طاقات إبداعية
خلاّقة، قائمة على ما يختزنه الفكر، وما تتطلبه التجربة الشعرية من بنى فنية
للصورة الفنية التي يجب أن تُبنى عليها القصيدة، باعتبار أن الصورة الشعرية
الجيدة، هي القادرة على خلق تفاعل بنّاء داخل النص من خلال الفكرة والأسلوب،
ومدى قدرتها على نقل التجربة بأسلوب يجمع من خلاله إبداع الشاعر، وإبداع اللغة
في آن واحد، ثم انتقلنا إلى أنواع مختلفة لبنية القصيدة في الشعر الفلسطيني
المعاصر استلهمناها من الدواوين الشعرية، وهي ( أ - البنية اللغوية السردية ب-
البنية اللغوية الحوارية ج- الترسّل ( ) الشعري ) واقفين على دور العاطفة في
هذا البناء، باعتبارها العامل المساعد في خلق تفاعلات داخل النص، فالبناء
السردي، أبرز العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعاني
منها الشعب الفلسطيني، عن طريق تتبع الأحداث بغوصه في الماضي، وصولاً إلى هذا
الزمن، معتمداً على عناصر الرواية الأساسية، باعتباره الناطق الرسمي باسم الشعب
الفلسطيني، مبرزاً القيمة الحقيقية لهذا البناء الفني، وطبيعة التجربة التي
تفرض على الشاعر هذا الشكل، هذا وقد أفرد العديد من الشعراء دواوين خاصة لهذا
النوع، كونه يرصد لحقب متوالية من صور الصراع العربي الإسرائيلي، مع اتسامها
بالدقة والموضوعية، والنقل المباشر، باستخدام لغة ناهضة وناطقة، معتمداً على
إرهاصات الزمن، وتلاحق الأحداث وتشابهها في كثير من الأحيان، في تسلسل فكري لا
يبعد القارئ أو المتلقي عن هذا المحيط، ويبقيه في حالة من الترقب والاهتمام .
أما البناء الحواري، فرأينا أنه يعتمد على الشخصيات الناطقة، أو المتفاعلة،
فظهر في النص العديد من الشخصيات التي ترافق الأحداث، ومن خلالها يبني الشاعر
معطيات الفكرة، وأسلوب الحوار، مانحاً لكل شخصية لغته الخاصة به، فاستطاع
الشاعر بذلك، أن يوظف تكنيكات الرواية، سواء كانت مستمدة من بناء قصصي، أم
مسرحي، وفتحَ من خلالها آفاقاً جديدة في البناء اللغوي، والمضمون أيضاً، كونه
يتعامل مع أكثر من شخصية داخل النص الشعري. ثم انتقلنا إلى الصورة الأكثر
شيوعاً في دواوين الشعراء الفلسطينيين، وهي البنية اللغوية لقصيدة الترسل،
ونظراً لقيمتها الفنية والموضوعية، فقد مهدّنا لها بتوطئة واجبة، على اعتبار أن
الشاعر لا يكتب في فراغ، وما هذا اللون من الشعر سوى امتداد طبيعي لمنهجية سار
عليها الأدباء منذ زمن بعيد، وهنا استعارت القصيدة فكرة الرسالة، دون البناء،
ولكن الأهم الذي أبرزناه في هذا المجال، لا يكمن في العديد من الرسائل التي
وقفنا عليها تمثيلاً، وتحديداً، بل في الرد على هذه القصائد عند الشعراء
المرسلة إليهم، وقد أبرزنا من خلال هذا اللون حقيقة مهمة، تكمن في أن الشعر
محكوم بالاتجاه الدائري، بعكس الكتابة النثرية المحكومة بالاتجاه الطولي، وهنا
يبرز الفرق بين الرسالة كونها قطعة نثرية، وبين كونها لغة شعرية، إضافة إلى أن
هناك عناصر متعددة تساهم إلى جانب الإيقاع الكمي في تشكيل إيقاع القصيدة العام،
مثل التكرار الصوتي واللفظي، والتلوين الأسلوبي للجمل، وهذا يسوقنا إلى أن هذا
اللون من البناء الفني يختزن الكثير من الإمكانات الإيقاعية، التي يمكنها أن
تتفجر إذا وجدت الطاقة الإبداعية الضرورية، بحيث تشكّل كل رسالة سؤالاً وجواباً
ما، على سؤال سابق، وهذا ما يمنحها إيقاعاً خاصاً قلّما نجده في الأجناس
النثرية الأخرى، مع التركيز على أن معظم الرسائل من هذا الشكل تبدو حوارية،
وتَبَيّن لنا من خلال وقفتنا على هذا البناء الفني للقصيدة، لغة وأسلوباً، أن
معظم القصائد حاكت الوطن والأرض، حتى في الرسائل التي تبدو وجدانية، فإنها
تمحورت حول هذين المرتكزين، ثمّ خلصنا إلى العديد من النتائج العامة حول هذا
البناء الفني.
أما الفصل الثاني : ( البنية الرمزية في الشعر الفلسطيني المعاصر ) على اعتبار
أن الرمز طريقة في الأداء، يعتمد اعتماداً كليّاً على الإيحاء بالأفكار
والمشاعر، وإثارتها بدلاً من تقريرها، فمهدنا لهذا الفصل بتوطئة واجبة، واقفاً
على بدايات الرمزية في العالم، وكيف وصلت إلى الشرق عن طريق لبنان، وتحديداً
الشاعر " أديب مظهر " ثمّ التعريفات المختلفة لها، وصولاً إلى الرمزية في الشعر
الفلسطيني، وكيف أصبح عند البعض منهجاً في البناء الفني للقصيدة، وتم تقسيم
البناء الرمزي إلى ثلاث ركائز أساسية استقرأناها من النصوص، وهي أ- رمزية
العنوان ب- رمزية الألفاظ ج- رمزية النص ، مقررين حقيقة هامة، وهي أن الشعراء
الفلسطينيين، لم يرمّزوا بالألفاظ خوفاً من رقيب، وإنما كان تطوراً داخلياً
لبنية القصيدة، ومواكبة لروح العصر، هذا، فبالإضافة إلى أن الرمزية كلغة من
داخلها، بقدر ما يكتنز الرمز من معاني ودلالات، تظهر إبداع الشاعر، وقدرته على
تمكنّه من اللغة بصورة جيدة، ثمّ خلصنا إلى نتائج هامة حول الرمزية.
أما الفصل الثالث : – من هذا البناء الفني الذي ارتكز على – ( الصورة الفنية)
فمن خلاله، نكون قد وقفنا مع الفصلين السابقين على جوهر التعبير الشعري، بل
والفني بشكل عام، لكون الشعر صورة نفسية، والنص صورة مركبة من صور جزئية، وهذا
بدوره يصنع البناء. ودراسة الصورة في هذا المقام، تعني الدراسة في أداة الشاعر،
ومقدرته الفنية، وتتمحور الصورة عند معظم الشعراء الفلسطينيين كغيرهم من
الشعراء العرب، حول تجميع جزئيات، تحاول أن تجعل منها كُلاًّ متماسكاً، فالصورة
بشكلها العام في الشعر الفلسطيني مرتبطة بالإطار العام للشعر العربي، كون هذا
الشعر - كما قلنا - رافداً أساسياً من روافد الشعر العربي، ولكي تتضح ملامح
الصورة جيداً قمنا بتقسيم هذا البناء الفني والموضوعي إلى قسمين: الأول :
يمثلهم شعراء المثلث والجليل: وأبرزنا دور الصورة في خلق تفاعل بنّاء داخل النص
باعتبارها إحدى وسائل الإيحاء بالأفكار والمشاعر، وكيف عَكَسَ هذا البناء طبيعة
الحياة التي عاشها الشعراء، مع سيطرة الموضوعات الوطنية والإنسانية على
موضوعاته، ثمّ وازنا بينهم وبين القسم الثاني: وهم شعراء ولايتي بيت المقدس
وغزة : الذين انصرفوا في بنائية الصورة إلى موضوعات لا نقول باختلافها، بقدر ما
نقول بأن هناك فارقاً واضحاً في عرض أسلوب المعاناة التي عاناها كل منهما، وإن
اعتبرنا أن المعاناة التي عاناها شعراء المثلث والجليل، كانت مضاعفة، لأنهم
يعيشون غرباء على أرضهم ، وهذا لا يقلل من القيمة الموضوعية للصورة لدى الشعراء
الآخرين، باعتبار أن معظمهم يعكسون صورة المعاناة، وكل له بنائيته الخاصة.
(4)
أمّا نهاية المطاف في أبواب هذه الدراسة، فهو الباب الثالث ( الموسيقى الشعرية
) حيث انتقلنا به إلى الحديث عن بناء فني آخر للقصيدة، باعتبارها من أبرز صفات
الشعر، وعنصر أساسي من عناصر بنائه، فقدمنا له بتوطئة للوقوف على معنى الموسيقى
قديماً وحديثاً، وملامح التجديد فيها، وانقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول : الفصل
الأول :(أهمية الموسيقى وأشكالها في الشعر) حيث اعتمد بعد التوطئة الواجبة، على
دور الموسيقى في الشعر بصفة عامة، والعلاقة بينها وبين العاطفة، ودورها في
الوحدة العضوية، مع تطور البناء الموسيقي منذ العصر الجاهلي، وصولاً إلى
المعاصرة، ثمّ أبرزنا دور الجماعات الأدبية التي ظهرت في الوطن العربي،
ومساهمتها بدور ما في تطور البنية الموسيقية في الشعر العربي، ونقلنا هذا إلى
الأشكال الموسيقية في الشعر، ونقصد به الشعر المكوّن من شطرين، وهو الشعر الذي
سار عليه الشعراء حقباً متوالية، مع إبراز ما لحقه من تجديدات إيقاعية، ثم
انتقلنا إلى الموشحات الأندلسية، باعتبارها الصورة الأبرز في الأشكال الشعرية،
ثمّ إلى الأشكال التجريبية، وهي المحاولات التي قام بها الشعراء ببنائيات
مختلفة عما ألفه الناس، ورغم كونها محاولات في الاتجاه الصحيح، فإن معظم
المحاولات لم يُكتب لها النجاح، لكونها لم تلق استجابة من الشعراء، ولكن آثرنا
أن نبرز هذه المحاولات، لكونها كانت النواة التي ارتكز عليها الشعراء في هذا
العصر، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى السطر الشعري، الذي يعتمد على الوحدات الإيقاعية
كأساس له، فالقصيدة لم تعد أبياتاً تتوالى من الداخل، تخرج إلى عالم الواقع
لتمتزج به، فتكون تجربة آلاف البشر، وإنما اكتفتْ بالتفاعيل التي أصبحت تمثل
دفقات متوالية، منتظمة أحياناً، وغير منتظمة في معظم الأحايين، لتتناسب مع
التجربة والحالة النفسية، وخلصنا إلى نتائج تتعلق بالبناء الموسيقي في الشكل
والمضمون، مع إبراز أن هناك عيوباً لحقت هذا البناء الموسيقي، أوردنا العديد
منها، ولكن أبرز ما في هذا اللون هو دخول كثير من أدعياء الشعر فيه، وإغراقه في
الرمزية.
أما الفصل الثاني (أسس البناء الموسيقي في الشعر الفلسطيني المعاصر) فقدمنا له
بتوطئة تبرز ارتباط الشعر الفلسطيني بالعربي، وارتباط الفلسطينيين بعضهم البعض،
معتبرين أن هذه الأسس مرحلة من مراحل التجديد في الشكل والمضمون، وتم تقسيم هذا
الفصل إلى ثلاثة ركائز أساسية تتعلق معظمها بالإيقاع وهي : أ- التفاعيل
والقوافي المتوالية : وقصدنا به التفاعيل المنتظمة في القصيدة، وغير المنتظمة،
تبعاً للدفقات الشعورية، لكن ترتكز على قافية موحدة، كأساس بنيوي، مبرزاً
الأسباب التي دعت الشاعر لهذا اللون من البناء، والموضوعات التي تناولوها، على
اعتبار أنَّ الحرية التي يمتلكها الشاعر في هذا البناء، جعلته أكثر انطلاقاً في
تبني الصورة التي يمكن أن تكون عليها القصيدة، وكأنه أراد أن يربط بين المعاصرة
والتراث في هذا البناء، ولكن بصورة مختلفة، ورأينا بأن هذا لون من الإبداع،
وليس خروجاً عن معنى كلمة ( حُر ) .
ب – التفاعيل والقوافي المتراوحة: وهي الأكثر شيوعاً في دواوين الشعراء من
البنائية السابقة، حيث اعتمد على المزج بين القافية الموحدة والحرّة في
القصيدة، بحيث يتحد كل سطرين بقافية، ثمّ ينتقل إلى أخرى، وهكذا حتى نهاية
القصيدة، باعتبار أن هذا اللون من البناء يعتمد على الترقب بما ستكون عليه
القافية، وهـذا يمنح النص جمالية جديدة، معتبرين ذلك جزءاً من التجديد البنيوي
في القصيدة.
ج – التفاعيل والقوافي الحرّة: وهو البناء الأغلب في هذا الشعر، حيث أبرزنا
اعتماد الشاعر على الوقفة الانفعالية، لينتقل إلى دفقة شعرية أخرى، وأبرزنا
الدوافع وراء هذا اللون من الشعر، وخلصنا إلى نتائج عامة حول هذا البناء، مع
الأخذ بعين الاعتبار، بأن هذا البناء ليس سدرة المنتهى للشعر المعاصر.
أما الفصل الثالث : من فصول هذه الرسالة: (مستويات البناء الموسيقي في الشعر
الفلسطيني المعاصر ) فقد ارتكز على توطئة ممهدة للفصل، باعتبار أن هذه
المستويات التي خلصنا إليها، جزء متمم للكل في بنية القصيدة العربية بشكل عام،
ولهذا لم تخرجنا هذه المستويات عن إطارنا المعاصر، لنقف على ثلاثة مستويات: أ-
المستوى السطري: ونقصد به اعتماد الشاعر على السطر الشعري في أداء الفكرة
مضموناً، لكنه يبقى متصلاً عضوياً بما بعده من أسطر، وخلصنا إلى أن معظم
القصائد التي لها علاقة مباشرة بالأرض والشهداء يتمثل فيها هذا البناء، لكون
الشاعر لا يريد من المتلقي أن ينتظر طويلاً للوصول إلى ما يريد، وبالتالي يكتفي
بالسطر المؤدي للمعنى مباشرة، مع اعتماده على ما بعده فنيّاً.
ب- المستوى الجُملي : وهذا المستوى يحتاج من الشاعر إلى دفقات شعرية متتالية
لعرض الفكرة، فأحياناً تصل الجملة الشعرية إلى أكثر من سطر، وأحياناً تصل إلى
نهاية القصيدة، وهذا يعتمد على قدرات الشاعر المعجمية، ومدى تأثير التجربة،
باعتبارها المحرّك لخفايا اللغة، وفي المقابل، فإن المتلقي يبقى على اتصال دائم
مع الفكرة، وصولاً إلى ما يريد الشاعر، وقد أبرزنا أن هذا لا يؤدي إلى نقص أو
تقليل من القيمة الموضوعية للنص، ولكن إذا اتصلت الجملة الشعرية ببعضها البعض
في سطر شعري واحد ليؤدي المعنى مباشرة، لا يمنح النص بُعداً فنياً، ولا
موضوعياً، وبالتالي تفقد القصيدة قيمتها، وأرجعنا السبب إلى أن الدفقة الشعرية
لا يمكنها أن تؤدي المعنى من خلال سطر واحد، نظراً لما تحمل الفكرة من إرهاصات
وتداعيات تفرضها التجربة والعاطفة.
ج – الجمع بين الموروث والتفعيلة: حيث أبرزنا الدوافع النفسية وراء هذا اللون
من الشعر، ويكمن في التوأمة الإبداعية بين الشعر الحر والكلاسيكي للتعبير عن
الفكرة، ولهذا لجأ الشاعر إلى هذا اللون، ونرى بأن هذا يمثل انعتاقاً من
الالتزام بصورة واحدة لشعر التفعيلة، فكما حدث تجديدات في الشعر المقفى على
مدار أكثر من ثمانية عشر قرناً، فيمكن أن تحدث تجديدات في هذا الشعر.
وخلص هذا الفصل إلى العديد من النتائج العامة التي تبرز الدوافع وراء استخدام
الشعراء لهذه المستويات الشعرية، لنصل إلى حقيقة هامة، وهي أن الشكل الجديد أو
الأشكال الجديدة تمثل تجديداً داخل بنية القصيدة، وهو جزء من الحرية التي يتمتع
بها الشاعر داخل النص الشعري.
(5)
وبعد هذا، وقفنا على الخاتمة باللغة العربية، لعرض ما جاء في هذه الرسالة،
رصداً للنتائج، وإبرازاً للمشاكل التي اعترضت سير الدراسة، والحلول التي
اقترحناها لبعض المشاكل من أجل زيادة الدراسات الأدبية المعاصرة، وكان من
أهمها، مطالبة الجامعات العربية، وخاصة قسم اللغة العربية وآدابها في أي جامعة
عربية، بِحَثِّ طلاب الدراسات العليا على دراسة الشعر المعاصر، لأنه السبيل
الوحيد لظهور دراسات أدبية جادة، ولسد الفراغ في المكتبة العربية.
ثمّ عرضتْ الخاتمة ملخصاً لفحوى الرسالة، وأخيراً ألحقنا خاتمة باللغة
الإنجليزية، وملحقاً لجزء من قصيدة كمثال على" مجزوء الطويل" لأحد الشعراء
الفلسطينيين، إضافة إلى البحرين الشعريين الجديدين، اللذين استنبطهما الشاعر
الفلسطيني " محمود مرعي " وتخريجاته، ثمّ المصادر، فالمراجع، وأخيراً الفهرس.
(6)
هذه رحلتي مع الشعر الفلسطيني المعاصر، ومع شعراء فلسطين، ومن خلالهم بعض
الشعراء العرب، ولا أنكر استمتاعي بهذه الرحلة، لكوني أبحرت، وغصت في مياهٍ
صافية رغم عمقها، للوقوف على رافدٍ يضاف إلى مناهل الأدب والفكر والنقد، هكذا
أظن، وطاولت عنان السماء، كلما حصلت على ديوان، أو اتصلت بشاعرٍ، أو وصلتني
رسالة من شاعر أو أديب عن طريق الناسوخ، وإذا كنت قد حاولت وتلمست هذا الطريق،
فقد ظننت نفسي قد أحطت، إلا أن الإحاطة تبقى لله في كل أمر وشأن " وفوق كل ذي
علمٍ عليم ".
ولكنني أتمنى مخلصاً أن أكون قد أسهمت ولو بالنذر اليسير، من خلال ما قدّمت
وعرضت وحللت وناقشت وأثبت، ففتحت بهذا صفحات مغلقة، ودواوين مطوية، ووقفت على
شعراء وشاعرات أضافوا جديداً في للشعر والنقد، ولا أزعم هنا بأنني قدّمت
الأفضل، إلا أنني – وأرجو ذلك – أن أكون قد أضفت بعض الحقائق، والتفسيرات،
فحاولت أن أبيّن غامضاً، وأفصل مبهماً، وأفتح آفاقا جديدة، وأظنني قد جئت
بجديد، واقتربت من اللغة اقتراب الشخوص إلى ظلالها، فإن أكن وفقت أو قاربت ،
فهذا ما أتمناه، وإلا فحسبي أني اجتهدت، ولم أدّخر وسعاً للوصول إلى هدفي، وها
أنا بين يدي الأعلام من الأدب والفكر والنقد والثقافة، بين يدي أساتذة أجلاّء
علني من خلالهم وبهم ومنهم، أسترشد بما غفلت عنه عيني، ولم يصل إليه فكري، ولم
يحط به علمي، فأنساني الشيطان ذكره .
وأخيراً : إن كان من شكرٍ، فلله أولاً وأخيراً، على ما منحني من صبرٍ وأناة
لطلب العلم، وإلى أستاذي المشرف الدكتور / عبد الله بريمه فضل، لسعة صدره،
ورحابة أفقه، وإلى الأستاذين الفاضلين الدكتور/ ..
والدكتور / اللذين وافقا على مناقشة البحث مشاركة مع
الأستاذ المشرف، وكل من ساهم معي قريباً كان أو بعيداً، وأخص هنا الدكتور/غصوب
خميس غصوب، رئيس توجيه اللغة العربية ( سابقاً ) بدولة قطر، وكل من لهم الفضل
عليّ في هذه الدراسة، جزاهم الله عني وعن العلم الجزاء الأوفى، والله من وراء
القصد.
24من رمضان 1420هـ
الموافق 1-1-2000م
التمهيد
لم يأخذ الشعر مأخذه من الشعراء بصفة عامة، مثلما أخذ من الشعراء الفلسطينيين
بصفة خاصة، ولم يتأثر الشعراء العرب بقضية ما في العالم العربي والإسلامي،
مثلما حظيت القضية الفلسطينية، لأسباب دينية، وتاريخية، وحضارية، وتراثية،
وإنسانية، ووطنية، ومن هذه الركائز الأساسية، تفتحت أمام الشعراء الفلسطينيين
أفاقاً جديدة، خاصة عندما يتعمّق الجرح الفلسطيني، ثمّ اتسعت دائرة المعاناة من
كونها تتعلق بمساحة قدرها 28 ألف كيلو متر مربع، لتشمل مساحة الوطن العربي
بأكمله، بل وحتى العالم بأسره، فقد تحوّلت القضية من كونها تتعلق بأرض وشعب،
إلى قضية تتعلق بالإنسانية عامة، وهذا هو أحد أسباب ديمومتها.
لهذا، فقد ساهم الشعر الفلسطيني بدورٍ مهمٍ في خلق تفاعل بنّاء مع كل القضايا
التي تمس كيان الفلسطيني منذ أمدٍ بعيد، فمع نهايات القرن الثامن عشر، بدأ
الشعر الفلسطيني يشق طريقه، ويحتل مكانه، جنباً إلى جنبٍ مع الشعر العربي،
ويتفاعل مع التطورات البنيوية في الشكل والمضمون، ومع الجماعات الأدبية،
والاتجاهات المختلفة، ويسجّل كل ما يحدث على الأرض الفلسطينية، حفاظاً على
التاريخ، والأرض، والتراث، من التزييف والضياع، ففتح بالكلمة آفاقاً جديدة لم
يعهدها الشعر العربي من قبل، وصولاً إلى المرحلة الحالية من مراحل الشعر
العربي، والشعر الفلسطيني، فكانت مدرسة الشعر الجديد ( التفعيلة ) بداية لبنية
جديدة في المضمون والشكل، أخذت شكل ظاهرة منذ منتصف الأربعينيات، وأخذ الشعراء
في جميع أنحاء الوطن العربي على عاتقهم هذا البناء الجديد، وانتشر في الساحة
الأدبية والفكرية انتشاراً واسعاً، وتنوعت من خلاله موضوعات لم نعهدها من قبل،
فخلق تفاعلاً أكثر تأثيراً مع المتلقي، ثمّ تنوّع البناء بصورة تكاد تكون
مختلفة عن البناء الذي عهدناه لأكثر من خمسة عشر قرناً، وحري بالشعراء
الفلسطينيين أن يتأثروا به لكونهم وجدوا فيه ما يحقق لهم نوازعهم النفسية،
ويلبي لهم رغائبهم، سواء كانت وطنية أم قومية أم إنسانية.
وقد كان للهجمة التي حدثت على الأراضي الفلسطينية مع بداية القرن السابق،
وصولاً للاحتلال البريطاني، أثر كبير على مظاهر الحياة بصورة عامة، فكان الشعر
أكثر تأثراً بهذا، فتناول الشعراء معظم القضايا والموضوعات التي تعكس صورة
الواقع بكل سلبياته، وإيجابياته إن وجدت، فأصبح الشعر سجلاً صادقاً يعكس صورة
البيئة، ويخلق تفاعلاً مع الحياة، وقد ساهم الشعراء بهذا التفاعل لدورهم الأكثر
تمايزاً، حيث كانت الفترة الواقعة منذ الوعد المشؤوم عام 1917 وحتى التقسيم عام
1948 الأخصب من حيث العطاء الشعري بالشكل الذي ألفه الجميع، وقد كان أعظم مما
قام به الشعراء آنذاك، هو فضح الأساليب القمعية واللاإنسانية التي كانت تُمارس
على أبناء الوطن، فكانوا الشاهد الوحيد على أساليب الاستعمار الإنجليزي،
واليهودي.
وعندما تم منح الأرض لليهود، بدأ الصراع يأخذ شكلاً مختلفاً عما عهدناه، فقد
كان الإنجليز على يقين بأنهم راحلون، لهذا لم يحاولوا أن يخلقوا تفاعلاً بينهم
وبين الفلسطينيين، واتسم بكثير من السلبيات على كافة الصعد، وفي شتى المجالات،
إلى أن جاء الاستعمار الصهيوني، الذي يختلف كل الاختلاف عن كل المستعمرين في
الأرض، فقد جاء إلى فلسطين لا ليحتل بعد حرب ثمّ يرحل، بل ليستوطن، ويرسخ
وجوده، ويزيّف التاريخ والحضارات، معتبراً أن فلسطين هي أرض الميعاد، ولهذا عمل
على ترسيخ هذا المبدأ منذ اللحظة الأولى التي بدأت تطي أقدام المستوطنين اليهود
لأرض فلسطين، قادمين من دول عربية وأوربية. هذا وقد واجهوا في البداية مقاومة
من الفلسطينيين، وكان الشعر موازياً لهذه المرحلة، فأخذ شكلاً ومضموناً مختلفين
عمّا عهدناه من قبل، ثمّ تطوّر الشعر، وإن كان هذا تتمة للمرحلة السابقة فكراً
ومضموناً ، ولكن كان أخطر ما قامت به الصهيونية العالمية مع أبناء فلسطين
بمساعدة أممية ، هو تقسيم الشعب إلى قسمين، القسم الأول: الذي استوطنه اليهود
بقانون أممي ظالم ويضم ( منطقة المثلث والجليل، وجزء من القدس والساحل الشمالي
للبحر المتوسط من فلسطين) أما القسم الثاني فضم ( القدس الغربية، ونابلس
والخليل، ورام الله، وجنين، وطولكرم والقرى المحيطة بهم ) ونظراً لقربها من
الأردن، فقد أقرّ مؤتمر أريحا بتولي الحكومة الأردنية السيطرة القانونية عليها،
أما الجزء الساحلي الآخر، ( غزة وخان يونس ورفح والمعسكرات الوسطى ) فقد تولّت
الإدارة المصرية الإشراف عليه، وكل ذلك لأهداف جيوسياسية.
وهكذا تمّ تقسيم الشعب والأرض، وهُجّر العديد منهم إلى الدول المجاورة، وبقي
الفلسطينيون ينتظرون العودة إلى الوطن، ولكن حدثت هزة أخرى قضت على أحلامهم
وآمالهم، عندما حدثت حرب يونيو 1967، حيث تم احتلال كل فلسطين وأراضٍ عربيةٍ
مجاورةٍ لها، فألقت هذه الحرب الشعب في بئر مظلم لا قرار له.
واستطاع الشعر الفلسطيني أن يكون الصوت الوحيد في هذه الفترة، ليواجه هذه
الهجمة الإسرائيلية، فكان له الصولة والجولة في حث الشعب على الجهاد، ثمّ
أعقبها الكثير من الإرهاصات التي أثّرت في وجدان وفكر أبناء فلسطين دون
استثناء.
ورغم ما أحدثه تقسيم الشعب والشعراء إلى قسمين، بل إلى أقسام من تأثير سلبي من
ناحية، فإن عطاء الشعراء كان أكثر غزارة، وإبداعاً، وتنوّع في عرض
الموضوعات،ليتوازى فنياً وفكرياً مع المرحلة.
هذا، وقد حظي الشعر الفلسطيني بالعديد من الدراسات في مراحله المختلفة، وصولاً
إلى العصر الحديث، نظراً لِما له من خصوصية، وقيمة فنية ربما تكون متفردة إذا
قيس بالشعر العربي في نفس الفترة، ولكن الفترة الأكثر خصوبة لدراسات الأدباء
جاءت في مرحلة ما قبل الشعر " الحر " أو التفعيلة، ثمّ ظهرت بعض الدراسات
المعاصرة، تتعلق بشعر التفعيلة، لكنها لم تكن وافية أو مكتملة الأصول والبنيان
في معظمها، وإنما دراسات جزئية، تتعلق بقضية، أو موضوع، أو نحو ذلك، فاستوجب
عليّ القيام بهذه الدراسة، علّها تكون إضافة جديدة من خلال رؤية جديدة ومتجددة
في نفس الوقت.