دراسة أدبيية في الأدب الموريتاني
كتاب أهدي إليّ من سعادة السفير/ محمد الأمين السالم ولد الداه
سفير الجدمهورية الإسلامية الموريتانية
ثمرات الجنان في شعراء بني جاكان
عرض الدكتور/ يحيى زكريا الأغا
المستشار الثقافي
بسفارة دولة فلسطين/ قطر
كن ابن مَن شئت واكتسب أدباً يُغنيك محموده عن النسب
فكيف بالذي أهدى إلى هذا الكتاب، جامع للأدب والنسب، مدثّر بعلم وخلق، مصيب في الفهم، ودبلوماسي في العمل، بل وكيف مَن ألّف الكتاب يجمع من خصال العلماء والباحثين والمؤرخين ما يُتندر به في هذا الزمان، فجاء كتابه الجامع( ثمرات الجنان في شعراء بني جلكان) إضافة جديدة إلى المكتبة العربية الإسلامية، يقربنا إلى حقبة تاريخية أحسبها ويحسبها أي باحث مفقودة، أدباً، وتاريخاً، ونسباً، فالكاتب اعتمد على منهجية في البحث والاستقصاء ما جعلته ينفق سنوات طوال في لم شعث هذا الكتاب، وخاصة ما يتصل بالفصل الثاني منه، وأحسبه قد وفق إلى درجة كبيرة فيما توصّل إليه من جمع للمادة العلمية، وترتيبها بالنسق المتميز الذي وضعه لنفسه، رغم ما كابدته في قراءة الكتاب وخاصة الشعر، لصغر حجم خطّه، وكأنه أراد أن ينسب ذلك للمطبعة، حتى لا تُُسرف في عدد صفحات الكتاب التي وصلت إلى ( 710)، وأعتقد جازماً، بأن بين دفتي الكتاب ما يحمل القارئ على قراءة سطورة، وقصائده، والاسترشاد به في بنائية النص الشعري الأصيل الذي أصبح نادراً هذا الزمان، متجهين إلى ما يطلقون عليه شعراً.
صدق ما افتتح به التقديم بقوله" فإن علم التاريخ من أعظم العلوم نفعاً، إذ هو ثروة التاريخ الإسلامي، ولولا حفظه لضاعت الأنساب والأحساب، ولما تميّز غث من سمين، ولا عزيز من ذليل، ولا قوي من ضعيف..."
الكتاب كما أوردت يتألف من (710) سبعمائة وعشر صفحات من القطع الكبير، جمع كنوزاً عن تاريخ وشعراء قبائل ( لتمونة وفدالة، ومسوفة) وهم أساس دولتي المرابطين والملثمين، ليكشف المؤلف اللثام عنهم بحياء أهلها، مبرزاً شاعرية أدبائها، ومترجماً لأعلامها، ومدوناً لتاريخ قبيلتها، ومستقصياً عن نسب أهلها، إنه كما يمكن أن يستنتج أي قارئ، ومتبصر للكتاب، أن يكتشف مرحلة مضيئة من تاريخنا الإسلامي المشرق، كان مفقوداً، وترجمة لأعلام شعرائها وكتابها كانت منقوصة، فلم يمنع الكاتب إطالة البحث، وتدقيق النظر، والتأكد من الإسناد، من متابعة بحثه، لأنه يعلم أنه سيضيف جديداً، ويكشف عن صفحات مجهولة في الأدب، وأي أدب، بل ولم يضنه البحث والاستقصاء عن مواصلة مهمته الشاقة، وخاصة ما يتصل بتاريخ دخول الإسلام للصحراء، مع إثبات عروبة لمتونة، وذكر نماذج من جهادها، وانتصراتها، فصحح ذلات وقع فيها بعض المؤرخين، خاصة ما يتصل بعبد الله بن ياسين الذي سيأتي ذكره لاحقاً، وكذلك ما يتصل بشعرائها ونسبة الشعر لقائله، حتى استقام له هذا الإنجاز المتميز، الذي لا يدعي فيه الكمال، وإن حمل من وجهة نظري كمالاً لا يدانيه إلا كتاب يفوقه فكرة، ويعلوه موضوعاً.
ركب الشيخ / عبد العزيز بن الشيخ الجكي ، مؤلف الكتاب وواحد من قبائل صنهاجة الملثمين الصعب، ليصل إلى خاتمة الكتاب، بعد أن اختار لنفسه منهاجاً فريداً في البحث والاستقصاء، معتمداً على محاور ثلاثة، سيأتي ذكرها لاحقاً، ففتح صفحات من المجد التليد لموريتانيا الإسلامية، من خلال قبائل صنهاجة التي تنتسب إلى حمير.
وتقسيم الكتاب لفصلين، يُغري القارئ بدراسته بأناة وموضوعية، حيث تناول الكاتب في الفصل الأول القبائل الثلاث بمهاد تاريخي واجب ومتميز، ملقياً الضوء على تاريخ هذه القبائل، وموقعها الجغرافي، وكيف وصلت هذه القبائل إلى أفريقيا، وانتشار الإسلامم فيها، موضحاً أن هذه القبيلة قدمت من بلاد اليمن بعد سيل العرم، مبرزاً أصالة هذه القبيلة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: لماذا انبرى الباحث لكشف اللثام عن شعراء قبائل ( تجكانت) رغم علمه بأن المتوفر من معلومات لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال بعث بعض مَن في القبور وهذا من المستحيل، وبالتالي فسيضنيه فكراً، ويجعل عمله كما يقول "مقوصاً "؟ لكنه يجيب : بأن هذه القبائل وخاصة( لمتونة) التي تتألف من عشر قبائل، أسهمت بشكل كبير في بعث الحياة في الصحراء، وهي صاحبة السيادة والعمل الرائد في جميع المجالات.
ثم ينقلنا للفصل الثاني وهو الأوسع بما يتصل بشعراء هذه ( جاكان ) والتي يقول فيها الشاعر:
أبناء جاكان من سارت مآثرهم في الشرق والغرب سير الشمس في الأفق
شناشن من بني جاكان قد عرفت يهدي له طبق منه إلى طبق
وتصل بطونها إلى إثني عشر بطناً، وأكثر من 121 مائة وواحد وعشرون شاعراً، أسهموا مساهمة فعّالة في إثراء الحركة الشعرية، بموضوعات، وأغراض شعرية تعكس ارتباط الشعراء بأدب مرحلة الشعر الإسلامي، ومعظم القصائد تتميّز بقيمة فنية عالية، ولغة شعرية موحية، وانسجام تام بين اللفظ والمعنى، وبعد عن التكلف، بل وأغلب الموضوعات تنقلنا إلى العصر الإسلامي فكراً ومضموناً.
ولإلقاء الضوء بشكل أوسع فإن الفصل الأول يُفرد الكاتب له تسعاً وثمانين صفحة، تتصل جميعها بقبائل ( لمتونة وقدالة ومسوفة) والتي تنتمي إلى ( صنهاجة) التي بسطت سلطانها على الصحراء الكبرى، مبرزاً التصاق هذه القبائل بالصحراء، قروناً طويلة، وعدم خشيتهم من عدوٍ، بل وإقدامهم في المعارك دون وجلٍ، واختيارهم الموت على الانهزام، بل وأن التاريخ لم يذكر لهم فراراً من زحف، أو إدباراً من عدوٍ، بل إقبالاً، وصموداً، وكانوا قبائل بدوية ورحلاً لا يستقرون في وطن شأنهم شأن من يعتمد في حياته على الأنعام.
أما ماهية هذه القبائل الثلاث، فإن الكاتب يورد بإيجاز شامل مكانة كل قبيلة: فقبيلة لمتونة، كانت صاحبة السيادة والقيادة والعملالرائد في جميعالمجالات، حيث كوّن قادتها دولة إسلامية عظيمة ذات سيادة، وقبيلة( قدالة) كانت الساعد الأيمن لقبيلة لمتونة، ويكفيها فخراً أن منها أول أمير لدولة المرابطين هو يحيى بن إبراهيم الفدالي، وقبيلة ( مسوفة) كانت قد ساهمت هي الأخرى في تكوين الدولة. ويبرز الكاتب موطن هذه القبائل عبر الصحراء، وتنقلها في أنحاء مختلفة تبعاً لِما تفرضه الظروف المحيطة بالقبيلة، وكلما انتقلوا من مكان لأخر نشروا الدين الإسلامي، وتوسعوا في زراعة الأراضي التي كانت تغنيهم عن العوز، بل صدّروا إلى العديد من الدول المجاورة ومنها السودان، معتمدين في جميع تنقلاتهم على بهائم الأنعام، فمنها ركوبهم، ومنها يأكلون، ولهم فيها مآرب أخرى، ومنافع كثيرة.
وذكر الكاتب أن الرياسة كانت لقبيلة لمتونة، التي أنجبت الزعيم المغربي الكبير ( يوسف بن تشافين).
وقد أبرز الكاتب أن هذه القبائل كانت تعتبر اللثام سنة يتوارثونه خلفاً عن سلف لأسباب:
- أن الخاصة كانوا يتلثمون لشدة الحر والبرد، وقلدهم العامة.
- أن قوماً من أعدائهم كانوا يقصدونهم وترصدون غفلتهم عند غيابهم، فيأخذون أموالهم، ويسلبون نساءهم، فأشار بعض مشايخهم أن تتخذ النساء زي الرجال فإذا أتاهم العدو ظنوهم نساء خرجوا عليهم ففعلوا ذلك فثاروا عليه بالسيف، فقتلوهم فلزموا اللثام تبركاً بما حصل لهم من النصر على عدوهم، والظفر بهم.
- وقد أورد ابن خلدون ما نصه" أن صنهاجة من شعوب اليمانية، ولا تنتسب إلى البربر بصلة"وقد صرح النويري بعروبة صنهاجة، ويؤكد هذا أبو فارس عبد العزيز الملزوزي الشاعر رحمه الله بقوله:
مرابطون أصلهم من حميـر وقد بعدت أنسابهم عن مُضر
كانوا ملوكاً في الزمان الأول وأمرهم وحالهم لم يجهل.
وقد رأيت في كتاب النسب قولاً به أعجز أهل الأدب
بأن صنهاج ليل حمير وهو ابنه لصلبه لا العنصر
أكرم به من نسب صريح فقله لا تخف من التصريح
فعدلهم وفضلهم مشهور ومجدهم وسعيهم مشكور
قد خلفوا من بعدهم حسن الثنا في غربنا وبلغوا فيه المنا
وأبرز الكاتب كيف اعتنقت قبيلة (صنهاجة) اللثام الإسلام بعد أن عبدت الأوثان، والديانات السماوية السابقة على الإسلام، فأسلمت وحسن إسلامها، بل وساهمت في نشر الدعوة الإسلامية في جميع أنحاء الصحراء، وما تلاها من دولٍ، وأصبحت هذه القبائل الصنهاجية أساساً لدولة المرابطين، حيث لعبوا دوراً مهماً في نشر الإسلام في أرجاء إفريقا عامة، وموريتانيا والمغرب والجزائر بصفة خاصة.
وأفرد الباحث ترجمات غيرمسبوقة لأعلام أفنوا حياتهم في سبيل نشر الدين الإسلامي، وإنقاذ أهل البلاد من الضياع والكفر والفجور وهم: الأمير/ يحيى بن إبراهيم الأقدالي المؤسسين لدولة المرابطين، وهو الذي انتدب عبد الله بن ياسين الجزولي من القيروان ليكون معلماً ومرشداً للملثمين، وقد كان صالحاً وتقياً، وورعاً، ومجاهداً لدرجة أن زعماء القبائل قالوا له بعد أن أنهى خطبة يحضهم على الجهاد:" أيها الشيخ المبارك مرنا بما شئت تجدنا سامعين مطيعين، ولو أمرتنا بقتل أبائنا لفعلنا" .
وجاء في الخطبة:" يا معشر المرابطين إنكم جمع كثير، وأنتم وجوه قبائلكم، ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالىن وهداكم إلى الصراط المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم، وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وتجاهدوا في الله حق جهاده".
فإين نحن اليوم من أمة كهذه، بل أين نحن اليوم من علماء يسيرون على نهج الشيخ / عبد الله بن ياسين.
أما الترجمة الثانية فهي للأمير/ يحيى بن عمر اللمتوني الذي عُرف بأمير الحق، واشتهر بالورع والتقوى والإخلاص في الدعوة الإسلامية، ثم ترجمة ثالثة للأمير/ عبد الله بن ياسين، وأبرز جهوده الكبيرة في نشر الإسلام، والقضاء على الفتنة والضلال، وظل هذا الزعيم يُصارع المشركين عبدة الأوثان، ويحتل مدنهم وقراهم، ويدك عروشهم، وحصونهم، ومعابدهم، ويستعبد مَن أبى عن الإسلام حتى اغتاله زنجي ساحر برمح مسموم.
وترجمة رابعة أوردها الكاتب للأمير/ يوسف بن تاشفين اللمتوني، مبرزاً انتماءه، وعروبته بنسبه لحمير، وترجمة خامسة للأمير/ علي بن يوسف اللتموني، وسمي بأمير المؤمنين، وملك جميع بلاد المغرب من مدينة بياجة إلى بلاد السوس الأقصى، فأقام العدل، وضبط الثغور، ووالى الجهاد، وسرح السجونوفرق الأموال، ورد أحكام القضاء إلى القضاء، وقد خلفه بعد وفاته عام 1142 ولده الأمير/ تاشفين، ولم يستمر طويلاً، ليخلفه أخوه الأمير/ اسحق آخر ملوك المرابطين.
وحسبي أن الكاتب أراد أن يورد هذه الترجمات لإسناد الحق لصاحبه، والاقتداء بها، علّها تكون منهاج حكم لمن أراد أن يتقلّد منصباً، أو يتولى أمر المسلمين.
وفي عجالة جامعة أورد تعريفاً عن المرابطين، وقبائل صنهاجة المكونة لهم بقول الشاعر:
وأين رجال بعد لمتونة للهدى يذبون عنه حيث زلت به النعل
فأصبح منقوض الأساس وبعدهم تنهنه عن تشييده البعض والكل
ولم تنته من بعد لمتونة دولة ولم يك في بنيانها بعدهم ظل
وأين لأهل الله نصر وراءهم ألا إن أهل الله بعدهم ذلوا
أما قبيلتي " أقدالة" و " مسوفة" فقد ضرب الكاتب بهما الذكر صفحاً، بسبب جهله لمصيرهما.