أصحاب الضمائر الحية، هم الذين يقفون مع أنفسهم لحظة من الصدق الروحاني، المتمثل في محاسبة النفس التي خلقها الله من طين، والتي بث الله فيها من روحه، هذه النفس التي خُلقت، لا لتنعِّم ذاتها بلذائذ الدنيا بعيداً عن ذات الله ، بل للتتنعم بذات الله، ومع الله، ببديع صنعه، حتى تصفو النفس، وتعلو إلى خالقها، فتتحول النفس الأمّارة بالسوء، إلى روح آمرة بالخير، فتسير على الصراط، كما بُشّر العشرة، وتنعتق من هواها المحكوم بالفطريات، إلى مصدرها الإلهي، فتنجو من يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. وما أن يصل الإنسان إلى مرحلة الاستسلام الروحي، فإنه يحقق لنفسه السعادة ، التي يمكنها أن تتحقق إذا توافرت خصال وخصال أهمها أولاً: إصلاح القلب. فالجسد بحركاته وسكناته، مرتبط بدوام وجيبه، وهو مصدر التشريع الذاتي لكل فكر أو عمل، فإن تغذّى بالقيم الإسلامية، والروحية، استسلمت الجوارح، وسكنت، وانقادت، وانعتقت من متاع الدنيا، إلى مُتع الآخرة، وتحوّل الإنسان إلى مُعلّم يمشي في الطرقات، بل هاديا يهتدي به الضال، وينقاد إليه أعمى البصيرة، ويتحوّل المجتمع بصلاح الأفئدة والقلوب هذه، إلى صلاح في الممارسات اليومية، أمّا إذا انقاد القلب لأهواء النفس ومفاتن الحياة وبهرجها، فإن الحياة تتحول إلى مرٍّ في حلوها، وليلٍ في نهارها، وكدرٍ في صفوها، ومللٍ في متاعها، فأيهما تختار، فقد أصبت في النفس موضعا، وعلى العاقل أن يختار. ثانياً: تهذيب اللسان عن الخطأ والخطايا، لينزّه النفس عن الظنون والشكوك التي هي داءٌ يستشري في النفوس الضعيفة، فتجلب الهم في الليل، والغمّ والعجز في النهار، والكسل في العمل، وتجعل ذاته أسيرة لهواه وظنونه، فيعيش في كدرٍ من الحياة، وتنقاد الروح المتصلة بالخالق للهوى، وكم من إنسان ينساق لهواه، أو هوى الآخرين، فوقع في المحظور، وندم على ما أقدم، وكم من ضعيف للنفس أصغي بإذنه، وفكر بقلبه، فهوي بهذا القلب المفرّغ أساساً من غذاء الروح الإلهي إلى الهاوية، وهنا يكون الإنسان بين خيارين، السعادة ، وهوى النفس، فأيهما أصاب فقد أصاب في النفس ما يُرضيها، أو يكدّر صفوها، وعلى العاقل أن يختار. ثالثاً: عِفّة اليد والرجل: يدك أيها الإنسان هي التي تبطش بها، ورجلك التي تمشي عليها، متصلتان تماماً بالقلب مصدر التشريع للحواس الجسدية التي لا تملك منها شيئاً، بل يملكها مَن نفخ فيها من روحه، بعد أن كوّنها من تراب الأرض، فإن حولّتهما إلى أداتان منقادتان للهوى، خسرتهما في الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، ولكن كيف يكون الخسران؟ تُجيب الروح كما أسلفنا، حتى وإن أحس أنه على غير ذات الطريق التي رسمها الحق للإنسان، ولكن، إن وافقهما مع مصادر الحس الروحي والديني، فقد أسلمهما إلى الله الذي لا يرشدهما إلى الخطأ أو الخطيئة، فيتحقق الصلاح في الدنيا، وعلى العاقل أن يميز الخبيث من الطيب. أما الخصلة الرابعة : فهي تبصير العين التي ترى وتتكلم، ولا أبالغ إن قلت بأنها تسمع، فالسمع والبصر والفؤاد متصلان اتصالاً روحياً، وعضوياً، وعنهما يكون السؤال، فإن سرقتَ بعينك فقد أثمت، وأثمتْ معه بعض جوارحك، وأعلاها في الإثم ما بين الفكين، رفيقك في النمينة، والضغينة،والصغيرة والكبيرة، وأثمتْ معه روحك، لأنها تكون قد تفرّغت من عقيدتها، فتنساق العين إلى الهوى ، ويتحوّل جمال العين التي خلقهما الله لترى الجمال الإلهي في الكون، إلى مصدر من مصادر "الرذيلة"، فأيهما أصبت، فقد أصبت في النفس ما يُرضيها أو يحيدها عن الهداية، وعلى العاقل أنْ يختار. ومع إطلالة عام هجري جديد، يعيدنا بالذاكرة إلى 1423 عاماً، حيث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، رسول الإنسانية، يُعلن بداية عهد جديد، فتصفو ذاكرة الروح لمن يمتلك الروح الصافية، والعاقل من يرصد الهجرة بمعناها، ويسير على هداها، فيهتدي إنْ كان على ضلالة، ويستبدل الذي أدنى بالذي هو خير، فيصلح القلب، وتسمو الروح، ويتحوّل الجسد المفرّغ من السمو، إلى روح تطير إلى نافخها، لتعانقها، فتراها في الليل والنهار، والحركات والسكنات، وعلى الأرض وفي السماء، وفي البراري والبحار، فيخر ساجداً له، أما إذا كان على الهدى، فيزداد هدى، ويتلمس المنزلة التي أعدها الله له، ولأولئك الذين باعوا أنفسهم لله. ومع هذه البشرى المتجددة كل عام لكل مسلم، يتذكر ذلك الأمين الأعظم، فيخرج النفس من دائرة المُتع الزائلة، إلى فضاء المُتع الدائمة، ويحاسب النفس قبل أن تحاسبها الجوارح، وتُسائل الروح النفس صباح مساء، قبل أن يُسائلها مَلك الموت، وتخاطبه بالتي هي أحسن فتقول: : ماذا قدّمت، ولتكن مع الله ولا تُشرك به أحدا عندما تقضي حوائجك، ولتمنح نفسك ساعة، قبل أن تحين الساعة، ولتتوكّل على المتوكِل، ولا تتواكل، فكل إنسان مُساق إلى الله بعمله، وهنا يعيش الحب السرمدي للخالق بيت الخافقين، وتتحقق السعادة اللامنتهية في الدنيا والآخرة. لتبدأ أيها الصاحب الإنسان عهداً مع الله، فأخرج نفسك من أسر الدنيا، إلى حرية الآخرة، وعانق الذات السرمدية، وتعاهد مع الله، ولا تجدد العهد معه كل حين، وإنْ كان باب التوبة مفتوح. ترفّق بأخيك الإنسان، وصاحبه لخلقه، لا لهوى في النفس، ولا تظلم، فَتُظلم، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، فتندم، يوم لا ينفع الندم، وتواصل مع رحمك، فهم جزء من ذاتك، وهل تستغني النفس عن الروح، وذاك هم رحمك. تصالح مع نفسك إنْ كنت معذبها بجبروتك، وكِبْرك، وأنفتك، ومعصيتك، وظلمك، وغيك، وقطعك للرحم، وبعدك عن الله، ثمّ روضها بالحب، والصلاة، وهذبها بالصيام والقيام، ونقيها بالكلم الطيب والتواضع، وتواصل مع الله بالقرآن من خلال شرعه، وبذلك تكون السعادة. وأقول مع الشاعر الفلسطيني( شكيب جهشان) الذي ودّعنا قبل أيام في رباعياته: يا غارقاً في الهمّ من كربه انظر حواليك تر البلسما يا أيها المختال فوق الثرى أقذيت من كِبر عيون الورى ما طاولت شمس الضحى سروة إلا أصرّ الريح أن تُكسَرا فهل من متعظ..!!