بسم الله الرحمن الرحيم
( رحمانيّات ربانية للآمة المحمدية )
(15)
‘‘ يا عبادي .... ’’ ؟!!
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يمن علينا بالرشاد والإيمان الكامل وأن يهدينا سواء السبيل ، ونسأله أن يرحم أموات وشهداء المسلمين في كل مكان ، اللهمَّ آمين .
يجتهد المؤمنون في وعبوديتهم وعباداتهم ومحبتهم لله تعالى ، ويجتهدون في محبّة رسوله الكريم سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بالعمل بسنّته ، ليكونوا من صفوة عباد الله الذين يحبهم الله تعالى . ومحبة الله تعالى ورسوله الكريم تنعكس على سلوك المؤمن في عباداته ومنهجية حياته ، وأولئك المؤمنون يُعْمِلُون عقولهم بين الخشية والخوف والرجاء في محبة الله تعالى طمعاً في مغفرته ، تيمناً بالآية الكريمة من سورة آل عمران آية (31):‘‘ قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ’’ . ويقول جلَّ شأنه في سورة المائدة (آية 54) عن القوم الّذين يحبهم ويحبونه: ‘‘ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ’’ .
وعباد الله المؤمنون وهم (عباد الرحمن) الهيّنون الليّنون المتواضعون وليسوا اللعّانون والبذيئون والطعّانون والكاذبون وآكلي الحرام والمتكبرون والمتشدّقون والمتفيهقون والمتجاوزون على حقوق غيرهم من العباد ، والله تعالى وصف عباده الذين يحبهم ويحبونه في سورة الفرقان فقال جلَّ شأنه:‘‘ وَعِبَادُ الرَّحْمَنُ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنَاً وَإذَا خَاطَبَهُمْ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلامَاً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَّبِهِمْ سُجَّدَاً وَقِيَامَاً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِف عَنَّا عَذَاب جَهَنَّمْ إنَّ عَذَابَهَا كان غَرَامَاً (65) إنَّهَا سَاءَت مُستَقَرّاً وَمُقَامَا (66) وَالَّذِينَ إذَآ أنْفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانًَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامَا (67) وَالَّذِينَ لاَ يَدعُونَ مَعَ اللهِ إلَهَاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثَامَاً (68) ’’ .
والقرطبي رحمه الله تعالى وصف عباد الرحمن فقال:( وَصَفَ الله تعالى ‘‘ عِـبَادُ الرَّحمنِ ’’ بإحدى عشرة خصلة: [ التواضع ، الحلم ، التهجّد ، الخوف ، ترك الإسراف والإقتار ، البعد عن الشِرْك ، النزاهة عن الزنى والقتل ، التوبة ، وتجنب الكذب وقول الزور ، قبول المواعظ ، الابتهال إلى الله ]. والمؤمن يجتهد في محبته لله تعالى لأنه في سياق عبوديته لله تعالى يدرك الفرق في الخطاب القرآني بين لفظين : ( عِبَادي ) و ( عِبَادْ ) . فالله سبحانه وتعالى يخاطب العباد أو يذكرهم في آيات كثيرة من القرآن الكريم بلفظ : ‘‘ عِبَـادْ ’’ ، وفي آيات أخرى بلفظ : ‘‘ عِبَادي ’’ ، ويقول الفقهاء في بعض الكتب أن لله تعالى عبادٌ هم خاصته ، يخصهم الله تعالى بلفظ : ‘‘ عبادي ’’ ، أمَّا لفظ ‘‘ عبادْ ’’ فتشمل كلِّ العباد ، ولفظ ‘‘ عِبَاد ’’ صنف من عباد الله تعالى جلَّ شأنه _ وكل الخلق في الكون كله عبادُ لله تعالى _ ولكنهم ليسوا خاصته ، والأمثلةٌ في القرآن الكريم كثيرة منها قوله تعالى في سورة الزمر :‘‘ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلذَيِنَ أحْسَنواْ فِي هَذِه الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَأرْضُ اللهِ واَسِـعَةٌ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)’’ . وقوله تعالى في سورة الزمر أيضاً عن الخاسرين :‘‘ فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِن دُونِهِ قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أنفُسَهُمْ وَأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَّامَةِ ألاَ ذَلكَ هُوَ الخُسْرَانِ المُبِينُ (15) لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَـوِّف اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِـبَادِ فَاتَّـقُونِ ( 16)’’
. والخطاب القرآني اشتمل على الكثير من هذا فالّذين سمّاهم الله تعالى:‘‘ عِبَادِي ’’ هم عبادٌ من عباد الله ولكنهم خاصته ، وهم التائبون والمتّقون والصادقون والبارّون والمحسنون الذين يخشون الله تعالى العابدون لله تعالى أحسن عبادة ويعبدونه وكأنهم يروْنه ، وهم الّذين تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكرات ولا يملك عليهم الشيطان قوةً ولا سلطاناً ، وتتفطر قلوبهم من خشـيته ويطمعون في رحمته فيدخلهم جنّته ، وينالون درجاتهم فيها بأعمالهم في الدنيا ، وأولئك يقول الله تعالى عنهم في سورة الإسراء : ‘‘ وَقُلْ لِعِبَادي يَقُولُوا الَّتي هِيَّ أحْسَنُ إنّ الشَيطَانَ يَنزِعُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّـيطَان كَانَ لِلإنسَانِ عَدُّوَاً مُبِينَاً (53)’’. وهم العباد الذين ليس للشيطان عليهم سلطان كما ورد في سورة الإسراء (65):‘‘ إنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عليهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِربِّـكَ وَكِيلاً ’’ ، فالشيطان لا سلطان على العباد الّذين وصفناهم بصفاتهم ، فإيمانهم أقوى من الشياطين ، ولا تأثير له عليهم ويبشرهم الله تعالى بمغفرته بقوله تعالى في سورة الزمر:‘‘ قُلْ يَا عِبّادي الَّذِينَ أسرفُواْ عَلَى أنْفُسِهِم لاَ تَقْـنَطُواْ مِن رَحْمَةِ الله إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعَاً إنَّهَ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)’’ ويبشرهم أيضاً بموقفهم يوم القيامة بقوله تعالى في سورة الزخرف :‘‘ يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ اليَوْمَ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَِنُونَ (68)’’ .
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:‘‘ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، ثم يعرج الّذين باتوا فيكم فيسألهم الله ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يُصلّون ، وأتيناهم وهم يصلَّون ’’ . وفي الحديث الشريف عن أبي سعيد الخُدْرِي رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سُئِل:( أيُّ العباد أفضل درجةً عند الله تعالى يوم القيامة ؟ فقال : الذاكرون الله كثيراً ، قلت: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله عزّ وجلّ ؟ قال : لو ضَرَبَ بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون لله أفضل منه ) .
والعباد بعد الموت مستريحٌ أو مُستَرَاحٌ منه ، وفي سنن النسائي عن معد بن كعب بن مالك عن أبي قتادة بن ربعيٍّ أنه كان يحدّث:[ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرَّ على جنازةٍ فقال:‘‘ مُستَريحٌ ومُستَرَاحٌ منه ، فقالوا : ما المستريح وما المُستَراح منه ؟ فقال : العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب ’’ . من أجل هذا يصبر المؤمن على ما ابتلاه به الله تعالى من نقص في الأنفس والأموال والثمرات وسكنت قلوبهم السكينة ليكونوا من خاصة عباد الله وتلك درجة رفيعة لا يصلها إلاّ من عمل لها من صبر وتقوى وإحسان وصِدْقٍ ويعبد الله تعالى كأنه يراه . اللهم اجعلنا منهم ، آمين . وعباد الرحمن ‘‘ بصفاتهم ’’ بشرهم الله تعالى في سورة الفرقان فقال جلّ شأنه : ‘‘ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَِ الغُرفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وِسَلامَاً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُستَقَرّاً وَمُقَامَاً (76)’’ . وبشرّ سبحانه وتعالى الصابرين منهم بأن لا يُرفع لهم ميزان يوم القيامة فقال تعالى في سورة الزمر (آية10):‘‘ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلذَيِنَ أحْسَنواْ فِي هَذِه الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَأرْضُ اللهِ واَسِعَةٌ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ’’ .
و‘‘ عباد الرحمن ’’ أهل الله تعالى وخاصته بحث طويل يحتاج إلى أكثر من هذه المساحة ، ولكني آثرت أن أنوه عنهم في سياق الخشية والخوف والرجاء ، وأسأل الله العظيم بقدرته وحفظه وصمديّته أن يجعلنا من خاصة عباده المُخْلَصِين الذين يحبهم ويحبونه ويحبون رسوله الكريم سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ، وأن يتولانا في هذه الأيام الفضيلة برحمته وجلالِهِ وكرمه وجودِهِ وعزّته ولطفه ورضوانه وعفوه ومغفرته وهو أرحم الراحمين ، وأن ينوّر دروبنا بنوره ، وأن يغفر لموتانا وشهداء المسلمين في الوطن والغربة ، ومن كان سبباً في هذا الزاوية من الرحمانيّات الربانية ، ونسألك يا الله أن تمن عليهم بكرمك وعطفك فتجعلهم في أعلى الجنان في عليين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين
[1] د. يحيى زكريا اسعيد الأغا | رسالة | 27-08-2010