مقالات

رحمانيّات ربانية للأمّة المحمدية 16 العلم بعظمة المساءلة والجزاء

بسم الله الرحمن الرحيم
رحمانيّات ربانية للأمّة المحمدية 16
‘ العلم بعظمة المساءلة والجزاء ’
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يمن علينا بالرشاد والإيمان الكامل وأن يهدينا سواء السبيل ، ونسأله أن يرحم أموات وشهداء المسلمين في كل مكان ، اللهمَّ آمين . 

يتفكّر المؤمنون والمتّقون في سلوكهم وأفعالهم وأقوالهم ويحسبون حساباتهم لموقف عظيم ورهيب ومخيف ، يخشونه ويخافونه ألا وهو الوقفة أمام الله تعالى ثم الميزان يوم القيامة ، وهو موقف المسائلة والمحاسبة والجزاء . والمقصود بعظمة المسائلة والجزاء : الاستشعار واستحضار الوقفة بين يدي الله تعالى يوم القيامة وقد تسلّمنا صحائفنا في أيدينا ، وفيها ما قدّمنا من خير أو شرّ ، وجميع الخلائق واقفون ينتظرون حسابهم ، وفي الصحف كلُّ أعمالنا مصداقاً لقوله تعالى في سورة الكهف آية (49):‘‘ وَوُضِعَ الكِتَابُ فَترى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِيِنَ مِمَّا فِيهِ وَيقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مَالِ هّذا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وِلا كَبِيرَةً إلاَّ أحصَاهَا وَوَجَدُوأ مَا عَمِلُواْ حَاضِرَاً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَدَاً ’’ ، وقد علّمَنَا سيّدنا عبد الله بن عباس أن الصغيرة هي الابتسامة والكبيرة هي الضحكة . والمؤمن يدرك أن ترك المعاصي والذنوب لا يتم إلاّ بالصبر ، والصبر لا يتحقق إلاَّ لمؤمن ، والإيمان يتحقق بالعلم بعظمة المسائلة والجزاء ورهبةِ وصِفَةِ هذه المسائلة ووقفتها ، فيتفكّر في كل فعل وقول ليُختَم له بحُسن الختام وخاتمة طيّبة ، وهذا يتحقق بالتصديق والعمل بما أنزل الله تعالى على رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم .
ومن أصرَّ على الذنوب والمعصيّة يصبح كأنه لم يصدق الله تعالى ورسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم ، والإصرار على الذنوب وعدم التوبة سبباً لزوال الإيمان فيختم الله له بسوء العاقبة والعياذ بالله . وأمّا تلك الوقفة فمهما تخيلناها وصوّرها لنا خيالنا وعقلنا ما تخيلناها ولا عشر معشارها . والمؤمن يستشعر عظمة المسائلة والجزاء يوم القيامة فيستذكر ويتخيّل يوم القيامة وأهواله وموقف الحساب والمحاسبة أمام الله تعالى وما قدّمت يداه في الدنيا الخاسرة . وذلك يوم على الكافرين والعصاة عسير عندما يَروْنَ ويستيْقِنون أن لا مفر:‘‘ كَلاَّ إذَا دُكَّت الأرْضُ دَكَّاً دَكَّاً (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً (22) وَجِاْىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمُ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأنَّى لَهُ الذِكْرَى(23)’’ , وحينها لا ينفع ندم على سوء العمل عندما يرى العصاة والمتجبرون على غيرهم من العباد في الدنيا العذاب بأم عيونهم ، آنذاك أبصارهم حديد فيدركون الحقيقة فيقول قائلهم:‘‘ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أحَدٌ (25) وَلاَ يُوثَقُ وَثَاقَهُ أحْدٌ (26) ’’(سورة القيامة) ، ولكن حينها لا ينفع ندم ولا توبة . ولعظمة ذلك اليوم الرهيب أفرد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم سورة كريمة باسمه تَذْكِرَةً للإنسان هي سورة القيامة ، وذلك اليوم له أسماء عديدة ذُكر بعضها في القرآن الكريم ، ومنها : اليوم الآخر، يوم الآزفة ، يوم الزلزلة ، يوم الصيحة ، يوم الصاخّة ، يوم يُنفَخ في الصور، يوم الحاقة ، يوم التغابن ، يوم النشور، يوم يصدر الناس أشتاتاً ليرواْ أعمالهم ، ‘‘ يَومَ لاَ تَمْلكُ نفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئَاً والأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّه ’’ (سورة الانفطار آية19) ، يوم ترجف الراجفة تلحقها الرادفة ، ‘‘ يَومِ تَمُورُ السَّمَاءَ مَوْرَاً (9) وَتَسيرُ الجِبَالُ سَيْرَاً ’’ (سورة الطور) ، يوم يقوم الناس لربِ العالمين ، يوم المناقشة ، يوم المسائلة ، يوم المحَُاسَبَة ، يوم الموازنة ، يوم الفصل ، يوم تبيض وجوهٌ وتسود وجوه ، يوم الندامة ، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، ‘‘ يَوْمَ يَفِرُ المَرءُ مِنْ أخِيهِ (34) وَأمِّهِ وَأبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) ’’( سورة عبس) ، يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً والأمر يومئذٍ لله الجبّار ، يوم لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولود عن والده شيئاً ، يوماً ‘‘ كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِيرَاً ’’ (سورة الإنسان آية 7) ـ أي منتشراً فاشياً ـ ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ، ‘‘ يوم تأتي كلُّ نفسٍ تُجَادِلُ عَن نَفْسَهَا ’’ ، يوم تذهل كلُّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذاتِ حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، يوم يجعل الولدان شيباً ، يوم يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ، يوم يُساق المجرمين إلى جهنم ورداً (أي مشاةً عطاشاً) ، يوم الطامة الكبرى ، يوم الحَزَن على الكافرين (والحَزَنُ : هو حُزْنٌ لا يذهب) ، ‘‘... يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ ’’ (سورة المعارج 4) ، وجعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنةٍ ثم يدخلون إلى جهنم للاستقرار فيها ، وهو على المؤمنين كمن يمضي عليه ساعة واحدة ، يوم يُحْشَر المتقين إلى الرحمن وفداً كراماً آمنين ، فذلك يوم عظيم . ويوم القيامة يخشاه ويخافه المؤمنون وتنخلع قلوبهم عند ذِكره ، فهو يوم عصيب على الكفار والعصاة ، وسهّله الله سبحانه وتعالى على المؤمنين والمتّقين ، وكذلك الحساب على الكافرين شديد ويسّره الله تعالى على المؤمنين رحمةً وتكريماً لهم ، يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:‘‘ والذي نفسي بيده إنه لِيُخَفَّف على المؤمن حتى يكون أخفُّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا ’’ .
في ذلك اليوم والموقف الرهيب ، موقف المحاسبة والمسائلة يقف الناس بين يدي الله تعالى ينتظرون حسابهم ، وجاء في الأثر أن الخلائق تقف يوم القيامة مائة سنة في العرق ملَّجّمون ومائة سنة في الظلمة متحيّرون ومائة سنة يموج بعضهم في بعض عند ربهم يختصمون :‘‘ وَتَرَكْنَا بَعْضُهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَجَمَعْنَاهُم جَمْعَاً ’’ (سورة الكهف 99) . والعلم بعظمة المسائلة والجزاء يرتبط بالإيمان والتوبة والبعد عن اقتراف الذنوب والتفكّر وإعمال العقل فمن تاب توبةً نصوحاً يكون قد أدرك عَظَمَة هذا الموقف الرهيب فأناب إلى الله تعالى وعمل في الدنيا شكراً تيمناً بقول الله تعلى:‘‘ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكرَاً ’’(سورة سبأ13) . من أجل ذلك فالتوبة والعودة إلى التقوى وحُسن الخُلُق تُنجِي العباد من طرقات جهنّم ومن عذاب ذلك اليوم العظيم فيكون هيّناً على المؤمنين ، ومن استشعر في الدنيا عظمة السؤال والحساب وأحسن معاملته مع الله تعالى ومن ثمَّ العباد ، أحسن الله تعالى معاملتَه في الدنيا ويوم القيامة كان من الناجين بإذن الله تعالى .
والشكر يستلزم العمل ، أي أن يقترن الشكر لله تعالى بالعمل الصالح فيكون شكرنا لله تعالى على شاكلة عطاءاته ، فنزيد في إيماننا وعباداتنا كلّما زادت نِعَم الله تعالى علينا ، فالشكر لله تعالى على الصحة والعافية بأن نحمد الله ، والشكر لله تعالى على الرزق أن نتصدّق ، وهكذا في كل النعم ، وهذا معنى قول الله تعالى:‘‘ اعْمَلُوا آلَ دَاووُدَ شُكْرَاً وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَّ الشَّكُورُ ’’ ، فنسأل الله أن يجعلنا من عباده القليل ، آمين . والتوبة واجبة من كلِّ ذنب وإثم مهما كان صغيراً أو كبيراً ، والتوبة وعمل الخيرات هي أول أعمال المسلم في الارتقاء إلى مراتب المؤمنين ، والله تعالى ندبنا إلى التوبة ، فقال جلَّ شأنه في سورة النور (31):‘‘ وَتُوبُواْ إلَى اللهِ جَمِيعَاً أيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ’’ ، والله تعالى يحب عباده التوابين مصداقاً لقوله تعالى في سورة البقرة (222):‘‘ إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهْرِينَ ’’. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي غُفِر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وهو المعصوم عن الخطأ والخطيئة بإذن الله تعالى ولنا به أسوة حسنةٌ كان يستغفر ويتوب إلى الله تعالى ، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام :‘‘ يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرّةٍ ’’. والوقفة هنا عظيمة ، وتحتاج لمساحة عظيمة وكبيرة بحجم عظمتها ، ولكنها هنا وقفة وإطلالة قصيرة فيها تذكير لمن أخطأ ليعود إلى ربه الغفار الغفور ، والله تعالى يفرح لعباده التوابين والمتطهرين من ذنوبهم وخطاياهم وما اقترفوا من سوء بل ويحبهم ، فالدنيا فانية ولن نأخذ منها إلاّ أعمالنا والأكفان البالية كما أجسادنا ، والمؤمنون يعتبرون بمن سبقوهم إلى الرحمن الرحيم ويسألوه أن يكونوا مع المتقين إلى الرحمن وفداً لينعموا بكرم الله تعالى وأمْنِهِ وأمانِهِ آمنين ، اللهم اجعلنا منهم ، آمين .

‘‘ ربَّنَا لاَ تُزْغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ (8)’’(آل عمران) ،اللهمَّ يا أرحم الراحمين يا مالك يوم الدين إيّاك نعبد وإياكَ نستعين نتمسّك بحبائل رحمتك ، ونسألكَ أن تغيثنا في الدنيا بهداك ، ويوم المحاسبة والمسائلة برحمتك ، وأن تظلنا في ظلّك يوم لا ظلَّ إلاّ ظلّك ، وألاّ تحاسبنا أو تسألنا وأن تحشرنا مع رسولك وحبيبك سيّدنا محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم ، ونسألك يا الله يا كريم يا رحمن يا رحيم أن ترحم أموات المسلمين وشهدائهم في الغربة والوطن وان ترفع درجاتهم في عليين ، وأن تنزل الرضا والصبر ورضاك على ذويهم اللهمَّ آمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم ، وآخر دعوانا الحمد لله ربِّ العالمين

 

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على أ. المنتصر بالله حلمي أحمد الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد