بسم الله الرحمن الرحيم
رحمانيّات ربانية 25
الولد المرّْ 1
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيّد الكائنات سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يتم علينا نعمة الهدى والبر والإحسان وأن يعلّمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علّمنا ، أنه السميع العليم المجيب . كنت قد كتبت لهذا اليوم مقالاً في موضوع آخر ، ولكن منذ أيّام قليلة حدثني صديق قديم عن ولدٍ له تطاول عليه وعلى أمِّهِ في سكون الليل على مسمعٍ من بعض الناس والجيران بأشد الكلمات قسوة وفظاظة ، ثمََّّ حمد الله تعالى على كل حال وقال:[ اللهمّ إن كان هذا دين قديم لكَ عليّ فإني أستأهل ذلك ( فكما تدين تدان ) وإن لم يكن ذلك فاللهمّ لك الحمد ، ففي هذا قد يكون رفعٌ للدرجات عندك فإنكَّ لا تضيّع مثقال ذرّة ] . آنذاك حدّثت نفسي بأن أكتب في موضوع برَّ الوالدين وحقوقهما ، وهو موضوع هام يحتاج لأكثر بكثير من مساحة هذا مقال .
وقد يكون من المناسب أن نتعرف على معاني كلمة ‘‘ عقوق ’’ في اللغة العربية كما جاءت في بعض قواميس اللغة ، وكلُّها تعطي معنى واحد تقريباً وهو : المخالفة والعصيان والقطيعة المرّة . فالعَـقَّ والعاقَّ : هو المرُّ من الماء ، وهو كلُّ خرقٍ في الرمل وغيرة ، والعُـقُقُ : هم قاطعوا الأرحام ، وعاقَّهُ : تعني خالفه ، والعُقَاقُ من الماء : تعني الماء الشديد المرارة ، وأعقَّتُ النخلة أو الكرمة : أي أخرجت العِقَّان ، أي جاء فلان بالعقوق والعصيّان . فالعقوق هو : كل خَـرْقٍ - أي حدث خارج عن المألوف والمعتاد - ومخالفة وعصيان وشقَّ عصا الطاعة وعدم الوصل بأنواع الوصل المادي والمعنوي وقطع الأرحام وقطيعتهم ، وكأنّ من قطع رَحِمَهُ يُسقيهم ماءً شديد المرارة مذاقه مرٌّ وعلقم لا تطيقه النفس والروح والقلب، وذلك الخَرْقُ لا يطيقه ولا يقبله إلاَّ العُقُق من الناس البعيدون عن المنطق الشرعي والأخلاقي .
والمرء الذي عقّه ولده وعصاه فكأنّما يسقيه المرَّ والعلقم، فنجد مثل هذين الوالدين مملوءين بالمرارة والحُزن والبؤس والقهر والغضب والخزي أمام الناس لأن ولدهم فلذة كبدهم وهو قطعةٌ من قلوبهم وقد بذلوا له ما استطاعوا منذ نعومة أظفاره وفضّلوه وحرموا أنفسهم ليُعطوه وسهروا الليالي في تربيته وصدّوا عنه النائبات وتألّموا لألَمِه وفَرِحَوا لفَرحِه ، وكانوا يُعدّونه مَصَدّاً للنائبات عنهم ، ولمّا اشتد عوده بَطَشَ بالذين أحبوه وبذلوا له وأعطوه ، فصبَّ عليهم النائبات والهموم والعلل والكُرْبَات وأدخلها إلى قلوبهم بدلاً من أن يصدها عنهم وبدلاً من أن يُدخِل الفرحة والسرور والسعادة إلى نفوسهم وقلوبهم ، تنكر لأمّه وأبيه وسيتنكر غداً لأخوته وزوجه وولده وصديقه وجاره ، فيتطاول عليهم ويعقّهم ، فمن عَقَّ والديه يسهل عليه عقوق الناس أجمعين وسيحرم نفسه من احترامهم ولهفتهم عليه ، فقد يحبونه ويكرهون له الشرَّ ولكنه بعيداً عن قلوبهم ونفوسهم وقريب من الشيطان قرينه ، وساء قريناً ، ومن عقَّ والديه فالله تعالى لن يرحمه وهو خصمه في الدنيا والآخرة إلاّ من تاب وأناب إليه تعالى .
ومن عقّه وعصاه ولده أو قاطعه أو حاربه أو نازله أو رغب عنه ، فذلك الولد يصبح كالعقّان التي خرجت من النخلة أو الكرمة بغير المألوف والمعتاد من الزرع وجاء بتصرف وبخلاف الطبيعة والمألوف والمعتاد كتلك العقّان التي خرجت من جانب النخلة أو الكرمة ، وهي غالباً ما تُقطَع وتُرمى ، فالعاقُّ فكأنمّا يقطع نفسه في الدنيا من أهله ومحبّة والديه ورضاهما ويبعد نفسه عن احترام الناس ، وفي الآخرة يُطرد من رحمة الله تعالى . وفي الحديث الشريف عن قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :‘‘ أربعة لا يجدون ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام : البخيل والمنّان ومدمن الخمر والعاق لوالديه ’’ ، وعقوق الوالدين من الكبائر التي يستحق العاق عليها الطرد من رحمة الله تعالى ، والمطرود من رحمة الله تعالى لن يُوفق في الدنيا ، وفي الآخرة مأواه جهنم العياذ بالله .
وعن مثل أولئك يبتعد الناس ولا يحبون القرب منهم والتعامل معهم لأنه لا أمان لهم . وقد أوصى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بقاعدة جميلة في صحبة العُقُقْ فقال:[ لا تأتيّن أبواب السلاطين وإن أمرتهم بمعروف ونهيتهم عن منكرٍ ولا تخلُوَنَّ بامرأة وإن علّمتها سورة من القرآن الكريم ولا تصحبّن عاقَّاً فإنّه لن يقبلك وقد عقَّ والديه ] . وقال بعض الحكماء : أربـع من كنّ فيه فهو محـروم من الخير كله:[ المتطاول على من تحته ، والعاق لوالديه ، ومن يحقر الغريب ، ومن يُعيّر المساكين لمسكنتهم ]. وفي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:[‘‘ ألا أنَبِّئُكُم بأكبر الكبائر؟_ ثلاثاً- قلنا: بلى يا رسول الله ، قال:‘‘ الإشراك بالله وعقوق الوالدين ’’ وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور’’ فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت ]. وفي هذين الحديث نجد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربط بين الإشراك بالله وعقوق الوالدين ، وأتْبْعه بكبيرة ثالثة وهي شهادة الزور وهي أشد أنواع الكذب ، وكأن تلك الصفات مترابطة مع بعضها ، فمن أشرك بالله تعالى كان عاقاً لوالديهً وكاذباً فيشهد زوراً وهي أشد أنواع الكذب ، ومن يفعل هذا لن يكون في رحمة الله وتوفيقه.
من كل هذا نجد أن للأيمان والعقل دور هام في برِّ الوالدين والإحسان إليهما ، فالمؤمن لا يعق والديه لأن برّه لوالديه ركن من أركان إيمانه . ومن كان لديه العقل فيملأ قلبه الأيمان ، ومن كان مؤمناً لا يعقّ والديه ولا يخونهما ويتنكر لهما ولا يرغب عنهما ولا يملأ نفوسهما حُزْناً ومرارة وشقاء ولا يعصيهما إلاَّ في طاعة الله تعالى ويحافظ على عهدهما وبرّهما . فالعاقل لا يصاحب عاقّاً ، فمن خان أمّه وأبوه وعقّهما ونقض حكم الله تعالى وميثاقه لن يكون صادقاً ووفياً لصديقه ورفيقه وزوجه وأولاده وجيرانه بل كل من يعرف ، والله تعالى يقول في سورة محمّد : ‘‘ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أمَرَ اللهُ بِهِ أن يًُوصَل وَيُفْسِدونَ فِي الأرْضِ أولَئِكَ لَهُمُ اللعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ(22)’’ . والله تعالى يوصى في القرآن الكريم الإنسان بوالديه خيراً وطلب إليه أن يكون دائم الشكر والامتنان لهم لأنهم سبب وجوده في الدنيا ، فقال تعالى في سورة لقمان : ‘‘ وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنَاً عَلى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَينِ أنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِديْكَ إلَيَّ المَصِيرُ(14)’’ ، وهنا نلاحظ الجمع والربط بين الشكر لله تعالى والشكر للوالدين ، وهذا له معنى ومغزى كبيرين .
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى . نسأل الله تعالى بقدرته وحفظه أن يتولانا برحمته وكرمه وجودِهِ وعزّته ومغفرته وهو أرحم الراحمين ، وأن يجمعنا بأحبتنا وأهلينا دائماً على الخير ، وأسأله أن يغفر لوالديَّ وموتى وشهداء المسلمين في الوطن والغربة ، وأن يمنَّ بمغفرته وتوبته فيجعلهم في أعلى الجنان في عليين وأن يرحم ويغفر لمن كان سبباً في هذه الرحمانيّات الربّانية ، اللهمَّ آمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين .
[1] علا سلامه سالم الشيخ | جزاك الله خيرا | 29-06-2011