مقالات

رحمانيّات ربانية (26) الولد المر (2) بقلم المنتصر بالله حلمي

بسم الله الرحمن الرحيم


( رحمانيّات ربانية )
( 26 )
الولد المرّ ونِعمة البرِّ (2)

 

اللهم لكَ الحمد وأفضل الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يتم علينا نعمة الهدى والبر والإحسان ، أنه السميع العليم المجيب . ورد في الأثر أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقف على باب أمه ويقول:( السلام عليك يا أمتَّاه ورحمة الله وبركاته ) فتقول له:( وعليك يا بني ) فيقول:( رَحِمَكِ الله كما ربيتني صغيراً ) فتقول:( رحمك الله كما بررتني ).
كما ورد في الأثر أنه قيل لعلي بن الحسين رضي الله عنه:( إنك من أبرّ الناس ولا تأكل مع أمّك في صحفة ( طبق ) ، فقال:( أخاف أن تسبق يدي يدها إلى ما تسبق عيناها إليه فأكون قد عققتها ) . والبِرّ شعبة وباب من شُعَبِ وأبواب الإيمان ، ولكل شُـعْبة أو باب مفتاح ، ومفتاح البرِّ هو الصدق مع الله تعالى في العبادة والطاعة والصدق مع النفس والناس أجمعين ، فما بالنا مع الوالدين . والبرُّ في اللغة : هو الخير ، وتعني : صَدَقَ ووفَّى بوعده ، وبرَّ : كَمُلَ ، ضدَّ فَجَرَ فهو بَرٌّ . و بِرَّاً : أي تَوَسَّعَ في الطاعة ، وفلان برَّ: أي صَلُحَ . وبرَّ اليمين: أي صَدَقَ اليمين . وبرَّ البَيْعُ : تَقِيَ وخَلاَ البَيْعُ من الشبهة والكذب والخيانة . و الله أبرَّهُ : أي أجابه إلى ما أقسم عليه ، وفي الحديث:‘‘ رُبَّ أشعث أغبر ذِي طمرين لا يؤبه لو أقسم على الله لأبرَّه ’’ . وبرّر عَمَلَهُ أي : زكّاه ، والأبرَّ: هو اسم تفضيل فيقال: أصلح العرب وأبرّهم: أي أصلحهم في الفصاحة وأبعدهم في البِرِّ . وبَرَّ والديه: تعني توَسَّع في الإحسان إليهما ووصلِهِمَا فهو: بَارٌّ ، والجمعُ : بَرَرةٌ ، وبَرٌّ: جمعُهُ أبرار . ( القاموس المحيط ص 48) . والبِرُّ في الفقه والشرع هو:[ كلُّ عملٍ صالح أو خير أو طاعة إيمانية ترتبط بالعبادة والوصل مع الله تعالى وبكل وسـيلة متاحة للإنسان] ، فالصلاة والزكاة والصيام والحجّ والصدقات والذِّكر وحُسن الخُلُق والصبر على الابتلاء وبرِّ الوالدين وصلة الأرحام ، كلها من أعمال البِرِّ .

أمَّا بِرُّ الوالدين في اللغة وعلوم الدين والفقه فتعني:( التوَسَّع والمبالغة في الصدق في الإحسان إلى الوالدين ووصلهما ، وتقديم كل الخير لهما بصدق وإخلاص وبعيد عن الشبهة والكذب والخيانة والمصلحة بكل وسيلة متاحة إن كانا على قيد الحياة أو بعد موتهما) . والوالدين هما أوَّل وأوْلَى رَحمٍ يجب على المرء أن يصلهما ويبرّهما ، ومن كان صادقاً ومؤمناً صحيح الإيمان فهو يصل والديه ورَحِمَهُ ويصْدُق معهم ويتّقي الله تعالى فيهم ويحافظ على عهد الله تعالى في برِّ والديه مصداقاً لقول الله تعالى في سورة النساء:‘‘ وَاتَّقُواْ اللهَ الَذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيبَاً(1)’’. من أجل هذا فإن برُّ الوالدين ووصلهما في أصغر الأمور وأكبرها ومطلوب ومندوب إلى المسلم ، لأن البرَّ أمرٌ وحُكْمُ وقضاءٌ ربّاني لا لبس ولا رجعة ولا نقضٌ فيه ، بل طاعةً وامتثالاً له في حياتهما ومعرفة حقّهما بعد موتهما فيدعو لهما بالمغفرة على أثر كل صلاة فيقول:‘‘ رب ارحمهما كما ربيّاني صغيراً ’’ مصداقاً لقول الله تعالى في سورة الإسراء:‘‘ وَقضَـى رَبّكَ ألاَّ تعْبدُوُاْ إلاَّ إيَّاه وَبِالوَالِدَينِ إحْسـانَاَ إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أحَدُهُمَآ أوكِلاَهُــمَا فلا تَقُل لَّهُـمَـآ أُفٍ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُـل لَّهُـمَا قَوْلاً كَرِيمَاً (23) َاخْفِضْ لَهُـمَا جَنـاحَ الذُّلِّ مِن الرَّحْمَـةِ وَقُـل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبيَّانِي صَغِيرَاً(24)’’ .
في هذه الآيات الكريمة توجيه رباني بالاحترام والتقدير وحُسْن المعاملة والقول الكريم والرفق والرأفة والرحمة بالوالدين ، ونهيٍّ ربّانيّ عن قول أقل الأشياء لهما يكون منافٍ للخلق الكريم أو بعيد عن الرحمة والمودة وحُسن التعامل ، ووجوب الدعاء لهما بالرحمة من الله تعالى كما كانوا يرحمون ويرعُون أبنائهم وهم أطفال صغار كما يرحموهم أبناءً كباراً .
لقد جاء الأمر الربّاني في تلك الآيات الكريمة بالإحسان والرفق والرحمة والاحترام والدعاء والتقدير والتذلل وعدم أذيّة الوالدين مادياً أو معنوياً أو نهرهما أو قهرهما بالكلام والتعامل القاسي ، ومن يفعل مع والديه كما أمر الله تعالى بِبرِّهما ورحمتهما والدعاء لهما كما جاء في الآية الكريمة فإنه يكون ابناً باراً التزم بأمر الله تعالى في حياة والديه وبعد مماتهما فكان وفياً لهما بإحسانه وبرّه فيرفع الله تعالى درجاته في الدنيا بين الناس والآخرة برحمته .

رُوِيَ في الأثر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:‘‘وقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسَانَاً ’’ ، يعني أمَرَ ربك أن لا توّحِدوا أو تعبدوا غير الله تعالى ،‘‘ وبِالوَالِدَيْنِ إحْسَانَاًَ’’ يعني بَرّاً بهما وعطفاً عليهما [ والإحسـان في العبادة - أيِّ عبادة - هو عبادة المؤمن بأفضل وأحسن درجاتها ، فإحسان الولد لوالديه هو أن يعاملهما بالأفضل والأحسن والأصدق والمبالغة والتوَسَّع في وصلهما بكل وسيلة متاحة ، وتقديم كل الخير لهما بصدق وإخلاص بعيد عن الشبهة والكذب والخيانة إن كانا على قيد الحياة أو بعد موتهما ] . وأمّا قوله تعالى:‘‘ وقَضَى ربُّكَ..’’ ، فهذا أمرٌ وقضاءٌ ربانيٌّ مبرمٌ لا نقض ولا رجعة عنه ، بل طاعةٌ ورضاً وامتثالاً لأمر الله تعالى ، وعلى الناس الامتثال والطاعة له ، فيطوّعون نفوسهم وعقولهم وحواسهم وكِبرِهم لهذا الأمر الرباني .
وبرُّ الوالدين : أن يكون الولد صالحاً ومحسناً مع والديه بأفضل وأعلى ما عنده من إحسانٍ وبرِّ ورحمة . ‘‘ إمّا يبلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَر ’’ أي يصبحا كبيرين في العُمْرِ أحد الأبوين أو كلاهما ‘‘فلا تَقُلْ لَهُمَا أفٍ’’ يعني :عدم تقذيرهما والتقليل من احترامهما ، وعدم القول لهما قولاً رديئاً حتى بأقل الكلمات . ويقال في هذا المعنى: أنه إذا كبر الأبوان واحتاجا إلى رفع بولهما أو غائطهما فلا تأخذ بأنفك عند ذلك ولا تعبس بوجهيهما فإنهما قد رفعا ذلك منك في صِغرِك ورأيا منك مثل ذلك كثيراً . ثم قوله الله تعالى:‘‘ ولا تَنْهَرْهُمَا ’’ أي لا تغلظ لهما القول والتأنيب البعيد عن السويّة وأدنى درجات الأخلاق والأدب المطلوب توفرهما مع الوالدين . فنجد البعض يصرُخ في وجه أمّه أو أبيه ويجادلهما بأقسى درجات الجدال ، وهذا لا يليق بابن بار بوالديه ، ولا يفعل ذلك إلاَّ عاقّاً لوالديه وعاصياً لله تعالى .وقوله تعالى:‘‘ وقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمَا ’’ أي قولاً ليّناً حسناً فيه الاحترام والحب والرعاية .
‘‘ واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحِ الذُّلِ مِّنَ الرَحْمَةِ ’’ أي كن ذليلاً لهما رحيماً عليهما .‘‘ وقُل رَبِّ ارحَمْهُمَا كَمَا رَبيَّانِي صَغِيرَاً ’’ ، فإذا ماتا فادع لهما بالمغفرة والرحمة وقل : يا ربِّ ارحم والديَّ كما ربياني صغيراً ) . والله تعالى نهى الأبناء عن التذمر والتأفف من والديهم ، وهذا يحدث كثيراً من قِبَل العصاة من الأبناء ، من أجل هذا نهى الله تعالى الأبناء عن قول أقل الكلمات تأففاً وضجراً وضيقاً وتمرّداًً وخروجاً عن طاعة الوالدين وهروباً وتهربّاً من طلب أو سؤال حاجة . وأقل الكلمات هي الكلمة المكَّونة من حرفين: ‘‘ أُفٍّ ’’ وما أكثر ما يقول بعض الأبناء لوالديهم في أيّامنا هذه ( أُفٍّ ) بل يقول ويفعل ‘‘ البعض ’’ منهم بوالديه الأفاعيل والأباطيل التي لا تصدر إلاَّ عن عاقٍ لا يعقل . أما قول ‘‘ الأفِّ ’’ فنجد أن من قالها لا ينطق بهما أي أنّه لا يفتح فمه بكلامٍ ، وإنَّما هو كمن ينفخ الهواء من فمه ، وبالرغم من ذلك ، أي بالرغم من عدم التحدّث أو النطق بكلام ، فإن ذلك عقوق وإساءة للوالدين نهانا الله تعالى عن قوله أو فعله نهياً قاطعاً فما بالنا بما هو أكثر من ذلك . ويقول سيّدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورضي الله عنه في تلك ( الأُفِّ ):‘‘ لو علم الله شيئاً في العقوق أدنى من ‘‘ أفٍّ ’’ لحرّمهُ ، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار ’’ . وقد نجد في أيامنا هذه ‘‘ بعض ’’ الأبناء ينهرون والديهم ويصرخون في وجهيهما ويتجبّروا عليهما ولا يقول ذاك ‘‘ البعض ’’ لوالديهم إلاّ القول السيئ البعيد عن الاحترام والكرم ، ولا يتعاملون معهما إلاّ بسوء المعاملة والقسوة والمعصية والقهر بدلاً من أن يخفضوا لهما جناح الذلّ من الرحمة والدعوة لهما بالمغفرة ، وقد يصل بالبعض – والعياذ بالله - إلى الضرب ، ومن يفعل هذا أو بعضه فليراجع إيمانه وإحسانه وبرّه لوالديه . يقول الفقيه أبي الليث في كتابه (تنبيه الغافلين):(‘‘ قرأت في بعض الكتب أنه لا ينبغي للولد أن يتكلم إذا شهد والديه إلاّ بإذنهما ولا يمشي بين يديهما ولا عن يمينهما ولا عن شمالهما إلاّ أن يدعواه فيجيبهما ، ولكن يمشي خلفهما كما يمشي العبد خلف مولاه ’’ . وقد كان من وصايا لقمان الحكيم لابنه بأن يغضض من صوته عندما يتحدث مع الآخرين فلا يتكلم بصوتٍ عالٍ وإنّما بصوت متزن وهاديء ، وهذا يُعطي المتحدّث مصداقيّة فيُكسُبه احترام وتأييد الآخرين ، قال تعالى في سورة لقمان : ‘‘ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ(19) ’’. والقصد في المشي معناه : السكينة في المشيّ ، والسكينة لا تكون إلاّ لمؤمن .

وأختم ببعض ما نجده في الأثر والحديث الشريف أن رجلاَ قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:( إن لي أماً بلغ منها الكِبَر أنها لا تقضي حاجتها إلاّ وظهري لها مطية ، فهل أديتها حقها ؟ قال: لا ، لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاؤك ، وأنت تصنعه وتتمنى فراقها ) . وذُكر أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:‘‘ يا رسول الله إنَّ أمي خرِفَت عندي وأنا أطعمها بيدي وأسقيها وأوضئها وأحملها على عاتقي فهل جازيتها ؟ قال : لا ، ولا واحد من مائه ، ولكنك قد أحسنت والله يثيبك على القليل كثيراً ’’.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً أتاه فقال:‘‘ إن لي امرأةً وإن أمي تأمرني بطلاقها ، فقال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:‘‘ الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضِعْ ذلك الباب أو احفظه ’’ . ‘‘ .. رَبَنَا لاَ تُؤَاخِذنَآ إن نَسِينَآ أو أخْطَأنَا رَبَّنا ولا تَحْمـِـل عَلَينَا إصْـراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذِّيِنَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَـا وَلا تُحَمِلّنَا مَا لاَ طَاقَـــةَ لَنَا بِهِ واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْـنَا أنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرنَا عَلَى القوَمِ الكَافِرِينَ(286)’’

اعتذر عن الإطالة ولكن الموضوع يستحق لأكثر من هذا وقد نعود إليه ، أسأل الله تعالى أن يرحم كل والد ووالدة في الحياة والممات ، وأن يرحم والديَّ ويرفع درجاتهما في أعلى عليين في الفردوس الأعلى مع النبيين والصدّيقين وحَسُنَ أولئك رفيقاً ، واليوم الذكري الثانية لرحيل والدتي فأسأل الله تعالى أن يوسع لها في قبرها نوراً وضياءً ورحمةً وإحساناً ، ويرفع لها مع والدي وكل أموات المسلمين درجاتهم في الجنّة فيتجاوز عن سيّئاتهم ويزيد في حسناتهم ودرجاتهم ، وأن يلهمنا دائماً أن نكون من الأبرار والبارين ، وأن يرحم ويغفر لمن كان سبباً في هذه الرحمانيّات الربّانية، اللهمَّ آمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين .

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على أ. المنتصر بالله حلمي أحمد الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد