بسم الله الرحمن الرحيم
( رحمانيّات ربانية )
(30)
لا تســــــــامح !!
الحمد لله والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يتم علينا نعمة الهدى والتوبة ومعرفة الخيرات وإتّباعها ، أنه هو السميع العليم المجيب .
تختلط المشاعر عند كثير من الناس بين همومهم الشخصية وهموم العامة ممن حولهم ، وقد نجد - خصوصاً هذه الأيام - قلوباً تملؤها الضغينة والحقد نتيجة كثرة وتفاقم الظلم والقهر الذي يقع عليهم من شمشون وهرقل والروم ، وأولئك كلهم ما زالوا يخرجون من نصرة ظلمٍ إلى نصرة ظلم آخر في مكان أخرى ، وكأن الله سبحانه وتعالى خلقهم امتحاناً لهذه الأمة الصابرة ... وقد تكون تلك الهموم فيها شيء من مرارة وسرور ، أو فرحٌ يكسوه غصةٌ في القلوب ، ولكن الله وعد عباده الصادقين بألاّ يخذلهم ولو بعد حين .
وقد اخترت عنواناً لمقال اليوم ( لا تسامح ) فمن أراد أن يقرأها بفتح التاء والسين وضم الميم فليفعل ، ومن أراد أن يقرأها بضم التاء وفتح السين وكسر الميم فليفعل ، وكما يُحب أو كما يرى القاريْ من حوله العالم والأمّة البائسة المسكينة والمقهورة والمطحونة والمسلوبة والمذبوحة من الوريد إلى الوريد !! .
عندما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة المكرمة خاطب قريش والعرب أمامه فقال : ( اذهبوا فانتم الطلقاء ) بالرغم مما فعلوه بالمسلمين من القسوة والظلم والقتل والحصار والتجويع وكل أصناف العذاب ، وتلك هي الأخلاق المحمّدية الربّانيّة الحقيقية . أمّا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد استعان بعضٌ من بعض العرب بالروم على اخوتهم الآخرين ، ولكن بقيت كلمة الله هي العليا ، ونصر الله تعالى المؤمنين المتمسكون بالحق والحقيقة الراسخة . وبعد الخلفاء الراشدين توالت المؤامرات واحدة تلو الأخرى ، وكلما انطفأت فتنةٌ ، أيقظ الأعداء فتنة أخرى ، ولكن الله تعالى يطفأها بنوره ولو كره الكافرون .
وعلى هدى الأخلاق المحمدية الحقيقية كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوصي جيوش المؤمنين والمحاربين عند خروجهم في الغزوات وينهاهم عن قتل شيخاً عجوزاً أو أسيراً أو امرأة أو طفلاً أو أن يقتلعوا زرعاً أو شجرة أو أن يهدموا معبداً أو صومعة يتعبد فيها الناس أو أن يمثلوا في قتيل بعد موته ، لذلك تعزّزت قوتهم وقوة الدعوة التي كانوا يدعون إليها ، من أجل هذا دخل ملايين الناس إلى الإسلام بدون حروب وإنما بالسلوك الطيّب للمسلمين ، وهذا ما رأيناه في دول كثيرة مثل اندونيسيا التي دخلها الإسلام بأخلاق المسلمين وليس بسيوفهم . وهذا ما لا نراه اليوم ولا نرى شبيه له لا من قريب أو من بعيد . وإنما نرى عن أيماننا وشمائلنا وأمامنا وخلفنا نفاقاً وكذباً على الله تعالى ، يُرضي من يمارسه وبعضٌ من الناس ، وكثير من الروم !! .
أمّا الخداع والغدر والخيانة والكذب وعدم الوفاء بالعهـد فكلها في النار ، أماّ الوفاء فهو من شِيَم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة ، ومن الصفات والخلال الحميدة . وصاحب الوفاء يُعظَّم في نفوس وعيون الناس فيحبونه ويحترمونه ، ومن وفَّى مع الناس وفَّى مع الله تعالى .
والله تعالى نهى عن الغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد . والعهد هو الوعد أو العقد أو الاتفاق بين طرفين أو أكثر ، والله تعالى يقول في سورة الإسراء آية(34): ‘‘ وَأَوْفُواْ بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ’’. وقال جلَّ شأنه في سورة النحل آية (91): ‘‘ وَأوْفُواْ بِعَهْدِ الله إذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدَهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ’’ .
والغادر يُعقد له أي يُعَلَّق له يوم القيامة رايةً كبيرة يُعرف بها بين الخلائق لزيادة تحقيره وازدرائه والتشهير به فيوضع له عند دبره لواءً لتعرف الخلائق بغدره في الدنيا . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهم جميعاً قالوا : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ‘‘ لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة ، يقال : هذه غدرة فلان ’’ . وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : ‘‘ لكلِّ غادرٍ لواءٌ عند إسْتِهِ يوم القيامة يُرفع لهُ بقدر غَدْرِهِ ألا ولا غادرٍ أعظم غدراً من أميرِ عامةٍ ’’ .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص ويخاف على أمته من العذاب ، ومات صلّى الله عليه وسلم وهو يقول : ( أمّتي أمّتي ) ، والله تعالى وصفه صلّى الله عليه وسلّم بأجمل صفات الرحمة والرأفة بأمته ، فقال تعالى في آخر آيتين من سورة التوبة: ‘‘ لَقَد جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤمنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ(128) فَإنْ تَوَلَواْ فَقُل حَسْبِيَّ اللهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَلّتُ وَهُوَ رَبُّ العَرشِ العظِيمْ(129)’’ . وقال جلَّ شأنه في سورة الفتح:‘‘ مُحمدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (29)’’ ، فالمؤمن أخو المؤمن وهو لطيف ورقيق ورفيق مع أخوته المؤمنين ولكنه شديد البأس على الكافرين .
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:‘‘ إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يُعطى على العنف ’’ . وعن السيدة عائشة رضي الله عنها أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ‘‘ إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلاّ زانه ولا يُنزع من شيء إلاّ شانه ’’ . كما قالت رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ‘‘ إذا أراد الله تعالى بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق وإن الرفق لو كان خَلْقَاً لما رأى الناس خَلْقَاً أحسن منه وإن العنف لو كان خَلْقَاً لما رأى الناس خلقاً أقبح منه ’’ .
والله تعالى لا يغفل عن الظالمين مصداقاً لقوله تعالى في سورة إبراهيم :‘‘ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَل الظَالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصَارُ (42) مُهطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرَفَهُمْ وَأفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)’’ . وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ‘‘ إنَّ الله تعالى يُملي للظالم فإذا أخذه لم يُفْلِتْهُ( أي لا ينجو الظالم من أخذ الله سبحانه وتعالى ) ثم قرأ :‘‘ وكذلك أخذُ رَبِّكَ إذَآ أخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ ’’ (سورة هود آية 102) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ‘‘ الظلمُ ظُلمات يوم القيامةِ ’’ .
لقد وعد الله تعالى المؤمنين بالنصر المؤزر ليعلوا الحق ويمحق الكافرين ومن لف لفهم ، ولن يُخلف الله وعده ، والله تعالى لن يخذل عباده المخلصين ، ونسأله تعالى أن يتولانا ويرحمنا بجوده وكرمه وعطفه وهو ارحم الراحمين ، وأن يرحم أموات وشهداء المسلمين ووالديَّ وأن يجعلهم في الفردوس الأعلى مع عباده المخلَصين وحَسُنَ أولئك رفيقاً ، وأن يرحم ويغفر لمن كان سبباً وساعد في نشر هذه الرحمانيّات الربّانية ، اللهمَّ آمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين .
[1] إيمان فتحي خالد الأغا | إلى من يملك نفسا وعقلا وعلما بعدد من يعلمهم | 30-10-2011