( رحمانيّات ربانية )
( 37 )
في رحاب الفاتحة
الحمد لله وأفضل الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يتم علينا نعمة الهدى وذِكرِه في كل وقت وعلى كل حال ، أنه هو السميع العليم المجيب .
انزل الله تعالى على رسولنا الحبيب قرآناً فيه البيان وكل الفضائل للدنيا والآخرة . وأمرنا سبحانه وتعالى بتلاوته وجَعَلَهُ مُيَّسراً وفي متناول أيدينا ، فلا يخلو بيت مسلم من كتاب الله ، فقال تعالى في سورة القمر:‘‘ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرءَانَ لِلذِّكْـرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكرٍ’’(آية 17) ، وأمرنا بتدبّره وليس قراءةً وحسب ، فقال في سورة محمد (آية24):‘‘ أفَلاَ يَتَدَبَّـرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلَى قُلُوبٍ أقْفَالُهَا ’’ ، وقال سيّدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه:‘‘ لا خيرٌ في عـبادةٍ لا فقه فيها ، ولا خيرٌ في قراءة لا تدبر فيها ’’ .
ونحاول هنا تدبّر بعض من فضائل ‘‘ سورة الفاتحة ’’ التي تسمى بهذا الاسم الشريف لافتتاح القرآن الكريم بها ، فهي أول القرآن الكريم في الترتيب ولكنها ليست الأولى في النزول . والفاتحة على قلّّة كلماتها إلاّ انها اشتملت معاني القرآن العظيم ، من عقيدةٍ ، وعبادةٍ ، وتشريع واعتقاد باليوم الآخر ، والإيمان بصفات الله الحسنى ، وإفراده بالعبادة والاستعانة والتوجه إليه بالتضرع والدعاء بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم وتجنب طريق المغضوب عليهم وهم اليهود ، وتجنب طريق الضالين وهم النصارى ، ولهذا تسمى أم الكتاب .
وللفاتحة أسماء عديدة ، فهي الفاتحة ، وهي أم الكتاب ، وهي أم القرآن ، وهي السبع المثاني ، وهي الشافية ، وهي الوافية ، وهي الكافية ، وهي الأساس ، وهي المنجِّية ، وهي الحَمْد . وفيها خمسة أسماء من أسماء الله الحسنى : الله ، ربّ العالمين ، الرحمن ، الرحيم ، مالك يوم الدين .
والفاتحة فيها موقف العباد الحامدين لله تعالى - وهي اشرف المقامات - ، وفيها مقام التمجيد لله تعالى ، والإقرار بربوبيتة وسيادة إلوهيته ، وإقراراً بعبودية الإنسان لله تعالى وأنها حق لله تعالى عليه واعترافه بفقره لربه وحاجته إليه والاستعانة به ، وموقف الاستجداء والاستهداء والتعوّذ والتحصّن به في كل الأوقات ، وهي جامعة لذكر الله تعالى وحمده والثناء عليه ، وطلب الثبات على الإيمان ، وكلّ ذلك مضمون الإجابة والقبول - إنشاء الله - بدليل الحديث: ‘‘.. ولعبدي ما سأل ’’ . وقد جاء في الحديث القدسي :‘‘ يا عبادي كلكم ضالٌّ ، إلاّ من هديته فاستهدوني أهدكم ’’ .
وعن ابن عباس رضيّ الله عنهما قال : ‘‘ بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع رأسه فقال : ‘‘ هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قطّ إلا اليوم فنزل منه مَلَكٌ ، فقال:هذا مَلَك نزل إلى الأرض لم يـنزل قطّ إلا اليوم ، فسلم وقال : ‘‘ ابشر بنوريّن أوتيتهما ، لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحـة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لم تُقرأ بحرف منه إلا أُعطيته ’’ ، أي أُعطيت ثوابه ، وما اشتمل عليه من الدعاء .
وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ‘‘ قال الله تعالى : قسّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمـدني عبدي ، فإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي ، فإذا قال : مالك يوم الدين ، قال مجّدني عبدي ، فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم .صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ’’ وقول الله تعالى : ‘‘ ولعبدي ما سأل ’’ هي ضمانة الإجابة لا محالة .
وقد روى الإمام أحمد في المسند أن أُبيَّ بن كعب قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم أم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ‘‘ والذي نفسي بيده ما أُنزِلَ في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ، هي السبع المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه ’’ . والمثاني مشتق من الثناء لما فيها من أنواع ثناء العبد على الله تعالى : بالذكر والحمد ، والتمجيد ، والتوحيد لله تعالى ، وثناء الله على العبد الذي يتلوها ، وينال فضل قراءتها .
ومن السُنَّة أن يقول القارئ ( آمين ) في نهاية قراءتها ، وقد روى الإمام أحمد عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : ‘‘ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِيِن ’’ فقال : ‘‘ آمـين ’’ ، يمد بها صوته صلى الله عليه وسلم . وروى مسلم وغيره عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :‘‘ إذا قرأ - يعني الإمام - ( غيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّين ) فقولوا : آمين ، يجبكم الله تعالى ’’ ( أي يستجيب دعائكم ).
والتأمين يُستحب عند كل دعاء ، فقد أخرج أبو داوود بسندٍ حسن عن أبي زهير النميري رضي الله عنه - وكان من الصحابة - أنه كان إذا دعا الرجل بدعاء قال : اختمه بآمين ، فإن ( آمين ) مثل الطابع على الصحيفة . وقال رضي الله عنه : ( أخبركم عن ذلك : خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلةٍ ، فأتينا على رجلٍ قد ألحَّ في المسألة - أي الدعاء - فوقف النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمع منه ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : ‘‘ أوجب إن ختم ’’ ، فقال رجل من القوم : بأي شيء يختم ؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم : بآمين ، فإن من ختم بآمين فقد أوجب ’’ أي تحتمت إجابة دعائه ، اللهمَّ آمين .
وفي روايات عن أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:‘‘ إذا أمَّن الإمام فأمنِّوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ’’ .
وروى الديّلمي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ‘‘ من قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ثم قرأ بفاتحة الكتاب ثم قال آمـين ، لم يبق في السماء مَلَكٌ مقرَّب إلاّ استغفر له ’’ .
ولنعلم أن الداعي والمؤمِّن على الدعاء شريكان في الدعاء ، والدليل على ذلك ما رويَّ عن عكرمة قال:( كان موسى عليه السـلام يدعـو ، ويؤمن هارون عليه السلام ) ، أي حين دعا موسى عليه السلام على آل فرعون بقوله : ‘‘ رَّبَنَا اطْمِسْ عَلَى أمْوَالِهِم وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوُبِهِمْ فَلاَ يُؤمِنُواْ حَتى يَرَواْ العَذَابَ الأََلِيمَ ’’( سورة يونس آية 88) ، فقال الله تعالى: ‘‘ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ’’(يونس آية 89) .
وقد تواترت الأحاديث النبوية الشريفة في فضل فاتحة الكتاب ، ومنها ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:‘‘ فاتحة الكتاب أنزلت من كنز العرش’’ ، وقال صلى الله عليه وسلم:‘‘ أفضل القرآن الحمد لله ربّ العالمين ’’ ، وقال صلى الله عليه وسلم:‘‘ فاتحة الكتاب وآية الكرسيّ لا يقرؤهما عبد في دار فتصيبهم في ذلك اليوم عين انس أو جن ’’ ، وقال عليه الصلاة والسلام: ‘‘ فاتحـة الكتاب شفاءٌ من كل داء ’’ .
وأمّا طلب الهداية على الصراط المستقيم يوم الحساب يوم القيامة ، ودعاء المسلم المؤمن بقوله:‘‘ إهدنا الصراط المستقيم ’’ ، فذاك هو رجاؤه بأن يهديه الله سبحانه وتعالى الجواز على الصراط يوم القيامة ، ذلك الجواز الذي يلزمه مفاتيح تساعد المؤمن على جواز الصراط ، ومن تلك المفاتيح الصلاة والسلام على سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ، وهو الشفيع فينا ، ويقول:‘‘ إذا عصف الصراط بأمتي نادوا وامُحمَدَاه وامُحَمَدَاه فأبادر من شدّة إشفاقي عليهم ، وجبريل آخذ يحجزني فأنادي رافعاً صوتي : ربِّ أمَتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي ولا فاطمة ابنتي ، والملائكة قياماً عن يمين الصراط ويساره ينادون ربِّ سلّم سلِّم ’’ .
وقال عليه الصلاة والسلام : ‘‘ إذا أخذ أحدكم مضجعه ليرقد فليقرأ بأم الكتاب وسورة ، فان الله يُوكّل به مَلَكَاً يهب معه إذا هبّ ’’ . وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ‘‘ إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت بفاتحه الكتاب و ‘‘ قل هو الله أحد ’’ فقد أمنت من كل شيء إلا الموت ’’ .
وعن حفص بن عاصم بن أبى سعيد بن المعلّى قال : ( كنت أصلي فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم اجبه ، قلت : يا رسول الله إني كنت أصلّي ، قال : ألم يقل الله: ‘‘ اسْـتَجِيبوُاْ لِلهِ وَلِلرّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لمَا يُحْييكُمْ ’’ ( سورة الأنفال آية 24) ، ثم قال : ألا أعلمك أعظم سوره في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ، فأخذ بيدي ، فلما أردنا أن نخرج ، قلت : يا رسول الله انك قلت : ‘‘ ألا أعلمك اعظم سـوره من القرآن ’’ ، قال : ‘‘ الحمد لله ربّ العالمين ’’ ، هي السـبع المثاني ، والقـرآن العظيم الذي أوتيته ).
وعن أنس رضي الله عنه قـال : قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : ‘‘ أفضل القرآن (الحمدُ للهِ رَبّ العالمينَ ) ’’ . وقال عليه الصلاة والسلام : ‘‘ اسـتشفوا بما حمد الله نفسه قبل أن يحمده خلقه ، وبما مدح الله به نفسه ، الحمـد لله ، وقل هـو الله أحد ، فمن لم يشفه القرآن فلا شفاء له ’’.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:‘‘ من دخل المقابر ثم قرأ بفاتحة الكتاب ، و( قل هو الله أحد ) و ( ألهاكم التكاثر ) ثم قال : جعلت ثواب ما قرأت لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات – كانوا شفعاء له إلى الله تعالى ’’ .
تلك الفضائل غيض من فيض في فضل سورة الفاتحة ، نسأل الله تعالى أن يمنحنا ثوابها ويباركنا ويحفظنا ويهدينا بها ، إنه أكرم من سُئِل وأعظم من أعطى بعطائه الكثير ، وأن نكون ممن يُظلّنا بظلّه يوم لاظلَّ إلاَّ ظلّه برضاه عنّا ورحمته وجوده وكرمه ولطفه ، وأسأله تعالى أن يتغمد والديَّ وأحبتنا والمسلمين والمؤمنين برحمته ومغفرته ، وأن يرحم ويغفر لمن كان سبباً وساعد في نشر هذه الرحمانيّات الربّانية ومن له حقٌ علينا ، في الدنيا والآخرة ، اللهمَّ آمين . وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا الحمد لله ربِّ العالمين.