بسم الله الرحمن الرحيم
بابُ الريّان
الحمد لله، وبعد:
فأولى ما تنافس فيه المتنافسونَ طاعةُ الله تعالى، وأحب ما تقربَ به العباد إلى ربّهم ما افترضه عليهم، ومن أجل فرائضه شريعةُ الصيام، وهذه إن شاء الله تذكرة نافعة مختصرة، أذكر فيها غرر مسائله وأحكامه دونَ الدليل إلا ما ندر، وهي مجموعة مما وقع لي من مطالعات الكتب؛ ومما سمعته من مشايخنا وأساتذتنا أيام الطلب، وأسأل الله تعالى أن ينفع بهَا القارئَ والسامع، وأن يوفقنا إلى كل عمل صالحٍ يرضيه، وأن يمن علينا بصيام رضان وقيامه، وأن يجعله شهر فتح ونصر لأهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربِها.
فيما لشَهْرِ رمضان في الإسلام من المنزلة
1- منها: أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، بل والكتبَ السماوية قبله، وقد خصه الله بالذكر في كتابه تشريفا.
2- ومنها: أنه شهر التوبة والعتق من النار، تصفد فيه الشياطين؛ فيزداد إقبال الناس على الخير.
3- وهو شهر الصبر والمواساة، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
4- وأن الله تعالى خصه بأفضل ليالٍ عشرٍ في العام، كما خصه بأفضل ليلة هي ليلة القدر.
5- وأنه عبادة اجتمع فيها أنواع من الطاعات: الصيام في نهاره، والقيام في ليله، وتلاوة القرآن، ومدارسة العلم، والدعاء، والإكثار من الصدقة، وإطعام الطعام، ومجاهدة النفس، والجهاد في سبيل الله، وصون الجوارح عما حرم الله، فالعين عن النظر الحرام، واللسان عن الفحش في القول؛ وعن الغيبة، وعن النميمة والإفساد بين الناس، واليدُ عن ظلم الناس والعدوانِ عليهم بغير حق، والرجل عن المشي بها إلى ما حرم الله، وبالجملة فإن من أفضل الأعمال في هذا الشهر الورعَ عما حرم الله.
6- ومنها: أنه ركن الإسلام والدين، وهو أحد المباني الخمسة في حديث ابن عمر، ومن العلماء من ذهب إلى القول بتكفير من تعمد ترك واحد من هذه المباني، وهي رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار أبي بكر الخلال وطائفة من أصحاب مالك كابن حبيب. حكى هذا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان.
7- ولو اجتمعتْ طائفةٌ على ترك صيام رمضانَ بقوة وشوكةٍ قُوتِلَتْ على ذلك قتال المرتدين مانعي الزكاة عند المحققين من العلماء، وهكذا كل من امتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة.
فصل في وجوب صيام رمضان.
1- لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}...وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام عاشوراء حتى فرض رمضان؛ ثم قال في عاشوراء: من شاء فليصمه ومن شاء أفطر.
2- وقال عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمس:...، وذكر منها: صوم رمضان.
3- وقد قال الذهبي رحمه الله: وعند المؤمنين مقرر أن من تركَ صوم رمضان من غير عذر أنه شرّ من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكونَ في إسلامه ويظنونَ به الزندَقَةَ والانحِلال.
في بيان فضل الصوم.
1- الصيام جُنّةٌ: أي وقايةٌ من الوقوع في المعاصي والشهوات، وذلك وقاية من النار وعذابها.
2- وخلوف فم الصائم – أي طعمُ الفم وريحُهُ المتغيرُ بالصوم – أطيب عند الله من ريح المسك!.
3- والصوم كفارة للذنب، وعصمة للعبد من الفتنة في أهله وماله وجاره. دليلُهُ حديثُ حذيفة عند البخاري.
4- وقد أعد الله تعالى للصائمين بابا في الجنة لا يدخل منه سواهم، يقال له: باب الريّان، من الريّ الذي هو نقيض العطشِ، كوفئَ ظمأُ الصائمِ في الدنيا بالري يوم القيامة، فالجزاء من جنس العمل.
5- وفيه تفتح أبوابُ الجنة، وتغلق أبواب النار، وتسلسل الشياطين، فمن صامه إيمانا واحتسابا غفرَ له ما تقدم من ذنبه.
6- ومن فضائله أن الله تعالى خصّ به نفسهُ، وتولى مجازاة الصائم بنفسِه، كما عند البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به!، وإنما خص الصوم بهذا لأن كل عمل ابن آدم يدخله حظ النفس، إلا الصوم، فإنه لو شاء أفطر سرّا وأخفاه عن الناس وتظاهر بالصيام، فإذا أمسكَ مع غياب الرقيبِ كان مظنّةَ خلوص النية.
7- ومنها أن الله تعالى جميع للصائم بين فرحتين، فرحةٍ طَبْعِيّةٍ في الدنيا بفطرهِ لأن الإنسان مفطور على الحاجة إلى الطعام والشراب، وفرحةٍ في الآخرة إذا لقى ربه فجزاه عليه الجزاء الأوفى.
8- ومنها أن الصوم عونٌ على ما يحبه الله تعالى وأمرَ به من غَض البصر، وتحصين الفرجِ لمن لم يستطع النكاح، فيعتصم به حتى يغنيه الله من فضله، والأحاديث في فضائله كثيرة، والمراد هنا الاختصار.
في بيان جملة من حِكَمِ الصيام وفوائده:
1- منها قوله تعالى: {كَتِبَ عليكمُ الصيامُ كما كتبَ على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، وجه ذلك: أن من امتنع عن الحلالِ طلبَ مرضاةِ الله تعالى كان أقدرَ على اتّقاءِ ما نهى الله تعالى.
2- ومنها: تربية النفس: بكبح جماحها عن الشهوات، فإنه لا أضرّ على النفس من إعطائها كل ما تريد!، حُكِيَ أن بعض الملوك أراد أن يقتل خصماً له دون أن يثير الريبةَ حولَ قتله، فاستشارَ بعض وزراءهِ، فأشار عليه أن يُسكِنَهُ قصراً وأن يلبيّ له كلّ ما يشْتَهيه!.
3- ومنها: تقوية الإرادةِ، ولا بد في ذلك من قَهر النفسِ وفطامِها عن مألوفاتِها، والطبائعُ كما تأسِرُ الأفرادَ تأسرُ الأمم!، ولا شيءَ أضر على الأمةِ من اعتيادِ المألوفاتِ التي تكسر الإرادَةَ وتُذهبُ العزيمةَ، والأمةُ التي تغفُل عن ذلك تُطْمِعُ عَدُوّها بِها، ومن أصولِ المحافَظةِ على مكانةِ الأمة دوامُ اليقظَةِ ودوام الاستعداد لما يواجهها من الخطر.
4- ومنها: تربيةُ الروح العسكريّةِ في الأمة والمجتمع، فالانضباطُ، والنظام، والمحافظة على المواعيدِ في الفطر والإمساك والسحور وغيرها، وأداءُ ذلك كله بروح الجماعة الواحدةِ والأمة الواحدةِ امتثالا لأمر الله تعالى، كل هذا يقضي على روح الفوضى في المجتمع، ويقوي روح التماسك والشعور بالصف الواحد، ولا تعجبْ فإن الجهادَ في سبيل الله روحُ الإسلام، والتربية العسكريةُ للأمة والمجتمعِ في كل شريعة وشعيرة من شرائعِهِ وشعائره، ومكانةُ الأمة بين الأمَمِ مكانةُ المعلم من التلاميذ، ومكانةُ الرائدِ من الجندِ، وذلك يوجِبُ ما ذكرناه.
5- ومنها: فوائد صحية وطبية ترجع إلى راحة الجهاز الهضمي وراحة الكبد، وتقوية المعدة، وفي الصيام علاج لكثيرٍ من الأمراض، كالسكري، والكليتين، وخفض (الكلسترول) في الدم، وأمراض الكبد، وتصلب الشرايين، وارتفاع ضغط الدم، والربو القصبي، وازدياد الوزن، والأمراض الجلدية، وآلام المفاصل، وغير ذلك، حتى قال بعض أطباء أوروبا: إن فائدة الجوع قد تفوق بمراتٍ استخدام الأدوية!، بل وثتت نفعه في علاجِ الاضطرابات النفسية والعاطفية.
6- ذكر العلامة الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في كتابه السلسلة الصحيحة أنه أصيبَ بمرضٍ أثناء إقامته في سوريا الشام، وحاول علاجه بالرجوع إلى الأطباء فلم يُجْدِ نَفعا، ثم إنه صام عن تناول الطعام أربعين يوماً متتاليةً!، لا يطعم فيها غير الماء، فشُفِيَ وعوفِيَ وعادتْ صحته خيرا مما كانت.
7- قال مقيده عفا الله عنه: قد جربتُ مراراً معالجةَ سوء الهضم واضطراب المعدةِ واستطلاق البطن بالصيام عن الطعام والشراب أربعا وعشرين ساعةً، أو الصيام عن الطعام ثلاثة أيام متتابعةٍ مع الاقتصار على تناول الماء وحده فوجدت له نفعا بالغاً، كما نصحت به غيري فانتفع به، والحمد لله رب العالمين.
فيما يشرع من الآداب للصائم.
1- لا يرفثُ، أي: لا يتكلم بالفاحش من القول، ويطلق الرفث على الجماع أيضا، وعلى مقدماته، وعلى ذكره مع النساء.
2- ولا يجهلْ، أي لا يفعل ما فيه جهالة، كالسفه والسخرية ورفع الصوت لغير موجب، ونحو هذا....، ويدخل في هذا اجتناب أسباب الخصومات والعداوات، وليس من ذلك الخصومات والعداوات التي سببها الذبُّ عن دين الإسلام.
3- إن سبه أحد أو شاتمهُ فلا يجيبهُ بمثله، بل يقول إني صائمٌ..إني صائم...، يُذكر بالأولى نفسَه وبالثانيةِ خَصْمَهُ، أما الابتداء بالسب نفسه فحرام في رمضانَ وفي غيره، وهو في رمضان أشد حرمةً لأجل حرمة الشهر، وإنما شرع له أن يقول إني صائمٌ تذكيرا للسابّ بحرمة الشهر، وإعلاماً منه له بأنه لم يترك الرد عجزاً بلْ ورَعاً وامتثالاً لأمر الله تعالى لأنه صائم.
4- ومن آدابهِ أن يدع قول الزورِ وهو: الكذب والميل عن الحق والعمل بالباطل والتهمةِ، وفي الحديث: من لم يدع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامَه وشرابه.
5- ومن آدابه الحرص على مجالسةِ أهل الدين والخير، فإنها تزيدُ من رغبة المرء في الطاعة، والنعمة بالجليس الصالح لا تعدلها بعد الإسلام نعمةٌ، وإنما المحروم من حُرِمَهُ، ودليل ذلكَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى جبريل كل ليلة في رمضان، فيعرض عليه القرآن، ولا يزال جماعةٌ من العلماءِ في الشامِ وغيرها يُحْيُونَ ليالي رمضانَ بقراءةِ كتبِ الحديثِ والسنةِ قراءةَ سَرْدٍ وسماعٍ من بعد صلاةِ التراويحِ إلى وقتِ السحورِ، ولهذه القراءةِ في ليالي رمضانَ وقعٌ على النفس عجيبٌ، أنسٌ في النفسِ وراحةٌ في البالِ، مع اجتماع بركَةِ الوقتِ وبركةِ سماع الحديث، تتنزل عليهم الرحمة، وتغشاهم السكينةُ، ويكثرون من الصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم كلما مر ذكره، ويتعرّضونَ لنفحاتِ دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم: نَضّرَ الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ويستذكرونَ نعمةَ الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظُهم به، أما علماءُ الديار الهنديّةِ فإن جُلّهم ينصرف في شهر رمضانَ إلى تفسير كتاب الله تعالى، يشرعونَ في مدارستهِ في أيام العشر الأواخر من شَعْبانِ، يبدأونَ بأصول التفسير إلى نهايةِ شعبان، فإذا دخل الشهرُ الكريمُ تدارسوا كل يومٍ جَزءا من القرآن على نَهْجٍ مُتّبَعٍ عندهم؛ حتى يأتيَ على تفسير جميعهِ إلى نِهايَةِ رمضانَ، وقد جرتِ العادَةُ عندهمْ أن تُعْقَدَ هذه المجالسُ من بُكرَةِ النهارِ إلى آخرهِ لا يقطعها سوى صلاتي الظهر والعصر، ويحضُرها آلافٌ من التلامذةِ من الخاصة والعامة!، فإذا فرغ الشيخ من ذلك استجازه من حضر من التلامذةِ فأجازهم بالسند المروي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مَنّ الله تعالى علَيَّ بالمشاركةِ في مجالس الحديثِ والتفسير في بعضِ ما مضى من الشهورِ على ما بينتُ، وإنّي لأسأله تعالى سؤال فقيرٍ إليهِ؛ معْتَصِمٍ بحَبلِهِ؛ لائِذٍ بِجَنابِهِ أن يمنَّ عليّ بإحياءِ هذه السنةِ الحسَنَةِ على أرضِ غَزّةَ المباركةِ، وفي بيت المقْدِسِ الحبيبِ طهّرَهُ الله من رِجْسِ اليهودِ وإخوان اليهود، وقد أكرمَنِي الله تعالى قبل أكثر من خمسةٍ وعشرين عاما في مبادئِ الطلبِ برُؤىً صالحةٍ أرجو أن يكون ذلك من تأوليها، وهذا الذي ذكرتهُ عن علماء الديار الشامية والهنديّةِ خطةٌ جامعةٌ بين التعبد بالصلاةِ والتعبدِ بتعلم العلم في ليالي رمضان، نعم؛ من السلفِ من كانَ يتفرغُ في رمضانَ للعبادةِ وقراءةِ القرآنِ ويطوي ما سواهُ من كتب العلم، ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هو مُوَلّيها.
6- ومن آدابهِ أن يعرضِ عن مجالس اللهوِ ما أمكن، ولا يخرجَ للأسواقِ إلى لحاجةٍ؛ فإنها مظانّ اللهو والفحش من القول، فإن خرجَ إليهِ فلا يطيل المكثَ فيه إلا بقدْرِ حاجَتِهِ، ومِن مواطِنِ الغفلاتِ في شهر رمضانَ إطالةُ بعضهم المكثَ في السوقِ، يقطعُ بذلك نهَارَ الصومِ...زعم!، فيضيعُ اغتنام الوقت المبارك، ويرى المنكرات فلا ينكرها!، وينتهكُ بذلك حُرمةَ الشهر!.
7- ومنْها: أن يأمرَ بالمعروفِ وينهى عن المنكر، فإن إقبال الناس على الخير في هذا الشهر مغْنَمٌ عظيم، لكن عليه أن يتحَلّى بالرفْقِ والصبر ما استطاعَ إلى ذلك سبيلا.
8- ومن آدابِه استحبابُ الجُودِ وإطعامِ الطعامِ والإكثارِ من الصدقةِ في الشهر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ بالخير في رمضان من الريح المرسَلَةِ، وما اعتادَه الناسُ من دَعوةِ الصائمين إلى الإفطارِ وإطعامِ الطعامِ فَسُنّةٌ حَسنةٌ، قال عليه الصلاة والسلام: من فطر صائما فله مثل أجره، لكن يحذرُ من فعلِ ذلك رياءً وسمْعَةً وطلبا للشهرة، ومن علامَةِ حُسْن النية فيه أن لا يخصّ بدَعوَتِهِ الأغنياء وعِلْيَةَ القوم، بل يدعو الفقراءَ والمحتاجينَ أيضاً فيشاركونه ويشاركونهمْ فطرهم، وليتذكرْ أن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والثيابِ، بل إلى الأعمالِ والنيات، ورُبّ أشعثَ أغبَرَ ذي طِمْرَينِ لا يأبَهُ الناسُ له لو أقسم على الله لأبره، ورُبّ ذي ثَوبٍ حسنٍ والثوبُ يلعَنُه!، وقد كانَ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يؤثر الفقراء في الإفطار على نفسه، وكان لا يأكل في إفطاره إلا مع اليتامى والمساكين!.
9- ومنها أن يتعهدَ جيرانَهُ وذوي رحمه وقُرباهُ بحسن البر والصلة، فما من مَعروفٍ يُسديه إلى الناسِ إلا كانوا أحقّ به وأولى.
فصلٌ في ذكرِ جُمْلَةٍ تتعلقُ بأحكام الصوم:
1- يصوم لرؤية الهلال ويفطر لرؤيَتِهِ، أما اعتمادُ الحساب الفلكيّ في دخول الشهرِ فبدعةٌ محدثةٌ في الدين، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على الرؤية: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.
2- وقاعدةُ الشرعِ المطردةُ اجتماعُ كلمةِ المسلمين ما أمكن، فإن تيسر جمعهم على رؤية واحدة فحسنٌ، ومن العلماء من يذهب إلى أن لكل بلدةٍ رؤيةً تخصه، والأمر إن شاء الله تعالى يسير قريبٌ، وقد قال بكلا القولين جماعةٌ من السلف، وعلى القولين فلا يخرج العاملون بهما عن الاجتهاد بالعمل بالكتاب والسنةِ، وفي الاتفاق على هذا الأصل وهو العملُ بالكتاب والسنةِ اجتماعُ كلمةِ المسلمينَ وإن اختلفَ التطبيقُ في الفروع، فلا ينبغي شغلُ الناسِ بمثل ما يقع من الخصومات حول هذا في كل عام، حتى وصل الحال بهم إلى السبابِ ورمي بعضهم بعضاً بالبدعَةِ والخروج عن السنةِ!، جمع الله كلمة المسلمين على البر والتقوى، وأصلحَ ذات بينهم.
3- ويحرم صومُ يومِ الشك، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه، وهو: أن يصومَ يوم الثلاثين من شعبانَ دون ثبوت الرؤية الشرعيةِ، وإن وافق صومه ذلك اليوم أول دخول رمضانَ، لأن صومه لم يبنَ على أساس الرؤيةِ التي أمر بها الشرع، ولأن الأصل بقاء شهر شعبان، فلا ينتقل عنه إلا بيقين.
4- ولا يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا من كان له نفل اعتاده، أو عليه نذر فليصمه، ولا يصوم يوم الشك كما تقدم.
5- والصوم واجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيمٍ سالم من موانع الصومِ كالحيض والنفاس، فإن أطاقه من بلغ سبعا من الصبيان أمرَ به استحباباً وتعويدا له على الصيام، والوالدان والصبي شركاء في الأجر، هما بالتربية والدلالة على الخير، وهو بالصوم.
6- والبلوغ بواحد من ثلاثة: نزول المني، أو إنبات شعر العانة، أو إتمام خمس عشرة سنة، وتزيد الأنثى بواحد وهو الحيض، فيجب عليها الصوم ولو حاضت قبل العاشرة.
7- ولو مات المكلفُ أثناء الشهر، فلا شيء عليه ولا على أوليائه فيما بقي منه، لأن التكليف قد انقطع بالموت.
8- والنية من الليل شرط في صوم الفرض، وله أن ينوي في أي جزء من الليل، ولو قبل الفجر بقليل، ولا يتلفظ بالنية، بل التفلظ بها بدعة، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: كل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى، وعلى هذا فلا يحتاج إلى تجديد النية في كل ليلة، بل تكفيه نية الصيام عند دخول الشهر.
9- فإن دخل رمضان ولم يعلم به إلا بعد دخول الفجر أمسك بقية يوميه، وعليه قضاء يوم مكانه.
10- ويجب على الصائم الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق، وهو البياض المنتشر في الأفق من جهة المشرق، وسواء سمع الأذان أم لا، فإن كان المؤذن ملتزما بالوقت وجب عليه الإمساك إذا سمعه، وإن كان يؤذن قبله فلا يجب.
11- فإذا غاب قرص الشمس أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق كما يدل عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
12- والسنة أن يعجل الفطر ويؤخر السُّحور، وفي الحديث الصحيح: نِعمَ سَحُورُ المؤمن التمرُ.
13- ويسن أن يقول عند فطره: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله، وهو حديث صحيح، أما حديث: اللهم لك صمتُ، وعلى رزقك أفطرت، فهو حديث ضعيفٌ، وفي الحديث الصحيح غنيةٌ وكفايةٌ.
14- ومن جامع في نهار رمضان عامدا فقد أفسد صومَه، وعليه التوبة، ويمسك ما بقي من يومه، ويقضيه، وعليه الكفارة المغلظة، عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكينا.
15- ومن جامعها زوجها في نهار رمضان برضاها فحكمها حكمه، وإن أكرهها عليه اجتهدت في دفعه ولا يحل له مطاوعته، فإن واقعها دون أن توافقه فلا كفارة عليها، وكذا لو جامعها وهي نائمة، ومن العلماء من قال: تقضي ذلك اليوم احتياطا، وذهب الإمام أبو العباس بن تيمية إلى عدم فساد صومها وأنه صحيح.
16- والتقبيل والمباشرة واللمس والنظر إلى الزوجة أو الجاريةِ المملوكةِ جائز لمن كان يملك نفسه، فإن كان لا يملك نفسه فلا يجوز، لأنه يفضي إلى إفساد الصوم بإنزال أو جماعٍ، وما أفضى إلى الحرام فهو حرام.
17- أما الجماع في ليالي رمضان فجائز بالإجماع، ولو طلع الفجر وجب أن ينزع ولو أنزل بعد النزع لم يضره، فإن لم ينزع بعد طلوع الفجر واستدام الجماعَ فسد صومه، وعليه القضاء وإمساك بقية اليوم والكفارة المغلظة.
18- ولا يضيره أن يدخل الفجر وهو على جنابة من جماع أو احتلام، بل يجوز تأخير غسل الجنابة والحيض إلى ما بعد طلوع الفجر، لكن عليه أن يبادر إلى الاغتسال والصلاة قبل طلوع الشمس.
19- ويحرم صيام يوم العيد، وهو الأول من شعبان، كما يحرم صيام عيد الأضحى وأيام التشريق، وهي الأيام الثلاثة التي تلي عيد الأضحى، فإنها أيام أكل وشرب.
20- ويحل الفطر للمسافر إذا جاوز البلد وما اتصل به من بناء، شريطة أن لا يكون سفر معصية، ولا سافر احتيالا للفطر وترك الصوم، وسواء كان قادرا على الصوم أم لا، شق عليه أم لا، جاز له الفطر مادام مسافرا، فإن أفطر لغروب الشمس ثم أقلعت به الطائرة فرآها لم يلزمه شيء لأنه أتم ذلك اليوم، ولو أقلعت به قبل الغروب فلا يفطر إلا بغروبها في المكان التي هي فيه لا بغروبها في البلدة التي أقلعت منها، وكذا لو وصل إلى البلدة التي هو مسافر إليها فلا يفطر إلا بغروب الشمس فيها، ومن سافر إلى بلدة فأقام بها أكثر من أربعة أيام فحكمه حكم المقيم عند جماهير العلماء، يجب عليه الصوم، كالمسافر للدراسة أو غيرها من الأسباب.
21- والطيار وسائق سيارة الأجرة والملاحُ ممن عادتهم السفر إن كان لهم محل إقامة يأوون إليه فلهم الفطر، وعليهم القضاء.
22- أما المريض فيجوز له الفطر إن علم بحكم العادة والتجربة أو بشهادة طبيب ثقةٍ أن الصوم يضره، بل ربما كره له الصيام، أو كان حراما عليه إن أفضى به إلى الهلاك، ولا يجب عليه أن ينوي الصيام من الليل وإن احتمل أن يصبح صحيحا، لأن العبرة بالحال الحاضرة، فإن كان المرض مما يُرجى بُرؤُهُ وجب عليه القضاء بعد الشفاء، وإن كان مرضا مزمنا، أو كبيرا عاجزا أطعم عن كل يوم مسكينا من قوت البلد، فإن شاء أطعم في كل يومٍ وإن شاء جمعها آخر الشهر، وله أن يطعم بنفسه أو ينيب عنه من يثق به، ولا يُجْزِئُهُ أن يعطيَها نُقوداً لنص الآية على الإطعام خاصة.
23- فإن تمكن المريض من القضاء ولم يقض حتى ماتَ أُخرجَ من ماله طعامُ مسكينٍ عن كل يوم، وإن شاء وليه أن يصوم عنه فله ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام: من مات وعليه صيام صام عنه وليه.
24- أما الهَرِمُ العاجزُ الذي يشق عليه الصوم فله أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينا، وبه قال ابن عباس رضي الله عنه، فإن بلغ حد الخرفِ وسقط عنه التمييز لم يجب عليه ولا على وليه شيءٌ لسقوط التكليف عنه.
25- والبلاد التي يتميز فيها الليل عن النهار فالواجب الصيام والإمساك إلى غروب الشمس وإن طال النهار، فإن كانت من البلاد التي لا يمكن فيها تمييز ذلك فعليهم الصوم بحسب أقرب البلاد إليهم مما يتميز فيها الليل عن النهار.
في بيان جملة مما ينبغي فعله في الشهر الكريم.
1- على كل أهل بيت أن يهيئوا النفوس للعبادةِ وفعل الخير، وعلى الناس أن يعين بعضهم بعضا على ذلك، وفي حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها أنهم كانوا يأمرون الصبيان بالصيام ويجلعون لهم اللعبة من العهن (الصوف) فإذا بكى أحدهم دفعوها إليه يتلهى بها.
2- والتوبة والإنابة إلى الله تعالى، والتقرب إليه بأنواع الطاعات.
3- والفرحُ بقدوم الشهر ودخوله، وإظهار الشكر لله تعالى عليه، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}.
4- وعلى رب الأسرة وولي الدار أن يجتهد في تعلم الضروري من أحكام الصيام وآدابه، ويعلمها أهل بيته وأبناءه، وتعلم أحكام الصيام التي لا يصح الصوم إلا بهها من الواجبات، لأن الصيام فرض وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
5- والحرص على النشاط في العبادة، وطرد أسباب التكاسل عنها، وصلاة التراويح مع الإمام حتى ينصرف، والحرص على قراءة القرآن، وحضور مجالس العلم، وتحري ليلة القدر، وقراءة القرآن، والإكثار من التلاوة.
6- والعمرة في رمضان تعدل حجة، وبذلك صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
7- والاعتكاف في العشر الأواخر سنةٌ مؤكدة، فإن كان مرابطاً في ثغرٍ من الثغورِ فلا ينصرفْ عنه للاعتكاف، فإن أجر الرباط أعظم.
فصل في ذكر ما يفطر به الصائم وما لا يفطر به.
1- أما الحائض والنفساء فلا يحل لهما الصوم، ويجب عليهما قضاء الصوم دون الصلاة.
2- والجماع في نهار رمضانَ؛ والأكلُ والشرب عامداً مفطراتٌ باتفاق.
3- والاستمناءُ في نهار رمضان عامدا مفطرٌ، لقوله تعالى في الحديث القدسي: يدع شهوته وطعامه لأجلي، فيتوب إلى الله تعالى؛ ويمسك بقية يومه، ويقضيه بعد ذلك، وإن شرع فيه ثم تركه ولم ينزل فعليه التوبة ولا قضاء عليه.
4- وأما الاستفراغ والاستقاءةُ والحجامةُ ففي الفطر بِها خلاف بين العلماء، ومقتضى التقوى والورع تركُ ذلك أثناء الصوم، على أنه قد صح قوله عليه الصلاة والسلام في القيء: من ذرعه - (غلبه) – القيءُ فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا فليقض.
5- وما كان في معنى الأكل والشرب، كتناولِ حُبُوبِ الدواء عن طريق الفم، أو الإبر المغذية، فهي مفطراتٌ، وفي نقل الدم وحقنِه بحثٌ وتفصيل. وأما سحب الدم للفحص والتحليل فليس مفطرا.
6- وأما إبر المعالجةِ والتطعيمِ فليست من المفطراتِ، وسواء كانت في العضل أو الوريد.
7- وغسيل الكلى الذي يتم بإخراج الدم وتنقيته ثم إعادته مرة أخرى مع مواد مغذية كالسكريات ونحوها فهو مفطر على الصحيح.
8- ومما لا يعد مفطرا: الحقنة الشرجية، والكحل، والقطرة في العين والأذن؛ وفي قطرة الأنف إن وصلت إلى الجوف بحث، وقلع السن، وحشوه، ومعالجة الجروح والقروح، واستنشاق الدواء للزكام، وبخاخ الربو، وتحاميل المهبل، والمنظار المهبلي، وإدخال الإصبع للفحص الطبي، ونحوه المنظار، واللولب في الرحم، وكذا ما يدخل عن طريق الإحليل للذكر والأنثى من قثطرَةٍ (أنبوب دقيق) أو منظار أو دواء أو محلول لغسل المثانة، وكذا القثطرة في الشرايين لعلاج أوعية القلب ونحوها، والمنظارُ من جدار البطن لإجراء عملية جراحية، أو أخذ عينات من الكبدِ أو غيره، وكذا منظار المعدة إلا أن يصاحبه إدخال غذاء إليها، وما يوصَل إلى الدماغ أو النخاع الشوكي من الدواء والعلاج، وكذا الأكسجين للمريض، والبنج للتخدير، وما يدخل عن طريق الجلد امتصاصا كالمراهم والزيوت واللصقات العلاجية ونحوها، والمضمضة والغرغرة، فكل ذلك لا يفطر شيءٌ منهُ عند المحقيقين من العلماء، وفي ذلك توسعةٌ على الناس، وموافقة لقاعدة رفع الحرج التي هي من أعظم أصول الشرع وقواعده.
9- ومما لا يفطر به: أن يبتلع ريقَهُ، أو ما علق بين أسنانه بغير قصد، أو كان قليلا لا يقدر على تمييزه ومجه فحكمه حكمُ الريق، وكذا العلك إن لم تكن له أجزاء تتحللُ أو حلاوة تصل إلى جوفه، لكن يجتنبُ استعمالَ ذلكَ حذَرَ التُّهَمَةِ، وكذا البلل والرطوبةُ المتبقيةُ بعد المضمضةِ لأنه لا يمكن التحرز منه، والرعافُ؛ وما في اللثة من قروح أو دم خرج من السواك ودخل حلقه بغير اختياره؛ ومثله القيء يرجع إلى جوفه دون اختياره، والنخامةُ والنخاعةُ تدخل جوفه قبل أن تصل إلى حلقه، أو بعد أن وصلته بغير قصد منه، كل ذلك لا يفطر.
10- واستنشاق العطورِ لمن يعمل في مصانع العطور أو يبيعها، أو استنشاق بخار الماء لمن يعمل في محطات تحلية المياه، أو استنشاق روائح الدواء لمن يعمل في تحضير الأدوية، وكذا روائح (البنزين) والوقود، وغبار الطحين للطحان والخباز، وغبار الطريق للسائق والمسافر وغيرهما، ودخان المصانع، ورائحةُ البارود ونحوه للمجاهدِ لا يضر الصوم، ولا يفطر بشيء منه.
11- أما التنباك والسجائر ونحوها فمفطرات، وكذا القاتُ والنسوارُ والشمّةُ من باب أولى.
12- ويجوزُ له أن يذوق الطعام بطرف لسانه للحاجة إليه، كاختبار مذاقه عند طبخه، أو شرائه، وكذا الأم تمضع الطعام تلينه لطفلها.
13- وإذا استعمل حناءً أو دهنا أو طيبا ووجد طعمه في حلقه فلا يفطر، وكذا بخور الطيب كالعود ونحوه لا يفطر به.
14- ويجوز للصائم أن يتبرد بالماء، وأن يصبه على رأسهِ من الحر أو العطش، أما السباحة فمن أهل العلم من كره له ذلك حتى لا يفسد صومه، فإن كان يعملُ غواصا أو غطاساً وأمن دخول الماء إلى جوفه فجائز له ذلك.
فيمن يحل له الفطر في رمضان.
1- الحائض.
2- والنفساء.
3- والمريض.
4- والمسافر.
5- ومن تعين عليه إنقاذ معصوم من الهلاك، كإنقاذه من غرق أو حريق ونحو هذا، إن كان لا يقدر عليه إلا مع الإفطار جاز له أن يفطر، ويقضي.
6- وكذا المجاهد إن كانَ لا يقدر على دفع العدو والقتال إلا بالفطر أفطر وإن لم يكن مسافرا، ثم يقضي من بعد، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال، لقوله عليه الصلاة والسلام: إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا، وقد أفتى الإمام ابن تيمية أهل الشام بالفطر لما نزل بهم التتار.
7- وإن خافَ على نفسه الهلاك بجوعٍ مفرطٍ أو عطشٍ شديدٍ جاز له الإفطارُ ويقضي مكانه يوما، على أن يكون خوف الهلاك حقيقةً لا مُتَوَهّماً، وتقدير ذلك راجعٌ إليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسْعَها.
8- أما فِطْرُ العاملِ أو الطالبِ لأجلِ الامتحانِ فلا يجوز، وليس ذلك عُذرا لترك الصيام، ولا يجوزُ طاعةُ أمير ولا رئيسٍ ولا طاعة الوالدين في ذلك، فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.
في بعض ما تختص به المرأة من أحكام الصيام.
1- لا إذن للمرأة على الزوج في صيام رمضان، أما التطوع فلا تصوم إلا بإذنه، إلا أن يكون مسافرا.
2- لا يحل لمن بلغت في رمضان أن تترك الصيام خجلاً من اطلاع أهل الدار على بلوغها، فإن فعلت فعليها التوبة والاستغفار وقضاء ما فات، كما لا يحل للكبيرة البالغة أن تصوم أيام عادتها خجلاً ولا تقضي، بل القضاء على هذه واجب أيضا، فإن نسيت عدد ما عليها من الأيام، صامت حتى يغلب على ظنها أنها قضتها.
3- إذا رأت الحائض علامةَ الطهر تنوي الصيام من الليل وتصوم، فإن لم تكن لها علامةٌ وتحققت الطهر بقطن ونحوه وانقطع الدم عنها إلى المغرب وقد نوت الصيام من الليل صح صومها، ولو انقطع عنها الدم ليلا، ونوت الصيام ثم طلع الفجر قبل اغتسالها فصيامها صحيح باتفاق.
4- والأولى للحائض أن لا تتناول الدواء الذي يمنع الحيض وقت الصوم، لما يلحقها من الضرر بسببه، ويحسن بالمرأة الرضا بما قضى الله عليها وكتبه لها، فإن فعلت وانقطع الدم وصامت أجزأها الصوم.
5- ودم الاستحاضة لا يمنع الصوم، وكذا دم النزيف من الحامل، أما النفاس فيمنعه، ولو طهرت منه قبل الأربعين وجب عليها الصوم، فإن عاد له الدم قبل انتهاء الأربعين أمسكت عن الصوم لأنه دم نفاس.
6- والحامل والمرضع إن خافتا على نفسيهما أو ولديهما فلهما الفطر، وعليها القضاء ولا شيء سواه.
فصل في ذكر جملة من بدع الصوم وأخطاء الصائمين.
1- منها: ما يفعله بعض العامة إذا رأي هلال رمضان من رفع يديه واستقبله للدعاء، ويقول: هلّ هلالك، جل جلالك، شهر مبارك، ومنهم من يزيد: مبارك علينا وعليك يا رب!، وفي الأخير – مع كونه بدعة – جهل عظيم، وسوء أدب مع الله تعالى.
2- ومنها: زيادة الإنارة وتعليق القناديل الملونة والمذهبةِ، قال ابن الحاج في كتاب المدخل: وهذا كله من باب السرف والخيلاء والبدعة وإضاعة المال ومحبة الظهور والقيل والقال.
3- ومنها: الأكل والشرب عامدا في نهار رمضان، وذلك ذنب عظيم، وكبيرة من كبائر الذنوب، ولا يجزئ مرتكبَها صيام الدهر ولو صامه، فيتعين عليهِ التوبةُ إلى الله تعالى والقضاء، ومن العلماء من قال لا يقضي؛ لأن القضاء خاص بمن أفطر لعذر لا بمن أفطر عامدا، بل يتوب إلى الله تعالى ويستغفر، ويكثر من نوافل الصيام وغيره؛ لعله يجبر ما نقص من الفريضة، فإن جاهر بالمعصية مع ذلك فقد أعظم الإثم؛ وحادّ الله تعالى ورسوله، ووجب على الإمام عقوبته، وعلى جماعات المسلمين ردعه وزجره.
4- ومنها: الاحتياط بالإمساك قبل وقت الفجر بعشر دقائق ونحوها، وما ينشر في بعض المطبوعات والتقاويم من تعيين وقتين: وقت للإمساك وآخر للفجر فمخالف للشرع.
5- ومنها: الاحتياط في تأخير الإفطار، بل السنة التعجيل بالفطر ولو على شربة ماء، والتعجيل إنما يكون بعد غروب قرص الشمس، أما قبل غروبه فحرام لا يجوز.
6- ومنها: تأخير الفطر إلى انتهاء المؤذن من الأذان، بل يشرع من شروعه.
7- ومنها: تفويت صلاة المغرب بسبب الإفطار، بل السنة أن يفطر بتمر وماء، ويدرك صلاة الجماعة، ثم يعود إلى طعامه إن شاء.
8- ومنها ما يفعلهُ بعض العامّةِ من مص أصبعه إن لم يجد شيئا يفطر عليه، بل ينوي الفطر بقلبه.
9- ومنها: إسرافُ الناسِ في الطعام والشرابِ في شهر رمضان، حتى إنك لترى منهم عجبا، وكأنهم لم يأكلوا من الطعام شيئا طيلة العام!، وينفقون من المال في الطعام والشراب أضعاف ما ينفقونه في بقية الشهور!، ويقضون الليل كله من أذان المغرب إلى طلوع الفجر في حشو المعدةِ بالمطعوم والمشروب، و في ذلك من المخالفات والمضارّ أنه منافٍ لحكمة الصيام أولا، ومفوتٌ لمنفعتِه للنفس والبدن، ومخالفٌ لقوله تعلى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ}، ومجلَبَةٌ للتكاسُلِ عن العبادةِ في ليالي رمضانَ وخاصةً في العشر الأواخر من الشهر، وتضييع لأوقات النساءِ في البيوتِ فيقضينَ النهارَ كلّهُ في تحضير أنواع الطعامِ وألوانِهِ، وكان الأولى بالقيّمِ عليهِنّ أن يرفُقَ بِهِنّ، ويوفّرَ عليهنّ الوقتَ للعبادَةِ والتلاوَةِ والذكر، ولتعليم أبنائهِنّ والعنايةِ بهم في الشهر الكريم، وأيضا فلو اكتفى من الطعام بقدر الحاجةِ وأنفق الباقيَ في إطعام المحتاجِ والصدقة على الفقراء والمساكين لكان خيرا له وأقوم، والله الهادي إلى سواء السبيل.
10- ومنها: تضييع لياليهِ فيما لا نفع فيه من السهر واللهو والعبث في المقاهي والنوادي والمنازل وغيرها، وقضاء النهار نائما وما بقي منه ففي الأسواق والطرقات، مع تضييع الصلوات، وشرٌّ منْ هذا قضاء النسوةِ أوقاتَهَنّ في السوقِ لغير حاجة، فينشغلن بذلك عن تحصيل الأجر والثواب.
11- ومن الخطأ أن يوتر مع إمام التراويح، ثم يوتر آخر الليل ثانية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا وتران في ليلة.
12- ومنها: العجلة في تلاوة القرآن وهَذُّهُ هَذّ الشِّعْرِ، وهذا يقع من كثير من الأئمة في صلاة التراويح خاصة ممن يحرصون على الإكثار من ختم القرآن مرات في الشهر، ويجمع المصلون له المال كلما ختم القرآن مرة، وهذا خلاف السنة، بل بدعة محدثة في الدين، ثم المقصودُ من الصلاة والقراءة الخشوعُ والتدبرُ وذلك مناف لهذا القصد من الصلاة.
13- ومنها:تعيين سورة أو سُوَرٍ مَعيّنَةٍ للقراءة في التراويح، ومن ذلك قراءة سورة الأنعام كاملة في ركعة واحدة، ويخصونها بآخر ركعة من التراويح ليلة السابع أو قبلها، وبعضهم يقتصر على قراءة سورة واحدة، وآيةٍ واحدةٍ في كل ركعة.
14- ومنها: ما يفعله بعض الأئمة من الإسراع في صلاة التراويح إسراعا فاحشا، فينقرها نقر الغراب، حتى إنهم ليصلون التراويح عشرين ركعة، والوتر ثلاث ركعات في نحو عشرين دقيقة!.
15- ويقابل هذا السابقَ إطالةُ بعض الأئمة في التراويح إطالةً فاحشةً تخرج عن حد الاعتدال، وفي هذا فتنة للعامة، نعم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطيلون القيام، لكن على الإمام أن يقدر لذلك قدره، فإن أحوال الناس تختلف، فإن كان المسجد مما يرتاده العامةُ فالتخفيف هو المشروع، وإن كان للخاصة وأهل العلم وطلابه فلا حرج من الإطالة إن ارتضى المأمومون ذلك، عملا بهدي السلف رحمهم الله.
16- ومنها: الإطالة في دعاء القنوت، وبعض الأئمة يسوق جميع آيات الدعاء من القرآن فيه، حتى تزيد الركعة الثانية طولا عن الأولى، وكل ذلك محدث مخالف لما كان عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه.
17- ومن الأخطاء منع الآباء الصغار من الصيام، بل السنة حثهم عليه.
18- ومنها: أن يصوم المريض مع حصول المشقة له، وهذا خلاف الهدي النبوي، والسنة الفطر أخذا برخصة الله تعالى له، ثم يقضي.
19- ومنها: إخراج زكاة الفطر ودفعها للسائق والخادم الكافرين، بل الواجب دفعها لفقراء المسلمين.
20- ومنها: صيام الست من شوال، قبل أن يقضي ما عليه من رمضان، بل الصواب أن يقضي ما عليه أولا، ثم يصوم الست من شوال، لقوله عليه الصلاة والسلام: من صام من رمضان وأتبعه ستا من شوال، كان كصيام الشهر.
21- ومن المنكرات خروج بعض النساء إلى صلاة التراويح متعطراتٍ متبرجات، فإذا حضرت إلى المصلى لبست الحجاب، ثم إذا فارقته نزعته!، مع أن الحجاب واجب عليها على كل حال ما دام هناك أجنبي عنها.
22- ومنها: أن النساء لا يسوين في كثير من المساجد صفوفهن أثناء الصلاة، وربما صلت إحداهن خلف الصف وحدها، وفي الصف مكان لها، بل الواجب عليهن تسوية صفوفهن، وإتمام الصف الأول فالأول، كالرجال.
23- ومما نهى عنه الشرع الوصال في الصوم، وهو أن يصل اليوم الأول بالثاني دون فطر أو سحور، ودون أن يطعم في الليل الذي بينهما شيئا.
24- ومنها: تعمد الشرب أثناء أذان الفجر، وهذا خطأ، لأن المؤذن إنما يشرع في أذانه عند طلوع الفجر، وهو الوقت الذي يجب فيه الإمساك عن الطعام والشراب، فإن لم يفعل فقد أفسد صومه، ولو كان في فمه طعام أو شراب وسمع الأذان فلا يخرجه، بل يبتلعه ويمسك.
25- ومن الخطأ الشائع ترك من شرب أو أكل ناسيا حتى يتم أكله وشربه، بل الواجب على من رآه تذكيره، لأن ظاهره منكر وإن كان صاحبه معذورا في نفس الأمر، وأيضا فحتى لا يتخذ الفساق ذلك ذريعة إلى الإفطار في نهار رمضان بحجة النسيان.
26- ومنها: تحرج بعضهم من السواك أثناء النهار، والسواك سنة للصائم وغيره، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، قال الإمام البخاري: ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم الصائم من غيره.
27- ومنها: اعتقاد بعض العامة تحريم معاشرة الزوجة في ليالي رمضان، وهو خلاف قوله تعالى: {أُحلّ لكمْ لَيْلَةَ الصيامِ الرفَثُ إلى نِسائِكُمْ}، وإنما خص التحريم بالنهار.
28- ومن البدع ما تفعله النساء في بعض البلادِ من الصيام طيلة النهار وهي حائض أو نفساء، فإذا كن قُبَيلَ الغروب جَرَحنَ صيامَهُن بلقمة أو جرعة ماء!.
29- ومنها: رفع بعض المصلين أصواتهم بالبكاء في القنوت ووقت والقراءةِ رفعا يفسد على المصلين خشوعهم، وعلى الإمام قراءته، وكذا اضطراب بعضهم وتحركه حركة تشغل المصلين حوله، والواجب على من غلبه البكاء أن يكتمه ما استطاع حتى لا يفضي إلى ما ذكرناه من المفاسد، وهذا هو هدي النبي صلوات الله وسلامه عليه.
30- ومنها: الإنشغال بالإفطار عن متابعة المؤذن في أذان المغرب، والسنة المتابعة وأن يقول مثل قوله، وهي تشمل الصائم وغيره.
31- ومنها: ما يعتقده بعض العامة من أن قص الشعر، أو حلقه، أو حلق العانة، أو نتف الإبط، أو تقليم الأظفار يفسد الصوم، وكل ذلك غير صحيح، ولا يفطر شيء من ذلك الصائم ولا يفسد صومه، بل فعل ذلك من سنن الفطرة المستحبة في رمضان وفي غير رمضان.
32- ومنها: تحرج بعضهم من ابتلاع ريقه، واعتقادُه أن ذلك مفسد للصوم، فيكثر البصاق ويؤذي من حوله من المسلمين، والصواب أنه لا حرج في ابتلاعه ولو كثر .
33- ومنها: المبالغة في المضمضة والاستنشاق في نهار رمضان، وقد ورد النهي عن ذلك صريحا، لأنه مظنة إفساد الصوم.
34- ومنها: التلفظ بالنية عند السحور، والتلفظ بها بدعة محدثة، وإنما محل النية القلب.
35- ومنها: الفصل بين كل ركعتين من التراويح بقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين، ثم بالصلاة والسلام على النبي.
36- ومنها: الترضي بعد الأربع الأولى من التراويح عن أبي بكر الصديق، وبعد الثمانِ عن عمر، وبعد اثتي عشرة ركعة عن عثمان، وبعد ست عشرة ركعة عن علي، ثم يقولون جماعة بصوت مرتفع: رضي الله عنه.
37- ومنها: ما يسميه الناس: صلاة الجمعة اليتيمة، وهي آخر جمعة من رمضان، فيجتمعون لصلاتها في كل بلدة في مسجد مخصوص، وفي فلسطين يصليها الناس في المسجد الإبراهيمي أو في المسجد الأقصى، ومنهم من يصلي المكتوبات الخمس عقب صلاة الجمعة المذكورة، ويزعمون أنها كفارة للذنوب أو للصلوات المتروكة!، ومنهم من يكتب دعاء مبتدعا والإمام يخطب الجمعة المذكورة، ويزعمون أن من كتبه حفظ من الحرق والغرق والسرقة وسائر الآفات!.
38- ومنها: التواعد لختمات القرآن والاجتماع عند من يختمه نوبة بعد نوبة، ولا يزال ذلك من منتصف رمضان إلى آخره، وربما أبقى صاحب الختمة من القرآن الآية والآيتين فيقرأها عند حضورهم!، ثم يرفعون أيديهم بالدعاء، ولا يستغرق ذلك كله أكثر من دقيقتين أو ثلاث، ثم يجتمعون على الطعام ساعة أو أكثر لا يذكرون الله فيها إلا قليلا، ثم ينصرفون، وقد رأيت ذلك بنفسي قبل سنوات طويلة في بعض المجالس، وأنكرته على من حضر، فإنه لم يكن من دأب من مضى من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم خيار الأمة وأفضلها.
39- ومن البدع المحدثة ما يتعلق بوداع رمضان، ومنه ما يفعله بعض الخطباء من ندب فراقه في كل عام، والحزن على مضيه، ويرددون كلمات مسجوعة نحو: لا أوحش الله منك يا شهر المصابيح، لا أوحش الله منك يا شهر المفاتيح!، ومنه أيضا اجتماع الناس في بعض البلاد في الأيام الأخيرة منه، ويقرأون القصائد في ندب فراقه بصوت فيه تحزين وتطريب، نسأل الله السلامة والعافية.
40- ومنها: الاحتفال بذكرى عزوة بدر، وبالإسراء والمعراج، ونحو هذا، واتخاذ مثل هذا عيدا بالاجتماع والذكر وإلقاء القصائد والخطب، وذلك أمر لا مستند له من كتاب ولا سنة، ولم يؤثر عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية الحراني الدمشقي المتوفي سنة (728) رحمه الله ما للنبي صلى الله عليه من الخطب والعهود والوقائع في الأيام المتعددة كبدر وحنين والخندق وفتح مكة وهجرته إلى المدينة ونحو ذلك، ثم قال: ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام عيدا، وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادا، أو اليهود، وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتبع، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه.
قال أبو الوليد عفا الله عنه: هذا ما يسر الله تقييده من بكرة النهار إلى منتصف ليلة الخامس عشر من شهر شعبان سنة ألف وأربعمائة وثلاثة وثلاثين من هجرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، والله أسأل أن يجعلها لي وللقارئ والسامع أجرا وذخرا، وأن يعفو عنا بمنه وكرمه، إنه تعالى رحيم كريم، وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] ياسر محمد عودة الأغا | شكراً لك أبو الوليد | 06-07-2012
الشيخ الأستاذ أبو الوليد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكراً لكــ على الموضوع
أو بالأصح شكراً على الكتيب عن شهر رمضان، فهو يتناول جوانب مهمة وإن شاء الله يكون هذا في ميزان حسناتك ، ونسأل الله لنا ولك العفو والعافية.
[2] رائد عبدالقادر عثمان الاغا | ماشاءالله | 08-07-2012
[3] فتحي خالد حسين الاغا | توجيه وتذكير في موعده | 09-07-2012
[4] أم خالد عثمان حسنم الأغا | بارك الله فيكم | 09-07-2012