بسم الله الرحمن الرحيم
رحمانيّات ربانية(39)
الأمانةُ وحديث الآخرة
الحمد لله وأتم الصلاة والسلام على سيّد الأنام والبشر سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ونسأله تعالى أن يتم علينا نعمة الهدى وذِكرِه والأمن والأمان في كل زمان ومكان وعلى كل حال ، أنه هُوَ السميع العليم المجيب .
انتشرت رائحة الموت بكثرة هذه الأيام في أماكن عديدة في ارض الله الواسعة ، وتزداد في بلاد المسلمين وفي طرقاتهم وتحت أسقف بيوتهم ومن بين أيديهم ومن خلفهم ، وقد يأتي الموت لمن كان يعتبر نفسه آمناً ! . لقد أُبْتُلِيَّ المسلمين بحروب ونزاعات تأتيهم من بلادٍ قريبة أو بعيدة تدمر أرزاقهم وتخرّب بيوتهم ، وتنكّل بدينهم فتُدلّس فيه وعليه الدسائس ، وتستهزيء بحبيبهم ورسولهم وقدوتهم وإمامهم عليه أفضل الصلاة والسلام ، وللأسف يساعد بعضاً من أولئك المسلمين أعدائهم في القتل والتدمير بالمال والرجال والكلمة والقرار . وكلنا يدرك أنه لا أمان ولا منجى ولا مهرب من الموت الآتي حتماً لكل روح ، فهو يدركنا ولو كنا في بيوت مشيّدة في أعالي الجبال ، ولكن أليس لكل أجلٍ كتاب ؟ ، وهذا قوله تعالى في سورة الجمعة:‘‘ قُلْ إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَّدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)’’ . من أجل هذا يفر المؤمن إلى الله تعالى ، في البحبوحة والشدّة والعسر واليسر ، لأنه عرفة واستدل عليه ، حتى يقضي الله امراً كان مفعولاً .
من أجل هذا يتفكر المؤمن في الموت بعقله وقلبه ، ومن ينسى الحقيقة الحتمية فعليه البحث عنها حتى يدرك أين هو ذاهب ؟ . ولكن القلوب مزدحمة بمشاغل الدنيا وملذاتها وزيادة أرصدة الجيوب وأشبار الأراضي وتعمير البيوت في الدنيا - التي قد لا نستمتع بها - وننسى تعمير بيوت الآخرة ، وذاك قد يكون من حظوظ الورثة الذين قد لا يحافظون عليها فيأخذ من زرع وزراً على وزرٍ ، ويحصد من لم يزرع مغنماً ، فليراجع نفسه من ذهب بعيداً !! .
من أجل هذا يعرف المؤمن آخر طريقه وإلى أين هو ذاهب ، ومن لا يعرف الحقيقة فعليه البحث عنها حتى يدرك أين هو ذاهب ؟! . أنه حتماً ذاهب إلى حفرة بطوله وعرضه ويُحثَى عليه التراب ، ليأكله الدود ويذوب العظم إلى يومٍ قد يكون قريباً ، أنه يوم الواقعة ، يوم ترجف الراجحفة وتتبعها الرادفة ، يومً تذهل كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ، يوم الحسرة والندامة على ما فات من سوء العمل ، يوماً قمطريراً ، يوماً تشخص فيه الأبصار من هول المشهد الرهيب ، يوم يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً حتى لا يُعذَب ، يوم الميزان والحساب والمحاسبة ، أنه يوم القيامة ، وكلنا لنا أيام قيامة تأتينا في موعدها كما أمر الله سبحانه وتعالى ، ودعونا نستذكر قوله تعالى في سورة النبأ (آية 40):‘‘ إنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابَاً قَرِيبَاً يَوْمَ يُنْظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابَاً ’’.
أمّا الموت الذي قد يملّ ويسأم ويكره ويتشائم البعض من ذكره ، فقد يجده بعضنا تَذكِرةً - وأذكّر نفسي وأهلي به- ، فالتفكر في الموت وحقيقتة وما بعده قد يخلع قلوب البعض ويعكّر صفو النفوس ، أمّا من مات قلبه وماتت أحاسيسه فلا يحرك ساكناً من مشاعرة ، فذاك – والله أعلم - ران على قلبه بسبب بعده عن الله تعالى وحبه للدنيا وأذيّة الناس من حوله والمسلمين بشكل عام .
رُويَّ أن أميرَ المؤمنين عمر بن الخطاب رضيَّ الله عنه قال لكعب الأحبار:[ حدثني بشيء من حديث الآخرة فقال: نعم يا أمير المؤمنين ، إذا كان يوم القيامة رُفِعَ اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلاّ وهو ينظر إلى أعماله مسطورة فيه ، ثمَ يُؤتَى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنتشر حول العرش فذلك قوله تعالى:‘‘ وَوُضِعَ الكِتَابُ فَترى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِيِنَ مِمَّا فِيهِ وَيقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مَالِ هّذا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وِلا كَبِيرَةً إلاَّ أحصَاهَا وَوَجَدُوأ مَا عَمِلُواْ حَاضِرَاً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَدَاً ’’ (سورة الكهف آية49) . ونذكّر بقول سيدنا عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه عن الكبيرة والصغيرة:( إن الكبيرة هي الضحكة وأن الصغيرة هي الابتسامة ) . وقال كعب الأحبار:[ ثمَّ يُدعى المؤمن فيُعطى كتابه بيمينه و‘‘ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيرَاً (8) وَيَنْقَلِبُ إلى أهْلِهِ مَسْرُورَاً (9)’’] (سورة الانشقاق) . نعم سنحاسب على الضحكة والابتسامة ، فما بال الحساب فينا إذا كان بعضُنا يحرض على قتل بعضِنا الآخر من المسلمين ، وذاك يضع دم هذا في رقبته ودم هذا في جيبه برصاص وسكين اعداء الأمّة . ولا ندري قد يكون ذاك البعض ممن يتمنون أن يكونوا تراباً يوم القيامة !! .
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:‘‘ المؤمن في قبره في روضة خضراء ويُفسَح له في قبره سبعون ذراعاً ، ويُنَوَّر له قبره كالقمر ليلة البدر ، أتدرون فيم أنزلت هذه الآية ‘‘ فَإنَّ لَهُ مَعيشَـةً ضَنْكَاً ’’ ؟ أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ، قال:‘‘ عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده إنه ليُسَلَّط عليه تسعة وتسعون تنيناً ، أتدرون ما التنين ؟ تسعة وتسعون حيَّة ، لكل حيَّة سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون ’’ ، ونعوذ بالله العظيم من ذلك ومن كل سوء .
إن الإيمان أمانة في رقبة المسلم ، ومن علامات النفاق نقض العهد والأمانة ، فمن ضيع امانته ضيّع إيمانه ، فلا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له . ومن الأمانة أمانة المجلس ، وأمانة الحديث واللسان والقلم ، وأمانة السمع ، وأمانة الرؤية ، وأمانة الأسرة ، وأمانة السر، وأمانة الدعوة والتبليغ ، وأمانة الرحم والقربى ، وأمانة الجيران ، وأمانة دماء المسلمين ، وامانة السلوك ، وأمانة اليد التي استطالت عند كثيرين فضيّعوها !، ضيّعوا امانتهم وضيّعوا أيديهم ، وما أكثر الأمانات التي حمّلها الله تعالى للجبال فأبّيْنَ وحملها الإنسان . وكلٌ عليه أن يعرض نفسه على تلك الأمانات ، فيدرك مقامه قي الدنيا والآخرة .
قد يكون الكُفْرُ كفراً خالصاً ، أو كفراً بالنعمة أو الأمانة ، أو كفراً بالقرابة والرحم ، أو الجيرة والمسلمين ، أو كفراً بأمانة البيع والشراء ، وما أكثر الأمانات !! ، وما أكثر من كفروا بها ، ومن كفر بكل هذا أيقن متأخراً عند رؤيته العذاب بأم عينه ، فأراد الرجعة للدنيا ليؤمن ويعمل الصالحات...آنذاك لا رجعة أبداً . والله تعالى وصف حال اولئك عند الحساب ، وذاك قوله تعالى في سورة السجدة:‘‘ وَلَوْ تَرَى إذْ المُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِم رَبَّنَا أبصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحَاً إنَّا مُوقِنُونَ(12)’’. ولكن هيهات .. لقد فات وقت هذا !! . ‘‘ وَتَرَى المُجْرِمِين يَوْمَئِذٍ مقرّنِينَ فِي الأصْفَادِ(49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطْرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ(50)’’ (سورة ابراهيم) كما قوله تعالى في سورة البقرة:‘‘ وَلَو تَرَى إذْ وُقِفُواْ علَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكّذِّب بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ(27)’’ .
أمّا المؤمنون فيقول الله تعالى فيهم:‘‘ إنَّ المتقِينَ فِي مَقَامٍ أمِينٍ(51)فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(52) يَلبَسُونَ مِن سُندُسِ وَاسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ(53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ(54) يَدعُونَ فٍهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ(55) لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلاَّ المَوْتَةً الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ(56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ(57)’’.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ‘‘ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي وقال : كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل’’ ، وكان بن عمر رضي الله عنهما يقول : [ إذا أمسيت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ] .
اللهم إنا نسألك وانت أكرم من سُئِل وأعظم من أعطى أن تتم علينا نعمة الهدى والأمانة والأمن والأمان ، أنك انت السميع العليم المجيب ، وأن تظلّنا بظلّك يوم لاظلَّ إلاَّ ظلّك بلطفك ورضاك ورحمتك وجودك وكرمك ، وأسألك يا الله أن تتغمد والديَّ وأحبتنا والمسلمين والمؤمنين ومن له حقٌ علينا برحمتك ومغفرتك ، وأن ترحم وتغفر في الدنيا والآخرة لمن كان سبباً في نشر هذه الرحمانيّات ، اللهمَّ آمين . وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا الحمد لله ربِّ العالمين .