لسانٌ عربيّ مُبين -مَنظُومة جَاءَ .
بقلم فتحي رَمَضَان الحَاجّ مُحَمَّد الأَغا .حقوقُ المِلكِيَّة الفِكْرِيَّة مَحفُوظةٌ للكَاتِب.
ورد الفعل "جاء" في البيان العالي متعديًا، يأخذ مفعولا به،ولازمًا لا يأخذ مفعولا به ويكتفي بفاعله،فمن المتعدي: {وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ }الأعراف113 {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ }الأنعام61{وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ }القمر41، ومن اللازم {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ }الذاريات26 {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }الفجر22 ،ورد الفعل "جاء" على صيغة الماضي النحويّ وقد تنوع فاعله-ترتيبا أو تأخيرا،ما بين الاسم الظاهر تعريفًا بأل أو بالإضافة أوتنكيرًا،مفردًا أوجمع تكسير-، وبين الضمير المتصل والضمير المستتر- كما تنوع مفعولها الظاهر -إن وُجد-وعلى ندرته مابين ترتيب وتقديم،أما ضمير النصب المتصل فقد ورد في محل نصب مفعول به.
الملحظ في هذه الصيغة أنها جميعها وردت في إطار الماضي النحويّ،مبنيًّا للمعلوم في غالبيته،بينما وردت مبنيةً للمجهول في آيتين مكّيَّتَين اثنَتَيْن : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } الزمر69{ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } الفجر23 ، ملحظ آخر هو أن الفعل "جاء"- بهذه الصيغة- ورد ضمن قرآن كريم مكيّ.
كما يلاحظ عدم ورود صيغة المضارع والأمر النحويّ في مادة"جاءَ"،وتبدو علاقتها بحروف الجر ذات وقع خاص،فهي تتعدى بالباء- جاء ب- لتُشكِّلَ كمًّا مثيرًا من هذه الصياغة الدقيقة {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }الأنعام160 ،{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }هود69 ،{وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }يوسف18، {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ }النمل.22
أمَّا الفعل " جَآؤُوكَ "،فهو خاص بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وقد استوفى مرفوعَه على الفاعلية" "واو الجماعة" ومنصوبه على المفعولية""كاف الخطاب" ،{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }النساء62 ، (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك)النساء،64 {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }المائدة42، { وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ }المجادلة8، وجميعها ضمن قرآن كريم مدنيّ، عدا واحدة مكية.
{ حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }الأنعام،25 ذلك أنَّ كل(أساطير الأولين)وردت ضمن قرآن كريم مكيّ،وكذلك القول في "جاءك"، { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ }المائدة48 { وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ }الأنعام34.
ولا يقتصر تعدي الفعل جاء وتصريفاته على الباء أو المفعولية،إنما يمتد ليتعدى لحروف أخرى ،فهو يتعدى باللام على نمط
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }الأعراف70
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }يونس78
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى }طه57
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }الأحقاف22.
والملحظ أنّ أفعال الجيئة هذه قد سُبقت بفعل القول الماضي قال-قالوا- وأنها صُدِّرت بهمزة الاستفهام -أجئتنا-بينما اقترنت اللام بأفعال المضارع النحوي،مما يدخلها في باب اللام التعليلية السببية،كما يُلاحظ أَنَّ فعل الجيئة ورد مُثبتا،بينما يرد الفعل إيَّاه منفيًّا بِ: ما النافية في:
{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ }يوسف73 مع مراعاة الفارق بين الخطاب في فعل الجيئة مُثبتًا،ومراعاة التكلم في فعل الجيئة منفيًّا،وعلى أيِّ حال فقد اقترنت اللام بمضارعٍ نحويّ:(لنفسد) شأنها شأن ما سبق،يُشار هنا إلى قوله تعالى: {وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }التوبة90 ،وقد اقترنت اللام بالمضارع النحويّ وبُنِيَ الفعل للمجهول بخلاف ما سبق ،هذا فضلا عن كون الآية الكريمة مدنيّة،بينما فيما سبق الآيات مكيّة واقترنت بالمضارع النحويّ المبنيّ للمعلوم،وفي قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ }الأعراف143.
والملحظ أن اللام اقترنت باسم وليس بفعل.أما الآية (فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا) الإسراء7 ،فالفاعل النحوي ل(جاءَ)هو "وعدُ الآخرة" بينما اقترنت اللام هنا-على غير المألوف-بثلاثة أفعال من المضارع النحويّ المنصرف إلى الاستقبال بدلالة إذا:لِيَسُوؤُواْ-وَلِيَدْخُلُواْ -وَلِيُتَبِّرُواْ،واتصل كل فعل من الأفعال بضمير الفاعلية إياه وهو "واو الجماعة"،وتعدى الفعلان للمفعول به(لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ) ،مَساءَة وجوهٍ،(وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ)ودخولُ مسجدٍ،(كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ)مثل دخولهم أول مرة.
لاحِظْ :"دخلوه" استوفى الفعل فاعله ومفعوله ،أما المضارع النحويّ الثالث المقترن بلام جاء((وَلِيُتَبِّرُواْ)...تَتْبِيرًا فقد أُطلق الفعل ولم يُقيَّد ،فأفاد توكيد عامله، مع ملحظ أنَّ "فعل التتبير" مكيّ وكذلك مشتقاته.
والحمد ُللهِ ربِّ العالَمِين.