جولة بغزة برفقة (مهنور ) /بقلم نائلة عزمى السقا !!.
مهنور ...صديقة عزيزة من الهند، كانت قد عاشت فى بيت اسرتى لمدة ثلاث سنوات متواصلة،تركتنا فى العام 1997 وها تعودإلى غزة الأبية ثانية. بعد قضائها شهرا فى رام الله في محاولة وإصرار منها للوصول إلى غزة كي تشاركنا هَـمّ الحصار أولاً ولتمارس من هنا كسره وتفتيته ثانياً.
نعم .. وأخيراً تمكنت ( مهنور ياركخان ) الصديقة الهندية المسلمة من الوصول إلى غزة ، فكان اللقاء حميماً مفعماً بأشواق دافئة بعد طول غياب.
لِمَ لا فلمهنور مكانة كبيرة وعظيمة في قلوبنا وخاصة عند والدتى التى أحبتها كما تحب الأم ابنتها ، ولن أبالغ في وصف محبة والدتي لها لو قلت ... بل وأكثرمن ابنتها.
هي تتحدث الانجليزية ، غير أنها تود وتتمنى لو تحدثت العربية مثلنا ، لذا فلقد أبرمنا اتفاقاً ( مزدوجاً )ينص على أن يكون حديثي لها بالانكليزية فتصحح لي ما قد أقع فيه من أخطاء على أن تجيبني هي باللغة العربية لأمارس معها دور المصحح اللغوي فأصحح لها ما قد تقع فيه من أخطاء، ولطالما استغرقنا بالضحك إذا ما كانت الترجمة مخالفة للواقع او مقلوبة المعنى !!.
لم يدر بخلدي لأول وهلة أن صديقتي ( مهنور ) تحب غزة كل هذا الحب ، فيما راح عن بالي كم من المشقة قد عانت في سبيل الوصول الينا لتتفقد غزة وتشارك أهلها أفراحهم وأشجانهم , حزن عميق قد لاحظته وقد ارتسم في عينيها لما رأته من أوضاع غزة ، وكم تألمت مهنور حينما وجدت غزة على غير طبيعتها التي عرفتها في زيارتها السابقة ، فلقد كانت كل مرافق الحياة في غزة غير طبيعية وغير منطقية ، حتى أنها تلمست كبر أطفال غزة المفاجئ واتساع مساحة أحزانهم مقارنة بأولئك الأطفال الذين تعاملت معهم من خلال عملها في جمعية الثقافة والفكر الحر ، أطفال كبروا فجأة وعلى حين
غِرّة بسبب ما تحملوه من هـَمّ وانعكاساً لما يشعرون به من ظلم قد انتاب أهلهم في وقت كانوا قد تناسوا تماماً براءة اللعب وقهقهات الطفولة البريئة لدى شعوب الأرض قاطبة ، فلقد أجبروا قسراً على نسيان مفردات اللعب واللهو برغم اشتياقهم له وحاجتهم اليه !!.
رددت مع نفسي وأنا أراقب دهشة مهنور وما يعتلي محياها من ألم وحسرة لما تراه ( هذه غزة اليوم وهؤلاء هم اطفال غزة يا مهنور ... فانقلي ما ترين بأمانة حيث تذهبين وأنى تكونين).
اليوم ...طلبت منى مهنور أن نزور معاً صديقاً لها من أهل المنطقة الوسطى كان قد زارها قبل سنة فى الهند لتطمئن عليه وتتفقد أحواله ، استحسنت الفكرة ولبيت طلبها ورافقتها
بصحبة ابنتى آيات ذات الستة عشر ربيعاً ، لم أكن قد قابلت من قبل ( جبر وشاح ) صديقها العزيز ذاك ، ولكننى سمعت عنه وعن أمه الكثير ، إنه رجل مناضل عاش بسجون الاحتلال 14 عاما، فاتفقت مع مهنور على موعد زيارة الصديق الذي ظننت في أول وهلة ان اسمه ( جابر ) تماماً كما لفظته هي ، اتصلنا به واتفقنا على موعد الزيارة .
تقود مهنور السيارة وتتحدث معى اثناء القيادة عن غزة وشوارعها المهدمة وعن الدراجات الهوائية المنتشرة فى كل مكان وكيف يقودها الشباب دون اتباع قواعد القيادة والمرور ودون حتى المحافظة على امنهم وسلامتهم ووضع خوذة على رؤسهم وصلنا النقطة المحددة شارع السويرحى هكذا يطلقون علية قابلنا جبر بسيارتة واعطانا اشارة لان نتابعة غير أنني وحالما رأيته عرفت أنه ( جبر ) ذاك الانسان الرائع الذي دعاني وجميع الإخوة الفلسطينيين حين كنا بسفرة في القاهرة استغرقت شهرين حجزنا فيها اثناء اغلاق معبر رفح فى العام 2005 حيث اعتذرت له حينها لضيق الوقت.
- اهلا استاذ جبر ...
بادرته بالتحية واسترسلت بالحديث .
- لم تقل لى مهنور ان اسم صديقها جبر ، فلقد نطقته ( جابر ) ولم يخطر ببالى أنه ( جبر ) .
عرفته بنفسي وبابنتي آيات ، فرحب بنا كثيرا ، رافقنا حيث تسكن عائلته ، فمررنا بطريق زراعى قريب من البحر ، واشجار العنب تلف المكان فيما امتزجت رائحة الفاكهة بنسيم أمواج البحر العليل التي كانت تتهادى فتتحرك وتتراقص الاشجار المثمرة وقطوف العنب المدلاة وكانها ثريات تتراقص هى الاخرى.
- اهلا بكم هذه شمة اخت جبر وهذه آمنة زوجته.
كم هما رقيقتان مهذبتان وخفيفتا الظل، أما شمة فهى راقية المشاعر والاحاسيس متعلمة ترى فى عينيها طموح المرأة الفلسطينية وطهارتها، فيما كانت أم جبر هذة السيدة الرائعة والتى أظهرت ترحيبا بنا ، كانت مشرقة والنور يبرق على جببنها.
بادرتني السيدة أم جبر بالتحية و قالت لى :
- اهلا نائلة ...سيكون لنا حديث طويل معاً ولكن ، لابد أن تمرى على المزرعة وتستنشقى عبير الازهار والورود الزكية بصحبة شمة اولا ، فيما سأنجز بعض المهام هنا ، سانتظركم هنا فى هذا المكان المظلل باوراق العنب.
سكتت برهة وأضافت قائلة :
- بالمناسبة ... هناك قرب مزرعتنا مكان أثرى جميل جدا اسمة (ام عامر ) بامكانك ان تمرى عليه أنت وضيفتك العزيزة .. لتشاهدى الاثار الرومانية القديمة .
فوجئت بهذه المعلومة التي أسمع بها لأول مرة رغم أنني من أهل غزة ، فلم اكن اعرف بهذا المكان من قبل ، ام عامر اين ؟؟ وفعلاً ذهبت بصحبة شمة ومهنور وايات حيث جبنا المزرعة مشياً على الأقدام وقطفنا من ثمارها الطيبة فيما كانت ( شمة ) تمارس مهنة الدليل السياحي حيث كانت تشرح لنا ،لم نحظ بوجود شمة ولن تواصل معنا المشوار للمكان الاثرى لقد استدعوها لقدوم ضيوف . بعدها خرجنا جميعاً من (المزرعة للحظات لنرى المكان الذى اشارت اليه السيدة الحاجة ام جبر.
انه مكان فسيح جدا اثرى به الاعمدة الاثرية ا والارضيات المرصعة ، كان هناك اطفال يلعبون ، وقفنا جنبهم وتحدثوا معنا ، شرحوا لنا القليل الذي يعرفونه عن المكان وما سمعوه من آبائهم، لكنهم كانوا بحاجة لمن يشرح لهم، انتابني حزن عميق وأسف لعدم وجود رعاية واهتمام لهذا المعلم الأثري الهام ؟؟، كم تمنيت ساعتها ان اصطحب بناتى رزان وديما لكى يريا بأم عينيهما تاريخ وآثار بلادنا ولتعرفا كم بلادنا غنية بكل شيء ، بالماضي والحاضر ، بالسماء والماء والأرض ...!!.
اثار تعود للعهد الرومانى لا حراس ولا مرشدين
كم تمنيت ان يكون هناك مرشد سياحي او على الاقل حارسا لاتحدث معه واساله بعض الاسئلة بدلاً من الاعتماد على ما يروية لنا أطفال صغار!!...
مررت بين الاثار والتقطت بعض الصور لمهنور وايات ... شارفت الشمس على المغيب ، فقررنا أن نننهى البحث فى ساحة هذا المكان الجميل(ام عامر ) عائدات إلى المزرعة حيث أم جبر تنتظرنا .
عدنا لنجد السيدة أم جبر تنتظرنا بفارغ من الصبر برفقة شمة وآمنة والسيد جبر حيث لم يتمكن هو الاخر من القدوم معنا لانشغالة بضيوفة ،
كم هى جميلةام جبر بروحها ، فما أن تراها حتى ترى المرأة الفلسطينية بكامل عنفوانها وعطائها وصمودها ، ترى الكرامة والصمود والطموح والكبرياء
، تحدثت ام جبر بشوق ولهفة عن رحلة نضالها وصمودها تحدثت عن اعتقال اولادها الاربع ومدى المعاناة التى لحقت للاسرة تحدثت هذة السيدة ذات السبعين عاماصاحبة الامنيات الكثيرة عن امنيتها فى اكمال دراستها ، امنيتها فى تعلم القيادة لتخرج وتزور اهالى الاسرى والمعتقلين باستمرار
تحدثت ام جبر .. بكل شموخ وكبرياء ووطنية كيف كانت تزور ابناءها الاربع المعتقلين فى سجون الاحتلال ، ثم عرجت بحديثها وراحت تسبح بنا في شريط ذكرياتها فأخبرتنا كيف تعرفت على سمير القنطار الذى كان يرافق جبر فى نفس السجن وكيف طمئنته بانها ستطلب فى كل زيارة لابنها جبران تزوره هو ايضا .
ثم حدثتنى ام جبر عن معاناتها وهى فى طريقها لزيارة جبر وسمير وكيف كان جنود الاحتلال يعذبونهم هى واهالى المعتقلين ويتركونهم فى البرد والحر ،
أحسست بحديث أم جبر
كم أنها كانت فخورة بما تفعله من اجل الانسانية ومن اجل ابنائها ،ومن اجل الوطن أسهبت في الحديث طويلاً عن الم ومحنة الانقسام وما وصلنا اليه وكيف آلت إليه أحوالنا رغم حقيقة أننا شعب الصمود والنضال والثورات ، وأكدت أننا بما نتمسك به من خلافات وتناحر فإنما نعطي الدليل على سذاجة تفكيرنا وقلة وعينا رغم أن الجميع يدرك بان هدفنا واحد يتمثل بتحرير الارض وأن عدونا واحد هو ( إسرائيل)!!.
تحدثت السيدة ام جبر بمرارة فائقة عن وضع مأساوى بات يحيطنا جراء ما يسعى اليه البعض إلى المناصب والكراسى وكيف ينفذون ( دون وعي ) منهجاً صهيونياً واضحاً ، بدت السيدة أم جبر حزينة أثناء حديثها ، فيما راحت عيناها تبرقان بقطرات دمع وهي ترمق بنظرها بين الفينة والفينة صوب ما يحيط بها من ذكريات أليمة أثقلت عليها صدرها وزادته أنيناً.
- انا فلسطينية وأكاد أجن حزناً لما آلت إليه أوضاعنا.
هكذا رددت أم جبر بحسرة وشجن...ثم استرسلت بالحديث وهي تتطلع في عيوننا لترى ردة فعلنا ومدى تجاوبنا وتفاعلنا مع ما تقول.
- اتمنى ان تعود فلسطين كسابق عهدها من الكرامة والنضال والوحدة ورص الصف.
كان الحديث مع ام جبر مشوقا وثرياً بعبق الذكريات الحلوة والأماني، تمنيت لو أن جهاز تسجيل كان برفقتي ساعتها لأسجل لها كل كلمة صادقة نطقت بها.
لم ندرك ( لروعة اللقاء ودفء المشاعر ) أن الوقت قد تأخر إلا ساعة أن اتصلت بنا ابنتي (ديما ) تسأل عنا وعن أسباب تأخرنا ، تمنيت لو أن الوقت يتمدد طولاً وعرضاً لنقتنص لحظات حلوة بالحديث مع السيدة أم جبر وذكرياتها وشجونها .
قمنا بمعية السيدة أم جبر حيث ودعتنا هاشة باشة وهي تلح علينا بتكرار الزيارة عن قريب ، وطلبت منى ان انام عندها تلك الليلة فطمئنتنى باننى ساكون فى حضنها انا بالفعل شعرت بحضنها الدافىء وحنانها الانهائى من خلال حديثى معها فيما كانت مهنور قد امتلأت سعادة وغبطة لتلك الزيارة العفوية ولحديث السيدة أم جبر الذي دخل قلبها دون ترجمة ، فلقد كانت عينا أم جبر وحركات يديها وقسمات وجهها كلها تعبر عما تحدثت به الينا
وما بين طموحات ام جبر وامالنا نبقى متضرعين داعين الله عز وجل ان يرفع عنا الهم والغم وان ينصرنا على اعدائنا .
يمامة فلسطين
نائلة عزمى السقا
[1] Hala Esaaf Ahmad Elbattah | جولة رائعة | 24-10-2009