بسم اللـه الرحمن الرحيم
ويبقـى لديكم قلبـي
15-05-2008
هل مـرّ عام ؟؟
ربما مَـر .. وربما لم يمُّـر .. وأظنـّه قد مر .. لكنه كان الأمـّـر ..
مـرّ عام ولا زلت أسمع صهيل أحزاني .. مـرّ عام وما بعدت عن القلب وما غاب طيفك عن الوجدان..
فـي الساعات الأولـى من الفجر تأتيني الذكرى،لتفجر الحنين والشوق إليك يـا ابراهيم.
ولست أدري ما سر تحرك المشاعر في هذا الوقت بالذات، ربمـا .. لأننـّي عندما عانقـَت عيناي الدنيا كان الوقت فجرا، أو ربما لاْن القلب في هذا الوقت يكون أكثر هدوءا وتكون النفس أكثر صفاء.
وحين أحس برغبة في الكتابة،وعندما أشعر بالشوق جارفا للقاء من أحب،انتبه لنفسي فإذا بـي أجد الوقت فجرا ..
نعم أنا في هذه اللحظة وفي هذا اليوم بالذات،أتألـم بمنتهى الصدق .. أعاني .. أحس ضعفا عاتيا يزلزلني،وبرغم مرور عام على فراقك،إلاّ أن هناك احساسا مريرا عنيفا يطاردني، واحساس بمرارة الوحدة وقسوة الفراق،وضراوة الألـم وسطوة الأشـواق.
آه ... يا للوعـة ... يا للـعذاب ...
كيف استطيع أن أصبر وأتصبر وأنا أعيش هذه المشاعر الشاملة لمعاني الألـم،والفـراق والبعاد،والأشواق.
ماذا أكتب في فجر هذا اليوم الحزين،ففي هذا اليوم أحزن مع الأهل في الوطن بفقدان الوطن، وأحزن وحدي على أخي حزنـا يوازي الحزن على الوطن.
وماذا أكتب! وبأي قلم من أقلام الأحزان أكتب،وماذا يستطيع القلم الحزين أن يكتب للقلب الحزين،للروح الحزينة!
حروف الكلمات تنحني،تتألم،كما انحنى ظهري،وكما أتألم أنا،فليس فراقك يا أخي كفراق أي شخص،فراقك لم يعد يتيح لـي أن أقول (أخ ) إذا ما أصابني ألم في البدن أو في الروح،
لم يعد الموت يخيفني ولا أنزعج لحدوثه، ربما اكتسبت مناعة من كثرة ما فقدت من الأحبة، وربما عامل الزمن والتقدم في العمر،واحساسي بأنني قد حققت بعضا من طموحاتي، ورغم ذلك فقد كان غيابك يا ابراهيم مؤلما وفجيعة كبرى.
أنا مؤمن إيمانا راسخا بأنّ الموت حق ويحق له أن يأتي بأمر اللـه في أية لحظة وفي
أي مكان،لكنني في لحظة ضعف أتساءل .. أما كان لهذا الحزن أن يتأخر قليلا حتى أهيـئ
في الأسبوع الماضي،التقيت أحد الأصدقاء القدامـى،سألني ما أخبار الأخ ابراهيم أما زال في الرياض؟
أطرقت صامتا للحظة،ثم قلت له: "انه في رياض غير الرياض"،نعم يا أخي،رأيتـك في روضة من رياض الأندلس،مع آل نعمـان،وكأنه كرومنا في الوطن؛كان ذلك في اليوم قبل الاخير من شهر مارس الماضي،حيث كنت في زيارة لمدينة الناضور المغربية، بدعوة كريمة من عائلة كريمة هي عائلة الرمـاش التي ربطتنا بهم قرابة نسب،وتقع مدينة الناضور في شمال المملكة المغربية،وهـي مدينة ساحلية على شاطيء المتوسط، ولأول مرة أعرف أن مدينة مليلية (المحتلة) لها حدودا برية مع مدينة الناضور،وأبديت رغبة فـي مشاهدة مدينة مليلية التي احتلها الأسبـان منذ عام 1497م،ولا زالت حتى يومنا هذا شاهدةً على الذل العربي،تماما كما في فلسطين،والاسكندرونة،وتطوع الأخ/ عبدالقادر الرماش،والأخ/ أحمد الرماش،فرافقونا إلى الحدود المصطنعة مع تلك المدينة المغربية الأسبـانية.
وقفت على ربوة تطل على مليلية ورأيت السلك الذي يفصلها عن الناضور،ومع نسمات البحرالقادمة من ريـاض الأنـدلس،وحقولها المحملة بكبرياء وشموخ تاريخ المسلمين حتى إذا عبرت البحر لتلتقي بحقول مليليه،ولامست أزهار اللوز فيها، شممت رائحة الوطن.
الحقل الذي أمامي كأنه كرومنا في الوطن،حيث أشجار اللـوز والبرقوق، وبينما ابحث عن شجرة التوت التي كانت تظلنّا جميعا،وبرميل الماء الملاصق لجذعها،لمحت في ركن قصي الفرن الذي كانت تتناوب عليه أمهاتنا لخبز ما طاب من الخبز المحنى، وبالقرب كانت الحمارة الأصيلة التي كانت تحمل لنا الماء من بيارة أبو هولي،والكلب الوفي باسط ذراعية تحت ظلال شجرة التين التي كانت تأوي البلابل ليلا،حتى إذا ما توارى الليل وأذن للفجر بالولوج،قامت البلابل تعانق ثمار التين على أنغام وموسيقى البلابل نفسها.
أعادتني الذكريات إلى باكورة شبابي حيث كنا نقضي الصيف جميعا مع الجد والجدة، والأعمام رحمهم اللـه جميعا،الشجر نفس الشجر،والهواء نفس الهواء،ورائحة الفجر، وصفاء الماء،وبينما جدنا يتصدر( الشـّق) وأمامه (المنقل) العتيد،وبكرج القهوة الخالدية المميزة،وأولاده الأربعة يحيطون بـه،يرى بعيونهم ما تعجز عن رؤيته عيناه، وتلك العجوز(بشاشتها) البيضاء كأنها جدتي (أم قاسم) تشرف على نثر الحبوب للدجاج الذي أصبح يألفها ويعرفها،فما أن تحمل وعاء الحبوب حتى يتنادى الدجاج ويقفون في حلقة حولها ينتقون حبات القمح التي كانت تنثره هنا وهناك،وما أن تنتهي تتوجه إلـى (قدرة)، فتلتقط منها بعض قطع الجبنة المعتقة وهي الطبق الرئيسي في قائمة الفطور اليومي مع قليل من زيت الزيتون والدقة والدقة (الأولى بفتح الدال والثانية برفعها) التي كانت تقدم للجد ومن يكون متواجدا معه في (الشق)،أما نحن الصغار في ذلك الزمان،فقد كان كل منا يتجه إلى حصته من الحقل (نقرقر)،وما أظنك يا أخي نسيت القرقرة،والقرقرة لمن فاتهم الزمن الجميل في أبسط المعاني،هو البحث في محيط شجرة اللوز عن حبات لوز متناثرة هنا أو هناك،تتبقى بعد عملية جمع المحصول،وفي هذه الحالة يكون ما نجده ملكا خالصا لنا،قل أو كثر،ولا زلت أذكر كيف كنت أدفن بعض حبات اللوز أثناء جمعه،حتى اذا جاء موعد القرقرة،أخرج ما دفنت وما جمعت، وكان نصيبي دائما أكثر من الجميع،وحدث أن اكتشفت حيلتي،ولكنك لم تبلغ عني،لا تشجيعا لي ولكن خوفا عليّ من العقاب،بـل انك كثيرا ما كنت تعطيني ما جمعته،فأقوم أنا بتوريده الى ملاحي،ونايف شبير _ رحمهم اللـه_،وهذا الدخل هو ما شجعني على تقليد الرجال ومن يكبروني سنا في شراء السجايرالتي أدمنتها،وحاولت وأحاول دائما التخلص منها بعدما ثبت ضررها علميا ودينيا،وأسأل اللـه العفو والعافية.
وفي المساء كانت تجمعنا العريشة التي ما كنا نقصدها الا عند النوم،هذه سميرة ببراءة الطفولة،والتي كانت أول حسرة شربتها نفسي،والتصقت في قلبي،ولا زلت أحتفظ بساعة كنت سأرسلها لها لكن ساعتها كانت أقرب،وهذه الوالدة التي أسكتت قلبها سكتة في ليلة جمعة،وهذا الوالد الذي كان يوزع علينا نصا ئحه ،وضن بها على نفسه،لنصبح أيتام الأم والأب،وهذه زكية تماما كما رأيتها آخر مرة في الغرفة رقم (9) بمستشفى راشد في دبي،كأنها كانت تتحدى الموت بوجهها المنير،وابتسامتها التي لم تفارقها، وكأنها كانت تعرف أنها ستلاقي والديها،وأختها.
وأما أنت يا ابراهيم،فقد رأيتك تجلس بينهم مبتسما،تحنو على زكية وسميرة وتقبل أيادي الوالد والوالدة،إن مجرد رؤيتك مبتسما تخفف عنا وطأة الشوق وألم الفراق،
وعندما بدأت أفيق،وقبل أن تغادروا الكروم،وحين أذن الفجر بالرحيل،اتفقت معكم أنني سأترك معكم أغلى ما عندي،وسأدع لديكم أمانـة قلبي .. حتى يحين اللقاء،دارت في مخيلتي هذه الأحداث،وأنـا أشاهد السلك الذي يفصل بين الناضور،ومليلية،وذكرنـّي بالأسلاك التي تفصل بين مدننا وباقي مدن فلسطين والتي يسيطر عليها اليهود،أسلوب المحتل واحد،لكنني عجبت من أسلوب الاستعمار الاسبـانيي،فكان يجب أن يكون أقل قسوة من الاستعمار اليهودي،والانجليزي،والفرنسي،والايطالي،ثمانية قرون ونحن نبني ونعلم وننشر الحضارة والعلم والعدل،أقمنا المساجد التي لا زالت شاهدة على فن العمارة بالطابع الإسلامي،وكانت روح التسامح غالبة على كل تصرفاتنا فكانت أصوات المـآذن تعانق أجراس الكنائس،مجتمع لم تشهده أوروبا على مـّر التاريخ،ويتلبسني الخجل والعار كلما طاف في الذاكرة الابطال الاشاوس مثل موسى بن نصير،وطارق بن زياد،ولا مجال للمقارنة بين من صنعوا المجد وبين من ضيعوه.
كم من الهموم يمكن لهذا القلب أن يحتمل ؟؟
حينما غادرت الدوحة كان القلب مفعما بجرحي الشخصي وبجراحات فلسطين، والعراق ولبنـان،ويبدو أنني سأعود إلى الدوحة بجرح جديد هو جرح مليلية،وسبتة
لكن الجرح الاْكثر ايلاما،وأشد قسوة هو ما حدث يوم الثالث عشر من شهر يونيو الماضي،ففي ظهر ذلك اليوم المشئوم،بينما كان محمود احمد خالد الأغا، على سطح منزله،اخترقت رصاصة غادرة عنقه فأردته شهيدا،قالوا .. أنهـّا كانت طائشة،ولم تكن كذلك،لـكن العقول التي دبرتها ونفذتها هي الطائشة.
أمسكت القلم لأكتب معزيا،وسألت نفسي،لمن العزاء اليوم؟ أأبـدأ بالاْم المكلومة؟ أم بالزوجة الحزينة؟أم بـأطفال جاءهم الحزن بلا استئذان؟ أم إلـى أخوة وأقـارب وأصدقاء؟ أم لكل أفراد عائلة الأغا؟ أم إلـى أهــالي خـــان يونس؟ أم إلـى أهـالي قطاع غزة؟ أم إلـى كل فلسطين؟.
وما تجدي كلمات العزاء في حادث كارثي كهذا؟!
ان الرصاصة الحاقدة لم تخترق عنقك وحدك،إنمـّـا اخترقت قلب كل فلسطيني في الداخل والخارج،اخترقت ومزقت آمال شعب بأكمله،ليس وحدك من فقدنا يا محمود، فالذين فقدهم شعبنـا كثر،وبفقدكم فقدنـا الثقة وفقدنا الإحترام،وفقدنا تعاطف الأخـوة العرب،والأخوة المسلمون،والأخوة الأوروبيون،وفقدنا الطريق الذي رسمه الشهداء على مر السنين من أجل التحرير،التحرير الكامل لكل فلسطين،فلسطين التي نعرفها، وليس فلسطين أوسلو وأخواتهـا،الطريق الذي يجب أن يتجه اليه كل مناضل،وليس تحرير غزة للمرة الثانية،أو الثالثة، صدقا .. أنا لا أعرف كم مرة حررت غزة، أعرف فقط المرة الأولـى التي حررتها اتفاقية أوسلو،ثم حررها لنا طيب الذكر شارون ثم حررت أخيرا يوم 13/6/2007م.
من حرر؟؟ ومن تحرر؟؟ ومن حرر من ؟؟؟
من نحن ومن نكون؟؟ وهل هؤلاء الصيد الذين يقتلون وينحرون بعضهم بعضا هم من قومي؟! هل هم من الشعب الفلسطيني الذي به نفخر ونعتز ونزهو؟
لقد كنا مضرب المثل في البطولة والفداء،فأمسينا وبشهادة الفضائيات المفتوحة، والأهواء المفضوحة،مجموعة من الرعاع،نقتل،ونسحل وننهب،وننتهك بيوت بعضنا بعضا.
أنا لا أصدق،ولا أستطيع أن أصدق بأن فلسطينـيا تربى على عقيدة الجهاد،يمكن أن يفعل ما رأيناه على شاشات التلفزة،ترى من دس في طيب هذه الارض هذا الخبث؟
مصيبة وفجيعة وكارثة،لا قبل ولا بعد،ولا زال باب العزاء مفتوحاً ... وما بادر أحد لقفل هذا الباب،ويبدو أنه لن يقفل الا بالحوار،والحوار ممنوع،لإن اصحاب الباب لا قفل يملكون،ولا مفتاح.
وبعد ...
يـا خــان يونس .. عندما أفكر فـي شئوني الصغيرة،تكونين أنت شئوني،وعندما أحلم بالدنيـا الجميلة،تكونين أنت حلمي،وعندما أكتب قصيدة تكونين أحلى القصائد،وكلما فكرت في الموت القادم،تمنيت لـي قبرا فيكِ، متى ... استطيع حمل أمتعتي وأوراقي،وأقلامي وكتبي،وأرحل إليكِ حاملا رفات الأحبة في قلبـي؟ ... متــى ؟؟!
سلام عليك يا أخي، سلام عليك يا ابراهيم،
في الذكرى الاْولى لرحيلك.
يونس عبـد نعمـان الأغـا.
جسورة
الدوحة : 15/5/2008م
*********
______________________________________________-
(1) عام على وفاة أخي ابراهيم