يس الشريف: يا ذا الأف مأثرة
بقلم الدكتور/ يحيى زكريا الأغا
المستشار الثقافي
لسفارة دولة فلسطين- قطر
قال الشاعر
" إذا ما مات في الدنيا " شريف" تظل فعاله شهداً مذابا
إلى قمم الخلد" ابا أسامة" فأنت خير َمن نزل الرحابا
التاريخ يُسجل شهادة ميلاد لكل مولود، وبالمقابل شهادة وفاة لكل متوفٍ، ولكن الشهداء لا تُسجل لهم هذه الشهادة، لأنهم خالدون بأعمالهم، ومناقبهم، وإخلاصهم،
وشرفهم، وتضحياتهم، وتلك صفات يتحلى بها ابا اسامة، ذلك الإنسان الذي عاش الحياة ببساطة، وخرج منها إلى الدار الإخرة بنفس الطريقة.
احتضنته إرض الرسالات مولوداً، وأرض الكنانة طالباً، وتونس الخضراء، ودول الخليج سياسياً ودبلوماسيا، وعمّان شهيداً، فسلام عليك اينما حللت ونزلت، وسلام عليك في مثواك الأخير.
يمتد أبو أسامة بعمره لسبعين منارة، أضاء بها دروب الحياة، ليهتدي بها الأخرون، ويسير على نهجها الأتقياء الصالحون، هو عاشق للوطن فلسطين، يهفو إليه قلبه كلما ابتعد عنه، فيتمدد له ليحتضنه، ويتمدد هو فوق الوطن، ليعانق ترابها، ويذوب في هواها، فيتحول جزءاً من هذه الأرض المباركة.
رجل متفائل رغم الأزمات، قوي لا يلين عند الحق، يتحدى بإيمانه وثتبات مبدأه كل الصعاب التي كانت تواجهه منذ أن كان طالباً وإلى أن فارقنا، يؤمن دوماً بأن الحق سينتصر، ولابد من نهاية لكل ظالم.
لا يحب المتسلقين الذين يفضلون مصالحهم الشخصية على الذاتية، يؤمن بأن فلسطين هي الهدف والوسيلة، وهي البداية والنهاية، ولا مكان من قريب أو بعيد لأولئك الذين يفتحون شهيتهم لسلب خيرات الوطن، أو الساعين لمناصب ليسوا أهلا لها كما كان يقول لي، وكم كان يؤرقه الرجل غير المناسب في العمل.
إن مسيرة حياة الشهيد مضيئة وعطرة، شهد له كل من تعامل معه، بهمته العالية، وأخلاقه الرفيعة، ورحابة صدره، وسعة أفقه، وحضور في الذهن متميز، فنال تقدير واحترام كل من تعامل معه، أواقترب منه، فأصبح منهجه سلوكاً يقتدي به الأخرين، وابجدية يسير عليها كل من أراد أن يتعلم معنى الإخلاص في العمل، والتضحية والوفاء والوطنية والالزام.
رجل ودود، لم يطرق بابه أحد وانكسر، بل كان يجد عنده الوسيلة بعد الله، وهكذا كسب احترام الجالية الفلسطينية، واحترام كل المتعاملين معه.
أبو أسامة سياسي بارز، يُسجّل حضوراً في كل المناسبات الوطنية والدينية، والاقتصادية، ومثقف متميز، مشارك في العديد من اللقاءات الثقافية المختلفة، ومحاضر مقنع، ومحاور جيد، أسهم بشكل فاعل في جميع الندوات التي أقيمت بدولة قطر، معتبراً حضوره هو حضور لفلسطين، وهكذا تعلمت منه.
ارتبط بعلاقات وثيقة مع العديد من الشخصيات الثقافية والأدبية الخليجية والعربية والإسلامية، وساهم بشكل فاعل في إثراء الحركة الثقافية، وتفاعل مع كافة الشرائح الفكرية المختلفة، وأظهر قدرة عالية على التواصل المنهجي والعلمي والفكري مع الجميع.
لم يكن بعيداً عن القيادة الفلسطينية، حيث التقى جميع القادة السياسيين والعسكريين بحكم عمله، وله بصمات واضحة تُذكر فتحمد، وتلك أخلاق الرجال، كما كان له أوثق العلاقات مع الأخ الرئيس / ياسر عرفات منذ أن كان طالباً وحتى اليوم، وفي تقديري أن هذه العلاقة كانت تسمو على المصالح الشخصية التي يتعامل اليوم معها كثر من الأنام، وبإذن الله سيتولى أبناء المرحوم إصدار كتاب يجمع الرسائل المتبادلة بين الأخ الرئيس وشخصه، وهذا ما كان قد قاله لي قبل وفاته بأقل من شهر، متمنياً على أبناء الفقيد، أن أقدّم لهذا الكتاب، للعلاقة المتميزة والخصوصية التي تربطني به.
عندما استقر به المقام بدولة قطر، استشعر أنها صفحة بيضاء ستملؤها ذاكرة الزمن الفلسطيني بمداد من ذهب، وهي كذلك، فانطلق مستنداً لهذا المبدأ، ووثق علاقاته مع الجميع منذ أن كان معتمداً لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية، إلى أن اصبح سفيراً، وومثلاً للسلطة الوطنية الفلسطنية، واصبح مكتب فلسطين في الدوحة من انشط وافضل المكاتب كما كان يقول الرئيس ياسر عرفات، وجميع من حضر لدولة قطر، فاستند في علاقاته وتعاملاته مع القيادة القطرية بالاحترام المتبادل، وبنى علاقات، ووثق صلات، وفتح بوابة من التعاون الوثيق مع الجميع، وارتبط بعلاقات خاصة مع حضرة صاحب السمو الأمير/ الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وجميع رجالات الدولة، فانعكس ذلك إيجاباً على الشعب الفلسطيني والجالية الفلسطينية، التي مازالت تحظى بكل التقدير من الجميع.
وإذا كانت علاقاته مع الدولة تبدا من وزارة الخارجية القطرية، فقد حظي باحترام خاص من الجميع، وارتبط بعلاقات متميزة مع المسؤولين بالخارجية، وعلى رأسهم سعادة وزير الخارجية.
كانت السفارة بالنسبة له الرئة التي يتنفس بها مع أبناء الجالية الفلسطينية، فقد التقى شخصيات متميزة، وفريدة ستبقى عنواناً للعمل الوطني، وهم كثر، ساهموا بشكل مباشر في كثير من المناسبات الوطنية والإنسانية والاجتماعية والتعليمية، فقد كانوا جميعاً يتنافسون لعمل الخير.
أما نحن العاملين بالسفارة، فقد فقدنا ركيزة مهمة من ركائز العمل اليومي، كان- رحمه الله- أكثر قرباً منا، يلتقي بنا، ويناقشنا، ويحاورنا، ويأخذ براي الأصوب، كان ديموقراطياً، ومجدداً وعصرياً، أحبه الجميع، وتعاون معه بكل تمايز، يدعوننا لخدمة ابناء الجالية بكل السبل، وعدم غلق الأبواب امامهم، لأن عملنا بالسفارة يرتكز على خدمة الجالية الفلسطنية، والتعاون مع الدولة في كافة المناحين لم نشعر معه ابدا بأنه يتعامل معنا بسلطوية، لأنه مكتمل الشخصية الذاتية والتعليمية والأخلاقية والمهنية، وهكذا كان مع الجميع.
انطلقت المدرسة الفلسطنية برعايته، واسهم بشكل مباشر في رؤيتها للنور، وستبقى
هذه المدرسة إضافة جديدة لعمله الوطني خارج الوطن، وستفتقده المدرسة كثيراً، لكنها ستبقى حافظة لمبادئه، وتعاليمة التي رسخها بين أبنائه الطلاب والطالبات.
وإذا كان من حسرة تغمرني في هذه الأيام، فإن فقده والفراغ الذي تركه في نفسي كبير، ولكن ما يُخفف عني ذلك، أنني سابقى وفياً لهذا الإنسان الذي فضلني على كثير من الشباب للعمل بالسفارة قبل أربع سنوات، فجاءت تلبيتي لرغبته، نابعة من احترامي له، مؤثراً الوطن على المال، فوجدت فيه إنسانية متكاملة، ورجولة فاضلة، وقيم نبيلة تستند إلى الدين في التعامل، فاكتسبت منه حكمة العظماء، واتزان العقلاء، وعلم الأدباء، ومنهج الأوفياء، وذكاء الأمراء، وأخلاقاً من الأنبياء، وذلك هو ابو اسامة في حياته، وسيبقى منهجاً لي بعد فراقه.
هنيئاً لك ابا اسامة، وهنيئاً لك لأن سيرتك ستبقى خالدة، وأبناؤك الأفياء سيحفظون لك هذه المكانة العالية.
أختم فاقول
ستظل نبراساً يُغطي نوره " بيت الشريف" وأحبتك الأخيار