مقالات

رسالة إلى ياسر عرفات

 

سيشهد التاريخ بأن الرئيس / ياسر عرفات رائد فلسفة نضالية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر،يمتلك قدرات فكرية متميزة، وقيادة عسكرية رائدة، ودبلوماسية سياسية متزنة، وشعبية فلسطينية كبيرة، استند إليها في جميع المحافل العربية والدولية.

استطاع أن يُحوّل قضية فلسطين التي تمتد جذورها إلى قرن من الزمان إلى أهم قضية على الساحة العربية والدولية ، فتحوّلت قصائد الثأر، وأناشيد العودة، وأنات الثكالى، وأوجاع وذكريات الهجرة، إلى رصاصات تدوي في أنحاء مختلفة من الوطن، مستنداً إلى ذلك الطفل الفلسطيني أمثال فارس عودة الذي يمسك حجراً بيد، ومفتاح بيت جدّه في اللد وحيفا وعكا وصفد، في اليد الأخرى.

انتصر لأطفال فلسطين، وأرض فلسطين، وشعب فلسطين، وللقضية عبر محطات مختلفة من العالم، ليس عبر المادة اليومية في الصحف المحلية، والنشرات الإخبارية، فحسب، بل من اعتبارها القضية المركزية في الصراع العربي الإسرائيلي، وأصبحت أوروبا وأمريكيا وحتى المواطن العادي في أنحاء المعمورة يعرف عن فلسطين ومدنها وقراها أكثر مما يعرفه عن بعض مدنه.

عرفات كإنسان سهل ممتنع، وشخصية متميزة لها العديد من المواصفات يصعب الدخول إلى كنهها أحياناً، وأحياناً يكون أكثر وضوحاً وخاصة عندما يتعلق الأمر بمصير الشعب الذي يلتف حوله كلما اشتدت الأزمات، ليس لأنه ياسر عرفات فقط، بل لأنه المحافظ على قضية شعبه.

إن الأحداث تثبت يومياً، سلامة المنهج الذي اختطه مع رفقاء الدرب، الذين استشهد عدد منهم، والآخر مازال معه، وخاصة ممن تحمّلوا عبء المسؤولية منذ الانطلاقة، فلم يحد عن مبدأٍ قطعه على نفسه، ولم يتنازل عن حق شعبه في العودة إليه مهما بلغت التضحيات، ولم يوقع على مسودة تنازل عن المقدسات رغم الضغوطات والإغراءات، وقال: لن يُسجل التاريخ أنني تنازلت عن المقدسات الإسلامية والمسيحية.

لا ننكر بأن اختلافات شتى عبر المؤسسة الأم( منظمة التحرير الفلسطينية) برزت على الساحة الفلسطنية مع رفقاء الدرب من أجل الوطن، وهو طرف فيها، ولكن كان فكره الأكثر غلبة وإقناعاً، ليس لأنه يمتك سلطة سياسية أو عسكرية أو أمنية، بل لأن الحقائق تثبت ذلك.

ياسر عرفات لم يُستفز بتحرشات سياسية، أو لغة إعلامية، أو ضغوط سياسية، صادرة من القريب أو البعيد، أو تهديدات عسكرية، وبقي صامداً، ثابتاً، بتأييد شعبي ليس له نظير، وسيبقى هكذا إلى أن تتحقق بإذن الله الوعود التي قطها على نفسه، بأن طفلاً أو زهرة سترفع علم فلسطين على مآذن القدس وكنائسها.

تجاوز بدبلوماسيته الهادئة، وبسمته التي لم تغادر وجنتيه حتى في الأزمات، كل التهديدات النفسية والجسدية، بل وكان أكثر إشراقاً يوم قال: شهيداً ، شهيداً، شهيدا، هذه هي القيادة وقت الأزمات، وهذا هو النصر لحظة الشهادة، فإما نصر أو شهادة.

نقل قضية فلسطين إلى خارج حدود المكان لتخترق جدران (البيت الأبيض، وول ستريت، وقصر الإليزيه) بل وسيبقى يشهد له التاريخ بأن هيئة الأمم المتحدة انتقلت من مقرها الدائم في نيويورك إلى جينيف لتستمع إلى خطابه الشهير، وتلك هي القيادة بكل أبجديتها.

لم يكن الرئيس في يوم خارجاً عن السرب العربي والإسلامي، بل كان من أكثر الزعامات العربية حضوراً، مشاركاً ومؤثراً، مع حرصه الشديد على عدم حدوث خلل في البنية العربية، لأن هذا ينعكس سلباً على القضية الفلسطينية.

بصيرة حادة، وثورية رائدة، وقدرة على امتلاك زمام المبادرة، وبوصلة من صناعة فلسطينية أسهمت في بناء جسور متينة من الثقة بين الشعب وقائدهم، حتى أضحى رمزاً من رموز فلسطين، بل وتجاوزت رمزيته حدود الوطن إلى العالم بأسره، ليصبح الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه أو القفز عنه، حتى الدول التي تحاول أو حاولت القفز عنه تعلم بأن ياسر عرفات صمّام الأمام للشعب الفلسطيني، وهو القادر على بناء جسور السلام مع دول العالم بأسره.

خاض المعارك السياسية والعسكرية، من أجل القضية، وأنقذها من غيابات الجب في العقد الأخير، لتنطلق الانتفاضة الأولى بكل زخمها النضالي، وتتأسس عليها الحلول التي كان يرفضها الاحتلال الإسرائيلي منذ زمن، ولكن رغم ارتفاع غصن الزيتون، فإن الرصاصة ما زالت في جيبه.

ياسر عرفات رجل في قامة الدولة، ودولة في قامة الرجل، عندما ينتصر فلشعبه، وعندما ينهزم فلنفسه، وتلك سمات القائد الأعظم كما فعل الخالد جمال عبد الناصر بعد حرب 67.

إن المحاولات المتعددة لطمس الهوية الفلسطينية من خلال حصاره الأسطوري يمثل لنا تاجاً، ويمثل له برهاناً على الصمود والتحدي والمواجهة من أجل الوطن، وهل هناك أغلى من الوطن.

يا أبا عمّار، إن بحر غزة الذي لامست مياهه أخذ يحن إليك، فهل من عودة ميمونة إليه؟

يا أبا عمّار إن شوارع الوطن كلّه يشتكي من ألم الفراق، فهل أرويت عطشه ؟

إن المستقبل باسم، وشعبك الذي يتطلع إليك، يأمل منك الكثير من أجل مستقبل الأطفال، فهناك رجالك الصالحون الشرفاء ينتظرون اللحظة لبناء هذا الصرح من أجل الوطن أولاً وأخيراً، وأنت قادر على فرزهم بكل أمانة وموضوعية.

إن الوطن يحتاج إلى الرجل المناسب في المكان المناسب، حتى تستقيم مؤسسات الدولة المقبلة بكل توجهاتها.

إن الوطن يحتاج إلى المتعلمين والمثقفين ليتقلدوا المناصب التي تتناسب مع قدراتهم ومؤهلاتهم حتى نتجاوز مآسي البطالة التي تؤثر سلباً في بنية الوطن.

إن الوطن يحتاج إلى التمثيل الأمين في المحافل الرسمية، والعربية والدولية، حتى تتلاقى الأفكار، وتتضح الرؤى، وتُبنى المصالح.

إن الوطن في حاجة إلى الكوادر البنّاءة القادرة على التوازي علمياً مع دول العالم كي يتحقق لهذا الوطن ذاتيته ومكانته بين الدول.

الوطن يحتاج إلى دستور دائم قادر على تجاوز سلبيات الحاضر، وبناء جسورٍ للمستقبل.

الوطن يحتاج إلى منح قدامى الموظفين في الداخل والخارج أوسمة معنوية ومادية، ليحل محلها كوادر أكثر فاعلية.

الوطن يحتاج إلى الديمقراطية السليمة التي وضعت أساسها في أول انتخابات تشريعية.

الوطن يحتاج إلى البدء في انتخامات شاملة حتى تتحقق للمواطن الحريات المفقودة.

الوطن يحتاج إلى الأمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي حتى يتحقق للشعب ما كان يحلم به.

إن الشعب الفلسطيني من رفح وحتى جنين، يتطلع لإعادة هيكلة وتجديد لكل المؤسسات التي أنشئت في مرحلة من مراحل النضال، لأن الوطن يحتاج في هذه المرحلة إلى هذا البناء.

إن الشعب الفلسطيني يريد أن يرى المؤسسات التعليمية المختلفة وقد حققت قفزات نوعية بعيدة عن التسيس حتى تستقيم أمور المدارس والجامعات، وتزدهر الحركة التعليمية كما يجب أن تكون.

تحية لكل مَن أسهم في بناء الوطن، أو حاول سواءً على المستوى الفردي أو الجماعي أو القيادي، وتحية لكل الشهداء الأبرار

لك تحية، ولكل المناضلين الذين رووا أرض الوطن، والأوطان الأخرى بدمائهم من أجل الوطن.
 

اضغط هنا للتواصل أو التعرف على السفير يحيى زكريا إسعيد حمدان الأغا

يمكنك تلقي أحدث الأخبار أول بأول بانضمامك لإحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالعائلة من خلال الضغط هنـا

اظهر المزيد